“ترسيم بحري” في الربع الساعة الأخير
حسين عطايا
كثيرون تناولوا موضوع الترسيم في تحليلات وتوقعات ومقالات، وبعضهم زاد من حجم التفاؤل، في حين شكك آخرون بالنتائج وربطوا الأمور بما سينتج عن نهاياتها قريباً، لأن الموضوع يستحق الاهتمام، كما هو مهم لكلا الطرفين: لبنان وإسرائيل، وذلك لاعتبارات اقتصادية وجيوسياسية على قدر كبير من الأهمية، وكل طرف يرسم خططاً ومسارات من جراء حصول هذه التسوية، والتي يتمناها كل طرف، بالأمس قبل اليوم .
– الجانب اللبناني ، يضع آمالاً كُبرى في موضوع الترسيم، ظناً من عهد ميشال عون على أن يختم ولايته بإنجازٍ يتيم يحفظ بعضاً من ماء وجه “العهد” الذي أصابته شوائبٌ كُبرى، لدرجة أطاحت بكل آماله وتوقعاته .
– إسرائيل، وبمشاركة مصر، وبعد أن وقعت كتاب تفاهم مع الاتحاد الأوروبي، يقتضي توريدها غاز “كاريش” ليكون جزءاً من التعويض عن الغاز الروسي، مما يُساهم بوضع إسرائيل على سكة الدول المهمة على صعيد الغاز في منطقة الشرق الأوسط. ولكن السؤال الأبرز:
– هل طريق الترسيم مفتوحة الافاق وسهلة، ولا تعترضُ مسارها أيةُ عوائق وشوائب؟؟؟
بعد موجة التفاؤل والتي نتجت عن زيارة هوكستين الأخيرة، وإشاعته الكثير من أجواء التفاؤل، اعتقد البعض أن التوقيع على اتفاقية الترسيم أصبح قاب قوسين أو أدنى، لأنه لم يبق سوى اجتماع قصير في الناقورة للوفدين المفاوضين بضيافة الأمم المتحدة، وبحضور الراعي الأمريكي، لتحديد بعض الإحداثيات ووضعها على الورق، ومن ثم تحديد موعد التوقيع على الاتفاقية الموعودة في أقرب فرصة .
بعضهم توقعها في منتصف آب-أغسطس، والبعض الآخر في الأسبوع الأول من شهر أيلول- سبتمبر .
إنما غاب عن ذهن المتفائلين بأننا في هذا الشرق نعيش بمنطقةٍ تُشبهُ العيش في صحراء، رمالها متحركةً متبدلة وبتسارع دائم .
هذا الأمر، أي الترسيم، ليس معزولاً عما يُحيط بالمنطقة من استحقاقات داهمة وعاجلة .
ففي لبنان، يطغى استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية على كُل ما عداه، وفي طالع كل يوم يقترب فيه الاستحقاق يستحوذُ على أهميةً عما سبق، حتى أنه طغى على موضوع تشكيل حكومة جديدة ترثُ صلاحيات الرئيس في حال طالت مرحلة الفراغ الرئاسي، لما يعتري هذا الموضوع من اجتهادات وتنبوئات كُبرى قد تخلق مشكلة دستورية في حال لم يتم التشكيل .
وهنا السؤال الأبرز، هل يحق لحكومة مستقيلة تقوم بتصريف الاعمال القيام بمقام صلاحيات الرئيس أم لا، وهنا وجهتي نظر تختلفان في الرأي والقول .
كما أن موضوع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أيضاً يستحوذ على أهمية بالغة لناحية ضرورة إقرار القوانين الإصلاحية المطلوبة من الإدارة اللبنانية في القريب العاجل، حتى لا يقع الفراغ الرئاسي وبالتلي تطول عملية التوقيع على الاتفاق مع إدارة الصندوق .
هذا عدا عن الكثير من المشاكل والأحداث اليومية، والتي تُربك الإدارة اللبنانية وتضعها موضع العاجز عن معالجة الأمور وأخذ القرارات الضرورية لمتابعة الأوضاع .
أما على الجانب الاسرائيلي، وبعد الحرب القصيرة التي شهدها قطاع غزة في اشتباك لثلاثة أيام مع حركة الجهاد الإسلامي، ونتائجها التي أتت لصالح إسرائيل من حيث تحقيق الأهداف العسكرية للعملية، التي سُميت “الفجر الصادق”، والتي حاولت وساطة مصر تهذيبها وتحقيق بعض الحقوق لأهل غزة، مثل رفع الحصار وإمدادات النفط لمحطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، مما يُساهم بتحقيق بعض التسهيلات للمواطنين الغزاويين .
وهنا، أثبت يائير ليبيد بأنه لا يقل دموية عمن سبقه، “نتنياهو” مثلا، حيث أن حرب غزة القصيرة هي بمثابة تعويم له، وبالتالي زيادةً في شعبيته على حساب الدم الفلسطيني وعلى حساب أطفال غزة، في ظل تخلي العالم عن غزة وكل مايُقال عن حقوق الإنسان وغيرها، لانشغال العالم بأزمته الاقتصادية، وخصوصاً دول القارة الأوروبية المشغولة بتأمين الغاز والنفط لشعوبها لمواجهة الشتاء الأوروبي القارس، والناتج عن عن خفض إمدادات النفط والغاز الروسي الناجم عن العقوبات على قطاع الطاقة الروسي نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية .
هذا من جهة، ومن جهة ثانية يخشى لبيد ومن معه في التحالف من أن قبول إسرائيل بما يطلبه لبنان، أن يتخذه الخصم اللدود نتنياهو ذريعة سياسية يستغلها في التسويق على أنه “تخاذل وتنازل واستسلام إسرائيلي للبنان وحزب الله”، وبالتالي هذا الأمر يُضعف موقف لبيد والتحالف، مما قد يُساهم بعدم عودة ليبيد للسلطة .
إزاء كل ذلك، وبما أن الترسيم يعيش في الربع الساعة الاخيرة، قد يتم تأجيل التوقيع على اتفاقية الترسيم إلى ما بعد النصف الثاني من تشرين الثاني – نوفمبر من هذا العام، وذلك بالنظر لما سبق من أمور واستحقاقات، وأيضاً قد يكون لنوايا بعض الرعاة للبنان لتحقيق ما من شأنه أن تيساهم في بلورة حركة سياسية تخلف العهد الحالي وهي تترقب نتائج أخرى .
فمثلا فرنسا والسعودية، ومن خلفهم الولايات المتحدة، قد كون سعيهم باتجاه حرمان عهد ميشال عون من تحقيق إنجاز في أواخر ولايته، فيؤجل الأمر ليكون بمثابة عملية دفع للعهد الجديد، ليبدأ أيامه الأولى بتحقيق إنجاز الترسيم، فيكون دفعاً وهديةً على طريق تعزيز حضوره، كما أنه يهدف إلى عدم دفع التحالف الإسرائيلي الحاكم إلى إظهاره بمظهر المحافظ على مصالح إسرائيل، وبأنه لم يُقدم على أي تنازل لحزب الله وللبنان قبل موعد الانتخابات الإسرائيلية المبكرة في تشرين الثاني – نوفمبر القادم .
كما أن المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية وما سينتج عنها قريباً في الأسبوعين القادمين، قد تُشكل أداةً تخلق ظروفاً مؤاتية للتسريع بالترسيم أو تأجيله والعودة إلى سياسة إيران عبر حزب الله، لتوتير الأوضاع جنوباً، مما قد يؤجل التفاهم على الترسيم أو قد يُسرعه .
إزاء كل ذلك نرى بأن مشهد الترسيم يعيش مرحلة ضبابية، قد لا تخلو من مفاجئات تضعه على نارٍ حامية تُسرع التوقيع عليه .
لكل ذلك فإن الأسابيع القريبة القادمة سينجلي من خلالها توضيح الصورة كاملة، في اتجاهها، إما التوقيع أو التأجيل.