سليمان بشير ديان ومديح الترجمة المضيافة

سليمان بشير ديان ومديح الترجمة المضيافة

باريس- المعطي قبال

استضفت، ضمن فعاليات خميس معهد العالم العربي، سليمان بشير ديان ثلاث مرات. وفي كل مرة لبى الدعوة وافدا إما من دكار أو من أمريكا حيث يدرس بجامعة كولومبيا. وفي كل مرة كانت مداخلاته، أمام قاعات غصت بالجمهور، وفي مواضيع تهم الإسلام، التصوف، علوم المنطق والرياضيات، ثاقبة وسديدة.  سليمان بشير ديان هو من بين 5 فلاسفة أفارقة محدثين الذين ارتقوا بالفلسفة الأفريقية إلى مستوى العالمية. يضاف إلى اسمه أسماء كل من هوبير مونو ندجانا، غريغوار بيوغو،تيوفيل أوبينغا ، أشيل مامبي. وقد ترجمت نصوص ومؤلفات هؤلاء الفلاسفة، الذين تكتب غالبيتهم باللغة الفرنسية، إلى أكثر من لغة عالمية. كما تدرس فلسفتهم في مقررات بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية والأفريقية طبعا. سليمان بشير ديان متخصص في تاريخ المنطق، الرياضيات، نظرية المعرفة وتقليد الفلسفة في العالم الإسلامي. ثمة أعلام فلسفية، فكرية ودينية يعتبرها ديان مراجع ومرتكزات أساسية لفكره مثل محمد إقبال، ابن طفيل، لوي ماسينيون، جان توسان دوسانتي وغيرهم. 

الكتاب الصادر مؤخرا عن منشورات ألبان ميشال في 175 صفحة وفي عنوان “من لغة إلى أخرى. ضيافة الترجمة”، يعالج أحد المشاكل التي لا زال الحديث، بل السجال، مفتوحا في شأنها: ألا وهي مشكلة الترجمة.

يتأمل هذا الكتاب في موضوع الترجمة وقدرتها، بل سلطتها على خلق علاقة تكافؤ وتبادل ما بين الهويات، بمقارنتها وعرضها على قدم المساواة حتى يمكن الحديث والتفاهم ما بين لغتين. كما أشار أنطوان بيرمان، فالترجمة لا تعني شيئا إن لم تكن علاقة. واستند ديان على أعمال سابقة في هذا الميدان مثل العمل الذي قام به مفكرون وباحثون من أمثال باسكال كازانوفا، بول ريكور، باربارا كاسان، جورج شتاينر الخ…

لذا يمكن اعتبار هذا المؤلف مديحا للترجمة ودعوة إلى الاعتراف بها كـ “نزعة إنسانية” كتعبير عن رؤيا متفائلة لما يمكن أن تحققه. غير أن التفاؤل لا يعني السذاجة. ويستحضر بشير سليمان ديان أطروحة الباحثة باسكال كازانوفا صاحبة مؤلف “اللغة العالمية. الترجمة والهيمنة” الصادر عام 2015 وهو بحث في سوسيولوجيا وسياسة الترجمة. في اعتبار باسكال كازانوفا تتماهى الترجمة مع الهيمنة. لذلك تنبه إلى ضرورة الوعي بحقيقة وجود “سوق لغوية” توزع فيها اللغات الإنسانية تبعا لتصنيفات تراتبية “لغات محيطية، لغات مركزية، لغات مافوق مركزية ولغة فائقة المركزية”. لهذا التوزيع والترتيب عواقب جد سلبية. لما “تنقرض”، بل تنطفيء لغة ما فقد تجد نفسها على هامش لغة مركزية ، لغة إفرنجية أو عجمية قد تنتهي بامتصاصها. في السينغال انطفأت لغة البابن، لكن تم العثور على سيدة لا زالت تردد بعضا من أهازيجها، لكنها لا تعرف دلالة كلماتها.  عند تأملنا للغات يجب أن نفكر بأن وجود تراتبية ما بين اللغات وعلاقات هيمنة فيما بينها هو واقع يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. علاوة على أنه لما تتم الترجمة من لغة “الهامش” نحو لغة “المركز “، هناك مكسب ذي قيمة.

طرح  الترجمة كعلامة على الهيمنة اللسانية تقودنا أيضا نحو إمكانية النظر إليها على أنها “قوة مقاومة”. وتعتبر باسكال كازانوفا بأن هناك طريقة واحدة لمقاومة اللغة المهيمنة ألا وهي عدم الإيمان برونق هذه اللغة. لو أخذنا الوضع الاستعماري نجد تبخيسا للغات الشعوب المستعمرة بحجة أن هذه اللغات غير مكتملة و يعتريها نقص في المفاهيم المجردة، نقصان في الزمن المستقبلي.

في البلدان التي عرفت ولا تزال الاستعمار، يتواجد  “أولئك الذين يستعملون بشكل جماعي لغتين” لأنهم مستعمرون. عالمهم إذا هو عالم  ازدواجية اللسان ” حيث رتبت الأشياء بكيفية تجعلهم يقبلون ويعتقدون بأن لغة الأم هي بالأساس أقل قيمة من اللغة الأخرى، التي يضفي على هيمنتها نوع من الرونق. ويطالب سليمان بشير ديان بعدم السقوط في النزعة الوطنية اللسانية بل تأمل وتطبيق المبدأ الذي دعا ودافع عنه ليوبولد سيدار سنغور والقاضي بممارسة ثنائية اللغة لأن المستقبل هو “للإنسان الجديد”.

مديح الترجمة لا يعني تجاهل أن الترجمة هيمنة. مديح الترجمة معناه الاحتفال بتعددية اللغات ومساواتها. معناه أيضا أن مهمة وشغل المترجم، أخلاقه وشعريته هي خلق للتكافؤ، خلق للتواصل ضمن مجموعة مشتركة. هي مناهضة غياب التناسق. الترجمة قوة نازعة للاستعمار… 

سبق لأومبرتو إيكو أن اشار، ولمرات، بأن لغة أوروبا هي الترجمة، فيما صرح الفيلسوف الكيني  نجوجي وا تيانغو بأن “لترجمة هي لغة اللغات”. إنها دعوة لكي تتحادث اللغات فيما بينها. في مشغول الترجمة تتعارف اللغات على بعضها البعض. 

يجب أن لا ننسى كذلك بأن الترجمة يمكن أن تخدم أغراضا دنيئة وتكون عبارة عن إعلان حرب. ولنا في ترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية بأمر من بيار لوفينيرابل، قسيس كلوني، خير مثال. فقد سافر إلى إسبانيا عام 1142، السنة التي سبقت ترجمة القرآن للقاء الفريق الذي أشرف على الترجمة الذي كان قد شكله. هذه الرحلة هي في حد ذاتها حدث في غاية الأهمية. هذه السنة كانت بداية ما أسماه القسيس مستهل الحرب على الإسلام بواسطة وسائل أخرى: وسائل ثقافية منها الترجمة. ما قام به القسيس بيار لوفينيرابل يمكن اعتباره قاعدة أو أساس الإسلاموفوبيا العرفانية. الغرض من ترجمة القرآن بحسب هذا القسيس هو أن يقف القاريء على الكذب، الهرطقة، والخزي الأصيل. هنا تأخذ جملة « الترجمة خيانة » كل معانيها. لذا فإن الجواب على الترجمة العنيفة هي الترجمة المضيافة. والترجمة التي قدمها جاك بيرك للقرآن تبقى أنموذجا على هذه الترجمة المضيافة.    

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".