هاربون من داعش إلى ظلال شجرة السلام

هاربون من داعش إلى ظلال شجرة السلام

عبد الرحيم التوراني

يتزامن فصل الخريف مع موسم جني الزيتون في لبنان، ويستمر على مدى شهرين إلى اقتراب بدايات فصل الشتاء. وبقدر اعتزاز اللبنانيين بكون بلدهم وطن الأرز، إذ يتوسط رسم شجرته الخضراء علمهم الوطني، فإنهم يولون أهمية كبرى لشجرة الزيتون التي يرمز غصنها إلى السلام. فما أن يحين موسم القطاف حتى تستعد عائلات بأكملها لتشارك في أفراح الموسم تحضيرا لمؤونة الشتاء، في طقس شعبي ضارب الجذور في الزمن، يخترق خريطة البلاد، من عكار إلى جنوب لبنان، مروراً بباقي المناطق والقرى والمدن.

زيتون واستغلال وعنصرية:

مع اشتعال الحرب في سوريا ووصول أعداد كبيرة من اللاجئين إلى لبنان، زاد الاعتماد على العمال السوريين في عمليات القطاف في المناطق التي احتضنتهم. وباستثناء بعض عائلات المنطقة التي لا تزال تحافظ على الطقوس القديمة، فإن الأغلبية صارت تستعين باللاجئين السوريين في عملية قطاف الزيتون، بسبب تدني المقابل الذي يتقاضاه العامل السوري، ومن هنا نفهم الدعوات إلى عدم استغلال العمّال السوريين. لكن ماذا بإمكان هؤلاء أن يفعلوه أمام القوانين المتشددة؟ ومنها قرار المفوضية العليا للاجئين، الذي ينص على أن السوري “الذي يحمل صفة لاجئ لا يحق له العمل على الأراضي اللبنانية وإلا يحرم من المساعدات، ويبقى على عاتقه البحث عمن يؤمن له إقامة وإذن العمل. وهو امر صعب جدا في ظل الخلاف السياسي على كيفية التعاطي الرسمي مع اللاجئين السوريين والفلسطينيين، بحجة رفض توطينهم في لبنان او تجنيسهم.

من جانبهم يشكو عدد من السوريين من “عنصرية” بعض اللبنانيين.. في هذا الصدد يحتج لبنانيون بصيغة تساؤل واستنكار: “كيف يبقى اللبناني من دون عمل والنازح السوري يعمل بطريقة غير شرعية؟! وتلك قصة أخرى تجر  إلى متاهات قانونية وسياسية معقدة، وحكايات إنسانية مؤلمة.

طقوس احتفالية عريقة:

قبل جائحة كورونا، (في 2019) سافرت إلى لبنان، وكنت محظوظا لما توصلت بدعوة كريمة في نهاية الأسبوع، لحضور احتفالات قطف الزيتون بإحدى القرى غير البعيدة عن العاصمة بيروت بحوالي 35 كلم.

 التقيت بصديقي، رب العائلة الأستاذ المتقاعد، مع زوجته الموظفة بالقطاع العام، وقريبتهم التي تعمل بشركة مصرفية، لكنها حرصت على أخذ بضعة أيام من إجازتها السنوية، حتى لا تفوتها المناسبة المباركة. كانت معهم البنت الاثيوبية التي تساعد في أشغال البيت. وبعدها وصل الأبناء والأحفاد الصغار الذين هرعوا يلعبون بالحبات المتساقطة فوق التراب. هنا في حقل الزيتون يقضون اليوم من الساعات الأولى للصباح حتى نهاية النهار. بعضهم يتسلق السلم أمام شجرة عالية كي يصل إلى قطف الزيتون، أخرى تجلس بالقرب وتنهمك في تجميع الحبات وفرزها قبل إرسالها إلى المعصرة في مرحلة لاحقة وتحويلها إلى زيت صاف شهي. فالخبراء يصنفون زيت الزيتون اللبناني ضمن أفضل الأنواع ذات الشهرة العالمية والمعروف بتاريخه الغني الذي يعود إلى العصر الفينيقي.

تتميز أجواء القطاف بالحماسة والفرح بما تمنحه الأرض من خير وبركة، ويمر الوقت باستحضار حكايات الأجداد التي تحث على الانتماء إلى الأرض والوطن، في طقس احتفالي متوارث عبر الأجيال، يتغنى بشجرة قاومت على امتداد الزمن الموت والفناء والطوفان.

لقاء مع ناجيين من جحيم داعش:

وكانت المصادفة أن ألتقي بهاربين من الحرب بكل ما ترمز إليه من دمار وموت وفناء وطوفان، بشابين سوريين يعملان في قطف الزيتون، الأول: هاني، يبلغ من العمر 19 سنة، والثاني: صلاح، ويبلغ من العمر 15 سنة، وهما أبناء عم. نزحا من سوريا، ويعملان أي شغل وجداه على الطريق، من دهن جدران البيوت والبناء والمساعدة في حمل الأثقال وغيرها من الأعمال التي تجنبهما مذلة التسول وتكفيهما لسد الرمق بعيدا عن مناطق القتل والمذابح التي عمت سوريا منذ 2012.

عندما جاء وقت الاستراحة، لأكل سندويتشات و(مناقيش)، أي الخبز بالزعتر، وشرب أكواب القهوة التركية والشاي، جلس أمامي الشاب “هاني”، افترش الأرض وأشعل سيجارة سوداء، وبعدها لحق به ابن عمه “صلاح” وجلس جنبه صامتا.

كانت فرصة سانحة كي أفتح باب الدردشة بشكل عفوي وتلقائي، وكان السؤال الأول عن المنطقة التي ينتميان إليها في سوريا. يجيب هاني:

– من الدير.

ولأني لم أفهم في البداية. بادر صديقي كمال ليشرح لي:

– يقول إنه من دير الزور.

 أعرف الاسم من تداوله في الأخبار، أليست دير الزور من أول المناطق التي اندلعت بها الانتفاضة في سوريا عام 2011؟

يذكرني هاني أن البداية كانت بمنطقة درعا، وبعد انتقلت إلى دير الزور.

 ينبهني كمال إلى أن لهجة هاني سورية مخلوطة باللهجة العراقية. إذ تقع دير الزور بشرق سوريا، على الحدود مع العراق. يحرك هاني رأسه ليؤكد المعلومة، ويضيف أن صدام كان يريد إلحاق الدير بالعراق.

الجلد والقتل والذبح دستور:

أعود لأسأل هاني عن منطقته، فيجيب:

 – عشنا أعواما تحت حكم دولة تنظيم داعش، فرضوا علينا نظامهم الغريب. مثل أداء الصلاة كرها، إعفاء اللحى، من يحلق ذقنه يجلدونه، أنا جلدوني مرتين، كل مرة 50 جلدة، المرة الأولى بسبب حلقي ذقني، والمرة الثانية بسبب “الأزار”. وفرضوا علي دورة لأخذ دروس في التعاليم الدينية التي يلزمني اتباعها والخضوع إليها.

أستفهمه حول معنى “الأزار” فيرد:

– إنهم يجلدون من يلبس بنطلونا طويلا يغطي كعب القدم، و”الأزار” عندهم هو لباس لا يخفي كعب القدم. موضحا “إنهم يجلدون زوج أو أب أو أخ البنت أو أي قريب لها، إذا تخلت عن ارتداء النقاب. ذبحوا من عارضهم. فمن كان سوريا يأخذونه إلى العراق لينفذوا فيه الحكم هناك، ومن كان عراقيا يأتون به إلى سوريا لنحره أمام الملأ… وقاموا بإرغام الأهالي على التفرج على جرائمهم وإعداماتهم حتى بثوا الخوف والرعب في النفوس، وكل ذلك كان يحصل ب دوار (ساحة) الطيارة، لأنه كانت بها طائرة عسكرية تم إسقاطها للجيش السوري النظامي”.

لما وصل الداعشيون إلى دير الزور، يشرح هاني، “كان عمري 12 سنة، وكنت واعيا ومدركا لكل ما يجري حوالي ويحصل أمامي، لقد أسقطوا المنطقة وتمكنوا من بسط سيطرتهم عليها في ظرف ثلاثة أيام فقط، بعد ان تواطأ معهم أفراد جيش النظام، كما يقال”.

يتذكر هاني كيف أخذوا أموال الناس من الليرة السورية والعملات الأجنبية، وأعطوهم مقابلها “الدرهم”،عملتهم الخاصة، وهي مسكوكة من معدن، وأغلقوا المدارس فارضين على من يريد التعلم من الأولاد الذكور حفظ القرآن فقط بالجوامع. وسيطروا على مراكز الدولة، ومنعوا الناس من الجلوس في الشرفات وأمام منازلهم، وكسروا أعمدة الإرسال والبث، فلا تلفزيون. والنساء لم يكن بإمكانهن ان يطلعن إلى الخارج من دون حجاب ونقاب، ورغم أن المجتمع كان محافظا، فقد جاءت داعش بأشياء غريبة ومتشددة أكثر، ولم تكن بالبال، كل شيء يبدو لك بسيطا وعاديا صار في نطاق الممنوعات والحرام، كالتدخين مثلا. لذلك من الطبيعي إذا لم يتعاطف الناس مع هذا الحكم القاهر، وخاصة الشباب منهم، بالنسبة لي كانت أول مرة أشوف فيها أقواما آخرين من جنسيات أخرى. جنسيات مختلفة، صينيون وأفارقة وأوروبيين، لكن أغلبية داعش هم من العراق، فرئيسهم الأكبر من العراق.

 يطفئ هاني سيجارته  فوق حجرة صغيرة أمامه ويردد:

– “كل البلاوي أتتنا من العراق”…

مع الله.. لا مع بشار ولا ضده:

أحاول من جانبي أن لا أثقل على الشاب بأسئلتي، فأنا لم أفصح له عن هويتي بأني من أهل الصحافة، ولم أخبره أني أجري معه حوارا صحفيا، تجنبا من خوفه ورفضه. ومع ذلك كنت أحثه على الكلام والمزيد من الإفصاح بتعليقاتي المتعاطفة معه والمستنكرة والمنددة بالدواعش.

يقول هاني:

– “لقد منعوا علينا السفر خارج المنطقة. وأنا هربت مع الهاربين، ولما وصلت قبل حوالي عامين إلى لبنان سقط حكم داعش بدير الزور. قبلها كان الناس ينزحون إلى أدلب القريبة من الحدود مع تركيا، وبعد هدوء الأوضاع يعودون إلى بيوتهم”.

– هل تم القضاء نهائيا على كتائب داعش في دير الزور؟

يجيب هاني بالنفي. ثم يستدرك:

 – ربما ما زالت هناك خلايا تحت الأرض من هؤلاء الدواعش، من يدري؟

مما يتذكره هاني أن المسؤول الداعشي الأول بدير الزور كان متزوجا من روسية. وأنه كانت هناك نساء من جنسيات مختلفة، وكانوا يتزوجون بأكثر من زوجة.

تمر لحظة صمت أسأل بعدها هاني هل هو ضد نظام بشار؟

 يرد أنه لا هو مع بشار ولا ضده.

– لكن مع من أنت يا هاني؟

– يجيب من دون تردد أنه مع االله.

يعلق صديقي ضاحكا:

 – غدا قد تجده مع ميلشيا حزب الله.

أعود لأسأل الشابين كيف وصلا إلى لبنان:

يرد هاني أنهما دفعا للضابط على الحاجز.

– كم كان المبلغ؟

  – 5000 ليرة سورية، (ما يعادل المائة درهم مغربية)

– وكم تستغرق مدة اجتياز الحدود؟

– الرحلة من الحدود بين لبنان وسوريا مشيا على الأقدام تستغرق من الساعة السادسة مساء إلى الرابعة فجرا. في منطقة جبلية وعرة، وندخلها من جهة طرابلس، أو من جهة البقاع مع مهربين من الجنسيتين اللبنانية والسورية، وهي مافيات منتشرة على الحدود تتقاضى من مئة دولار وما فوق، حسب الحالة، لتهريب الأشخاص، وإن بطرق غير أمنة وطبعا لا قانونية.

يضيف الشاب السوري:

– الطريق ليست مضمونة تماما، وقطاع الطريق بينهم أفراد من الجيش السوري، في رحلتنا أوقفنا ضابط سوري، جمع الهاربين وعزل الذكور عن الإناث، وبدأ بتفتيشنا تفتيشا دقيقا، كان يمرر يديه على المناطق الحساسة للنساء من دون أي حرج. انتزع الموبايلات والفلوس والأشياء التي يريد، قبل أن يسمح لنا بمواصلة رحلة الهرب. لما احتج واحد منا على طريقة تفتيشه ضربه الضابط بكعب مسدسه على الرأس وهدده.

جمهور برشلونة في دير الزور:

 – وأهلك يا هاني؟

– لا زالوا يعيشون هناك بالدير.

– هل تعتبر هاربا من الجيش النظامي؟

– لست هاربا من الجيش، فلديهم ما يكفي ويزيد من المجندين الشباب، وكما تسللت خارج سوريا أعود إليها مستقبلا بنفس الطريقة.. متسللا.

وحتى أضفي على حديثنا بعضا من الدعابة والمرح، أسأل الشاب هاني عن فريق كرة القدم الذي يشجعه، وهل هو من أنصار “الفريق الملكي”، لأني انتبهت إلى أنه يرتدي قميص “ريال مدريد” الاسباني.

 ابتسم الشاب ذو الجسم الرياضي، وقال:

– لا، أنا برشلوني. قليلون هم من تجدهم يشجعون فريق مدريد في دير الزور.

وأعود به إلى داعش وعلاقتهم بالكرة، هل حرموها هي أيضا؟

 يرد الشاب:

– لا، هم كانوا يلعبون الكرة بينهم، مع الحرص على ممارستها بارتداء الزي الشرعي، أما لو وجدوني مثلا بقميص ريال، مثل هذا الذي ألبسه الآن، فقد يلجأون إلى تمزيق الشعار المرسوم عليه مع معاقبتي.

انتهت الاستراحة ومعها الدردشة، وتوجه هاني وابن عمه صوب الشجرة المباركة، بعد أن أطفأ سيجارته، مرددا كلمة خرجت من بين شفتيه نازفة بالحسرة والألم:

 – لقد ذقنا المر.. ذقنا المر…

<

p style=”text-align: justify;”>لم يكن اسمه هاني ولا ابن عمه يحمل اسم صلاح، ولكن الحرص على سلامة الشابين وظروف لجوئهما وعملهما اللاشرعي، فرض علينا منحهما اسمين مستعارين، في انتظار أن تهنأ سوريا وتصلح أحوال أهلها الطيبين.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن