شتيمةُ بقاء سبتة ومليلية تحت الاحتلال… ماذا وراءها؟
عبد السلام بنعيسي
استمرارُ الاحتلال الإسباني للمدينتين المغربيتين سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، صار في السنوات الأخيرة، سُبَّةً يَشتُم بها بعض الإخوة العرب، أشقاءهم المغاربة، إنهم يسخرون من المغاربة ويُبخِّسونهم قدرهم، لأنهم، في نظرهم، لم يتمكنوا من تحرير أراضيهم التي لا تزال خاضعة للاحتلال الإسباني. ويندرج هذا المسعى التبخيسي، في سياق السجال الدائر حول تمسك المغرب بأقاليمه الصحراوية، ورفضه التنازل عنها، فالتهمة التي تُوجَّهُ إلى المغاربة، تتجسد في كونهم متشبثين بالصحراء المغربية ومدافعين عنها، ولكنهم لا يُقدِمون على أي خطوة في تجاه استعادة سبتة ومليلية والجزر المحيطة بهما…
في البداية لابد من التأكيد على أن المغاربة عندما يتمسكون بمغربية الأقاليم الصحراوية فإنهم يتشبثون بالحقيقة التاريخية التي تؤكد على مغربية تلكم الأقاليم، بصرف النظر عن موقفهم وتصرفهم تجاه أي قضية أخرى، كيفما كان نوعها. فعدم حرصهم على استرجاع سبتة ومليلية، على افتراض أنه قولٌ صحيح، لا يُلزمهم بالتفريط في صحرائهم الغربية، هذه لا تبرر تلك، ولكل ملف من الملفين حيثياته الخاصة به التي يتعين التقيد بها خلال معالجته سياسيا وإعلاميا. المغاربة هم الأقربون إلى أوضاعهم وشؤونهم، وهم الأعلم بها أكثر من غيرهم، وهم المؤهلون قبل سواهم لتقديم قضية على أخرى، أو ملف على سواه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الأراضي المغربية المحتلة من الجانب الإسباني هي أراضٍ عربية أمازيغية إسلامية، وتقع في قلب القارة الإفريقية، وينبغي أن تكون مهمة استردادها من إسبانيا، همًّا عربيا إسلاميا جامعا، ولا يجوز معايرة المغربي، من طرف إخوته في اللغة والدين، والثقافة، والانتماء لنفس الجغرافيا، بعدم القدرة على تحرير أرضه، وكأن عدم القدرة على تحريرها، خيارٌ اختاره المغرب لنفسه، وعقد العزم على القبول به، والاستقرار فيه، والاطمئنان إليه. فما يُجبرك على المُرِّ هو الأمَرُّ منه كما يقال.
لقد وقع احتلال سبتة ومليلية والجزر الجعفرية لأن المغرب كان مَعْبرًا للعرب لفتح الأندلس ونشر الإسلام والعربية هناك، ولأن الجيوش المغربية تدخلت، على فترات زمنية متلاحقة في الأندلس، لنجدة العرب والمسلمين حين كانت تشتد عليهم الضائقة بتلك الديار، ويشعرون بالتهديد والاختناق فيها، فيهُبُّ المغاربة لنجدتهم ودفع النصارى عنهم، وتقديم النجدة لهم. وحين تغيرت موازين القوى العالمية، وصارت الكفَّةُ مائلة لصالح النصارى، فإنهم لم يغفروا للمغرب تاريخه الجهادي، وقرروا الاحتياط والانتقام منه، بالاستقرار، بدءا من القرن الخامس عشر الميلادي، في شماله، أي في سبتة ومليلية، للتصدي لأي خطر عربي إسلامي محتمل، قد يأتي منه صوب شبه الجزيرة الإيبيرية. فالمغرب يؤدي إلى اليوم، في سبتة ومليلية، ضريبة تاريخه الجهادي، لنشر الإسلام بالديار الأوروبية، في تلك الأزمنة الغابرة.
وما تجدر الإشارة إليه هو أن المغاربة لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الإسبان عقب احتلالهم لسبتة ومليلية، فلقد تعددت المحاولات التاريخية للمغرب لاستعادة هذه المنطقة، فالسلطان العلوي المولى إسماعيل حاصر في القرن السادس عشر الميلادي مدينة سبتة 33 سنة، في محاولة منه لاستردادها من إسبانيا، وعلى نفس المنوال، درج حفيده السلطان محمد بن عبد الله عام 1774م حيث بادر إلى محاصرة مدينة مليلية، وخاض معارك ضارية لاسترجاعها من الإسبان.
وكانت أبرز المحاولات المعاصرة لتحرير كافة الشمال، كمقدمة لتحرير المغرب، التحرير الكامل، هي ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي والحروب التي خاضها بين عامي 1921 و1926 ضد القوات الإسبانية في شمال المغرب، فلقد تمكن المغاربة في معركة أنوال من هزم إسبانيا هزيمة مدوية، وأوشكوا على طردها من الشمال المغربي، لولا الدعم الذي حصلت عليه من عموم أوروبا، ومن فرنسا على الخصوص، ولجوء القوات الإسبانية إلى طيرانها وقصفها بالسلاح الكيماوي المقاتلين المغاربة الذين كانوا يواجهونها ببنادق عتيقة، ولكن بشكيمة عالية، ووطنية صادقة…
ونتيجة لتعرضهم للقصف بالسلاح الكيماوي الذي استعمل في العالم لأول مرة بالمغرب، فإن مضاعفات استعمال هذا السلاح المحرم دوليا لا تزال ساكنةُ الريف تعاني من تبعاتها إلى يومنا هذا، في شكل أمراض سرطانية تصل إلى مستويات مرتفعة بالشمال، بالقياس مع باقي المناطق المغربية الأخرى.
المغرب الذي خاض في الميدان في فترة الاستعمار معارك وحروبا شرسة وقاسية من أجل استرجاع سبتة ومليلية والجزر القريبة منهما، فإنه بعد حصوله على استقلاله اقتحم معارك العمل الدبلوماسي بغية الوصول لنفس الهدف، فلقد تقدم سنة 1960 بطلب رسمي إلى الأمم المتحدة يدعو فيه لاستعادة المدينتين المذكورتين للسيادة المغربية، ويوضح في طلبه أنهما والجزر المحاذية لهما مناطق مغربية تحت احتلال عسكري إسباني، ويتعين إدراجها ضمن قائمة الأراضي التي يجب تصفيتها من الاستعمار.
ولا يزال المغرب إلى اليوم متمسكا بتحرير سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، ويناضل من أجل إعادتها إلى حوزة الوطن، حتى إن كان يعطي الأولوية في اللحظة الراهنة لتأمين الحفاظ على أقاليمه الصحراوية، فالمعارك أولويات، ولا يمكن خوضها كلها دفعة واحدة، فلقد تعرض المغرب لاستعمار من طرف قوتين امبرياليتين هما إسبانيا وفرنسا، وكان يكافح على واجهتين، وبمجرد الانتهاء من قضية الصحراء التي تستهلك كل جهده ووقته، فإن المغرب سيتفرغ لإعادة سبتة ومليلية إلى حضن الوطن.
يؤاخذون على الشعب المغربي بقاء مدينتي سبتة ومليلية محتلتين، لكن ماذا يقدمون له حين تندلع الصدامات من حين لآخر بينه وبين إسبانيا؟ في آخر أزمة اندلعت بين البلدين، اجتمع قادة ومُشرّعو الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، وعبروا عن تضامنهم المطلق مع مدريد ومساندتهم غير المشروطة لها في نزاعها مع الرباط، في حين انحاز بعض الأشقاء إلى جانب الإسبان، وكانوا عونا لهم على إخوانهم المغاربة.
إذا كان عدم استرجاع سبتة ومليلية شتيمة ونقيصةً يُنْعتُ بها المغاربة، فماذا عن صخرة جبل طارق الموجودة قبالتهما في الضفة الجنوبية الأخرى من البحر الأبيض المتوسط؟ ألا تطالب بها إسبانيا وتتهم بريطانيا باحتلالها؟ وماذا عن جزر الكوريل؟ ألا تعتبرها طوكيو أراضٍ يابانية محتلة من روسيا، وتدعو لاسترجاعها منها؟ وماذا عن جزيرة تايوان؟ ألا تطالب الصين بضمها إليها على أساس أنها جزيرة صينية، ولكن الإدارة الأمريكية تتصرف مع تايوان ككيان مستقل عن الصين؟ وماذا عن جزر الفوكلاند؟ ألا تعدُّها بينوس آيريس جزرا أرجنتينية تحتلها بريطانيا؟ وماذا عن طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبي موسى، ألا ترى فيها الإمارات العربية المتحدة جزرها، وأنها منتزعة منها من طرف الإيرانيين؟؟؟ هذا دون الحديث عن الجولان السوري، ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وقرية الغجر اللبنانية التي لا تزال تحت الاحتلال الصهيوني…
الأشقاء الذين يعايرون الشعب المغربي ببقاء مدينتي سبتة ومليلية محتلتين، فإنهم يعايرون كل الشعوب الأخرى التي لا تزال بعض المناطق من أراضيها محتلة، وفي مقدمة الذين يصوبون له الشتيمة، دون درايةٍ منهم، الشعب الفلسطيني، فهو كذلك أرضه لا تزال تحت الاحتلال. الشهامة العربية تقتضي منا مساعدة إخواننا الذين لا تزال أرضهم محتلة وتقديم الدعم لهم لتحريرها من الاستعمار، أما شتمهم وذمهم، ففي ذلك ممارسة للشماتة والتشفي فيهم، وليست هذه الممارسة من الشيم العربية الإسلامية الأصيلة في شيء. إنها تُنافيها وتتعارض معها.