في حضرة سيدتي الصويرة

في حضرة سيدتي الصويرة

حسن عثمان

سيفعل خيرا بنفسه من لا يشغلها بإحداثيات الصويرة وموقعها من خطوط الطول والعرض، إذ الأرجح أنها تقع بين الـ”دو” والـ”ري” في مدارج السلم الموسيقي، منذ أن كفت عن أن تكون مطلق مدينة واختارت أن تصبح أغنية ومهرجانا للروح، تتمازج فيه إيقاعات كناوة وبكائيات “البلوز” انصهارا وائتلافا قدر ما تسع الذائقة الرفيعة.

ولكن قبل أن يدركها هذا الولع الفاتن بالموسيقى، كنت كلما تردد اسمها تتفجر ذاكرتي بنواح بروك بينتون في “ليلة ماطرة في جورجيا” Rainy Night In Georgia ، غير أن هذه الإحالة العفوية لا تكون صائبة في كثير من الأحوال، لأن نزيل الصويرة وعاشقها حد الموت لم يكن إلا جيمي هيندريكس، عليه صلوات الغيتار وجوقة الوتريات الرحيمة.

كانت الصويرة مهبط روحه المضطربة ولكن قرية الديابات، على مرمى حجر أو يزيد، كانت تعرف كيف تغطيه بسحائب من دخان تخرجه من أرضية الوضع الإنساني، كما يؤمن هنود التولتيك المكسيكيين، إلى سماوية الوعي المغاير إبداعا واختراقا لسحر هذه الحياة الدنيا.

والأرجح أن موكادور التي أصبحت الصويرة، بفعل تناسخ تاريخي طويل، تراهن في حاضر أيامها على نسج علائق إنسانية تتخطى الموسيقى إلى فضاءات أكثر رحابة وعمقا. فعلى خلاف كثير من المدن، التي لا تعرف كيف تتصالح مع انزياحاتها وتحولاتها التاريخية. ظلت الصويرة ، منذ أن كانت موكادور، حريصة على سلامة وصحة الفرع اليهودي في شجرتها الظليلة، تساكنا وتعايشا عقديا وتقاسما للحلو والمر في الحياة المشتركة.

سيقول التاريخ، دون كلل، إن السلطان محمد بن عبد الله أحسن وفادة اليهود بالصويرة، لإنعاش ما كان كاسدا في المدينة العتيقة. وسيقول من ذاقوا نعيم التساكن والتعايش بين الأديان والحضارات إن الخالق، جل علاه، لم يخلق الإنسان وكل هذه الأكوان الفسيحة إلا لتسبح بحمده، وتدرك أن أرقى التسابيح وأكثرها قدرة على  التقرب من روح الله، هي ما تعلق باسمه الرحمن الرحيم.

وها هي الصويرة، بين تقاطع الأصوات الحادة للنوارس فوق مراكب الصيادين، وزحام المدينة العتيقة الطافحة بمختلف السحن والتلاوين البشرية، تفتح أبوابها وأحضانها لموسيقى العالم وتراثها اليهودي المعتق وزمان الوصل بالأندلس، كلما هاجت الذكرى، وتعلن هويتها كاستراحة من تعب هذا الزمان العصيب المتأرجح بين فيروس مستتر وبندقية لا تخفي هويتها القاتلة.

ورغم تكالب الزحف العمراني ومتطلبات العصرنة، لا تزال الصويرة، بمعايير التطاول والبذخ الهندسي، “صغيرة لا تملأ الكف”، على حد قول محمد المكي ابراهيم*، ولكنها تشحن الروح بما يكفي من ندوب الذكرى ووجع الحنين عندما تفتح أحضانها كفاصلة تعطل الزمن الفاصل بين آهتين.

ولعل من يطلب الصويرة، عابرا او مقيما، لا يملك إلا أن يسلم قياده للبحر حيث تحجب النوارس ضوء الشمس وتعرض المدينة مفاتن إقاماتها وفنادقها، وتقف الأبراج شاهدة على تاريخ طويل من صروف الزمان، وليس ثمة إشارة مرور واحدة في مدينة تضع البصيرة قبل البصر.

وطوال الطريق الهابط إليها من أسفي، مرورا بسبت كزولة، كنت أتساءل عما إذا كانت الصويرة، في استيهاماتي، مجرد نغمة شاردة من غيتار جيمي هندركس في أزقة الديابات، بينما تصدح حناجر الغيوان بـ “يا جمَّال (بتشديد الميم) رد جمالك علينا /احنا ولاد ناس طيبين/وفي العز اتربينا”، أم أنها القول الفصل في تدبير الخلافات بين مجامع المؤمنين الحالمين بغد أفضل للمخلوق المعروف قيد حياته بالإنسان.

وبعد، كم كنت أنوي أن يطول بي المقام حتى أنسى من أكون في حضرة سيدتي الصويرة، ولكن الطريق لا يزال طويلا، والوقت أسرع من أن أستبقه، وثمة مدائن أخرى تنتظرني على قارعة الشوق والحنين.

<

p style=”text-align: justify;”>*  دبلوماسي وشاعر سوداني، من ديوانه “بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت”.

Visited 15 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسن عثمان

صحفي وكاتب سوداني