فؤاد العروي وهدية الرحلة 714
المصطفى اجماهري
بعد فراق دام 53 عاما تسلم الروائي فؤاد العروي بالجديدة يوم السبت 25 يونيو 2022 من صديقيه الكاتب المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي، هدية عيد ميلاده، ألبوم مغامرات تانتان الموسوم بعنوان : “الرحلة 714 إلى سيدني”. كان ذلك بمناسبة انعقاد لقاء نهاية الموسم الثقافي الذي نظمته مكتبة باريس بالجديدة في محور “رفقة فؤاد العروي، ذكريات الطفولة والشباب” والذي حضره فؤاد العروي شخصيا بالإضافة إلى أفراد من عائلته وثلة من المهتمين والمتابعين مغاربة وأجانب.
ويرجع أصل الحكاية إلى أن الثلاثي المذكور كان في سن الطفولة والمراهقة شغوفا بقراءة وتبادل المجلات الفرنسية المصورة مثل بليك، تانتان وأستريكس. كان فؤاد العروي يدرس بالمدرسة الابتدائية الفرنسية جان شاركو بالجديدة بينما درس المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي، وهما أكبر منه سنا بحوالي خمس سنوات، بإعدادية للتعليم العمومي بنفس المدينة. وحين اقترب موعد 12 غشت 1969، الذي وافق عيد الميلاد الحادي عشر لفؤاد العروي ارتأى صديقاه بيداقي واجماهري مفاجأته بهدية رمزية. ولم يطل تفكيرهما طويلا فلم يكن هناك أحسن، بالنسبة له، من ألبوم جميل وملون من مغامرات تانتان. وقتها كان الألبوم الثاني والعشرون حديث العهد بالصدور تحت عنوان “الرحلة 714 إلى سيدني” ففكرا في اقتنائه وتقديمه هدية له اعترافا بمساعدته لهما على فهم وشرح كلمات اللغة الفرنسية والتدرب على المحادثة بذات اللغة.
كانت السيدة جرمين دو بيازو، زوجة المهندس المعماري دو بيازو، تملك وتدير مكتبة عصرية معروفة بشارع محمد الرافعي. التجأ إليها صديقا فؤاد العروي وسألاها عن سعر الألبوم فأخبرتهما أنه يقترب من الثلاثين درهما. ولما لم يكونا يملكان المبلغ فقد قررا جمعه على مراحل. كان بيداقي واجماهري يقطنان بالضاحية القروية للمدينة في ما كان يسمى وقتها “طريق المطار” قبل أن يمتد أخطبوط الإسمنت إليها بل ويتجاوزها في ما بعد. ولما كانا ينحدران من أسرتين متواضعتين فقد راحا يجمعان المبلغ ريالا ريالا. باعا، من أجل ذلك، جرائد قديمة ودفاتر انتهت صلاحيتها، ومتلاشيات ألمنيوم، كما باعا زجاجات فارغة خلفها في خلاء الضاحية سكارى أسخياء. ورغم كل ما باعاه فلم يتمكنا من جمع المبلغ المطلوب، حتى حل موعد عيد الميلاد دون أن ينجحا في توفير ثمن الكتاب. فقررا عدم إخبار فؤاد بشيء.
كانت شلتهما تضم حينها أربعة مراهقين : فؤاد العروي، تييري مونوز، مبارك بيداقي والمصطفى اجماهري. الأولان يدرسان في مدرسة البعثة الفرنسية بحي البلاطو، والآخران في التعليم العمومي. ومن غريب الأشياء أن أصغرهم سنا فؤاد العروي، ابن العشر سنوات كان قائد المجموعة، مما جعلهم يطلقون عليها تفكها “الإخوة دالتون”، وهو عنوان سلسلة مشهورة من الحكايات المصورة. في هذه السلسلة، دالتون الأصغر المسمى جو كان الرأس المفكر لرباعي العصابة. إلا أن مجموعة فؤاد العروي، على خلاف الإخوة دالتون، كانت تكتفي بسرقة الكلمات ليس إلا.
في السنة الموالية 1970 التحق فؤاد العروي بثانوية ليوطي بالدار البيضاء مستفيدا من المنحة الوحيدة التي استحقها عن جدارة وبلا منازع. كان الطفل نابغة وكان زملاؤه الفرنسيون يحترمونه لموهبته ولتمكنه من اللغة الفرنسية بشكل ضاهى كثيرا بعض الباريسيين أنفسهم. غادر تييري وأسرته المغرب نحو فرنسا. بينما التحق صديقاه، بيداقي واجماهري، بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء وانقطعت بالتالي علاقة المجموعة. ذهب كل إلى غايته. بل إن المنزل الذي كانت تقطنه عائلة العروي بالجديدة غادره باقي الإخوة للدراسة ثم للعمل. وفي وقت لاحق أعيد بناؤه من طرف مالكه الجديد.
استمر الغياب الطويل أكثر من ثلاثين عاما. حتى حين أصدر فؤاد العروي روايته الأولى “أسنان الطبوغرافي” سنة 1996، لم يعرفا من أول وهلة أن الأمر يتعلق بصديقهما المشترك. وكيف لهما أن يعرفا وقد افترقا وهو بعد صغير السن في بداية المراهقة ؟ أعادا التعرف عليه من جديد، بفضل مراسلات متبادلة، بعدما أصبح كاتبا مرموقا ومعروفا، وراقهما أنه ظل مخلصا في كتاباته لذاكرة الأمكنة ولحكايات طفولة غنية قضاها بمدينة كوسموبولتية مازغان-الجديدة.
بعد 53 عاما قرر الأصدقاء الثلاثة عقد لقاء للحديث عن هذه الفترة الحاسمة في حياتهم، كل حسب مساره وفي حدود تجربته الخاصة. وكانت الغاية المتوخاة هي تعريف جمهور القراء ببدايات كاتب كبير من عيار فؤاد العروي على لسان صديقيه الاثنين. من ثم كان لقاء السبت 25 يونيو 2022 بمكتبة باريس بالجديدة، بحضور فعاليات مختلفة تهتم بالشأن الثقافي والقرائي. وفي هذه الجلسة قدما بعض المراسلات والوثائق التي تبادلوها في السنين الأخيرة، ثم تحدثا، من ضمن أشياء كثيرة، عن سر تم البوح به لأول مرة في هذا اللقاء، والمتعلق بهدية عيد الميلاد التي استحال تسليمها. وهو ما تأثر له فؤاد العروي خاصة لما قدما له الهدية المعنية، ألبوم تانتان “الرحلة 714 إلى سيدني”، وقد كتبا في كلمة الإهداء : “بعد 53 عاما عن عيد ميلادك لسنة 1969، تقبل منا هذه الهدية المتأخرة، مع كل الحب والتقدير الكبيرين”.
بكثير من التأثر تحدث فؤاد العروي عن الطابع الخاص لهذه “اللحظة الاستثنائية”، كما سماها، بذكرياتها النبيلة، بمشاعرها الجياشة، وبدروسها أيضا. وعلى رأس هذه الدروس، كما قال، هو أن صديقاه حينها، بالرغم من وضعيتهما الاجتماعية، إلا أنهما تشبثا بالمعرفة وحرصا على تعلم وإتقان اللغة الفرنسية وكان سعيدا بمساعدتهما على ذلك. وبخصوص الرسالة التي بعثاها له إلى هولندا في 13 يوليوز 1999، فيعتبر فؤاد العروي أنها تعد نموذجا للرسائل المركزة التي تفصح عن المقصود بكلمات معدودة. كما أشار إلى أن عزيمة جيل الستينيات الذي جابه ظروفه الاجتماعية المتواضعة بحثا عن سبل النجاح بفضل المدرسة والقراءة، يبقى درسا مفيدا للأجيال الصاعدة. وختم بالقول إن أهمية مثل هذه النوعية من اللقاءات تكمن في كونها تضيء جوانب غميسة في حياة الأدباء والكتاب. معبرا عن خالص شكره على الهدية التي قدما له وعلى رمزيتها الكبيرة، والتي تؤكد بلا أدنى شك أن علاقة الكتابة والمعرفة تبقى مدى الحياة راسخة في الوجدان.