قصة من البيرو: مغامرة في الليل.. بقلم خوليو رومان ريبييرو
ترجمة: محمد صوف
عمره أربعون سنة. يعتبر نفسه رجلا على الهامش. لا زوجة لأريستيد ولا عشيقة. يعمل في نفق البلدية .يقوم بضبط السجل المدني. يعيش في شقة صغيرة في شارع لاركو. مليئة بالغسيل القذر والأثاث المتآكل وصور الفنانين المعلقة بدبابيس على الجدار. يرى أصدقاءه المتزوجين يعيشون في رخاء . يمرون في سياراتهم بينما ينتظر هو دوره عند محطة الحافلة. وإذا حدث والتقوا به صدفة في مكان عمومي يكتفون بمصافحته مادين إليه أيديهم بشيء من الازدراء. ولأن أريستيد لا يمثل فقط الصورة المعنوية للفشل فهو بل هو الرمز المادي للإهمال.ثيابه رثة.يحلق ذقنه بعشوائية .منه تفوح رائحة الفضلات والخمارة السيئة السمعة.
ولأنه لا أصدقاء له ولا ذكريات يرتاد القاعات السينمائية الشعبية بانتظام . زبون مثالي لها. يستعمل بإخلاص المقاعد العمومية. في قاعات السينما يختبئ بعيدا عن الضوء.يشعر بكثير من الظلال ترافقه. ظلال تضحك أو تبكي على مقربة منه. في الحديقة العمومية يتحدث مع العجزة والمعاقين والمتسولين ويشعر به فردا من هذه العائلة التي تحمل مثله في طية المعطف علامة الوحدة الخفية .
وفي ليلة هرب أريستيد من أماكنه المفضلة .سار دون هدف في أزقة ميرا فلويس .جاب شارع باردو بكامله إلى أن أدرك شاطئ البحر واستمر ماشيا. طاف بكنيسة سان مارتان ثم انحشر في أزقة فارغة تزداد فراغا كلما توغل فيها أكثر. ارتاد أحياء لم تر في حياتها جثمانا يمر. مشى قرب كنيسة وقاعة سينما في طور التشييد . مر من جديد أمام الكنيسة. ضاع بعد منتصف الليل قليلا. تسكع في حي لا يعرفه حيث تعالت أول عمارات محطة استجمام. أثار انتباهه مقهى.امتلا الرصيف المتسع بموائد صغيرة فارغة. وقف على أصابع قدميه وألصق أنفه بالزجاج .نظر إلى الداخل. الساعة تشير إلى الواحدة صباحا. لا زبون هناك. فقط امرأة بدينة خلف الكونتوار. حشرت نفسها داخل فرو. في يدها سيجارة وتقرأ جريدة بشرود. رفعت بصرها إليه ونظرت إليه بلطف مشوب بالحذر. ارتبك في داخله وتابع طريقه. بعد بضعة أمتار توقف ونظر حوله . العمارات العصرية تنام نوما عميقا ودون مشاكل. شعر بأنه يطأ أرضا عذراء وثمة مشهد جيد يصيبه قلبه و يملؤه حماسا لا يقاوم. عاد واقترب بحذر من المقهى. المرأة لا تزال هناك. عندما رأته صدر منها نفس رد الفعل اللطيف الباسم. ابتعد أريستيد بسرعة ثم توقف في منتصف الطريق.تردد. رجع. أطل من جديد ثم دفع الباب الزجاجي . أخيرا. جلس على مائدة صغيرة حمراء. ظل ساكنا لا يتحرك ولا يرفع بصره . انتظر للحظة دون أن يدري ماذا ينتظر بالضبط. تتبع ذبابة دون جناحين تتعثر بمعاناة نحو العدم. ودون أن يتحكم في ارتعاشة قدميه رفع بصره بخجل . المرأة تنظر إليه من خلف الجريدة. أسمعته صوتها و هي تخنق تثاؤبا . صوت قوي ذكوري قليلا.
“لقد ذهب النادل يا سيدي“
تلقف الجملة في الهواء .احتفظ بها لنفسه. غمره مرج صاخب: امٍاة مجهولة تكلمه في الليل .فهم أنها تدعوه إلى المغادرة . وفجأة وقف متضايقا .
“لكني أستطيع أن أخدمك. ماذا تريد ؟“
تقدمت نحوه المرأة بخطو متثاقل لا يمك إنكار روعته.
جلس من جديد.
“قهوة.. فقط قهوة“
المرأة تقف أمام المائدة وتضع عليها يدا سمينة مغطاة بالجواهر.
“الآلة مطفأة. يمكن لي أن أعطيك مشروبا“
“جعة إذن“
ابتعدت المرأة نحو البار.استغل أريستيد ابتعادها ليحدق فيها بإمعان. لم يشك في أنها صاحبة المحل. المؤسسة توحي بأن عندها مالا كثيرا. بحركة سريعة سوى ربطة عنقه. رطب شعره.
عادت المرأة تحمل معها زيادة على الجعة زجاجة من الكونياك وكأسا. قالت وهي تجلس جنبه
“سأشرب معك. تعودت أن أشرب مع آخر زبون“
شكرها بحركة من رأسه. أشعلت المرأة سيجارة.قالت :
“الليل جميل. أتحب أن تتجول في الليل ؟ أنا أحب السهر قليلا.لكن الناس في هذا الحي ينامون مبكرا. وانطلاقا من منتصف الليل أبقى دائما وحيدة“
همهم أريستيد:
“هذا محزن“
أشرت يدها إلى باب في أقصى المحل وقالت:
“أنا اسكن فوق البار. أغلق الباب في الثانية صباحا و أذهب لأنام“
تجرأ أريستيد على التحديق في وجهها . نفخت المرأة الدخان بأناقة وحدقت فيه مبتسمة.بدا له الوضع مثيرا. يسعده أن يؤدي ثمن ما استهلك و يسرع نحو أو مار ليحكي له هذه القصة الرائعة لامرأة راودته في قلب الليل عن نفسه.
لكن المٍرأة وقفت:
“أمعك قطعة سول ؟ سأشغل أسطوانة“.
أعطاها أريستيد القطعة بسرعة . اختارت موسيقى هادئة وعادت. نظر هو إلى الشارع.لا ظل لأحد فيه. شجعه الوضع ودعاها بشجاعة مفاجئة للرقص .
“بكل سرور“
قالت المرأة ووضعت سيجارتها على حافة المائدة. سحبت الفرو من على كتفيها الرخوين المزروعين بنقط نمش.
بعد أن أحاط خصرها الصلب تحت يده المجردة من أي خبرة اقتنع بأنه في طور تحقيق أحد أحلامه القديمة. أحلام عازب مسن بئيس: أن تكون له مغامرة مع امرأة. لا يهم أن تكون مسنة أو سمينة.جردها خياله من كل هذه النواقص.نظر أريستيد إلى الرفوف والزجاجات التي تدور حوله. تصالح مع الحياة .ازدوج. وأصبح يسخر من أريستيد الآخر البعيد والمنسي. أريستيد ألذي كان يرتعد من الانفعال أسبوعا لأن غريبا توقف ليسأله عن الوقت.
انتهت الأسطوانة. جلسا يدردشان للحظة.دعته المرأة ليشرب معها الكونياك. قبل حتى سيجارة منها قائلا:
“لا أدخن أبدا. هذه الليلة لست أدري لماذا أفعل“
بدت له جملته تافهة .ضحكت المرأة وتوجهت نحو الرصيف. رقصا قليلا. لاحظ أريستيد أن الساعة تشير إلى الثانية ومع ذلك لم تقرر المرأة الإغلاق. بدا له الأمر جميلا و أهداها بدوره كأسا من الكونياك.بدا يتشجع. طرح عليها بعض الأسئلة الحافلة بالفضول يريد بذلك خلق جو حميمي. عرف أنها تعيش وحيدة و أنها منفصلة عن زوجها. أخذ يدها.
وقفت صاحبة البار وقالت:
“حسنا. حان وقت الإغلاق“
توجهت نحو الباب تكتم تثاؤبا ..قال أريستيد بنبرة آمرة فاجأته:
“سأبقى هنا“
التفتت إليه وهي في الطريق إلى الباب وقالت:
“طبعا. لقد اتفقنا على ذلك”
وتابعت سيرها . سحب أريستيد كمي قميصه وأدخلهما في كمي المعطف لأنهما كانا متآكلين. شرب كأسا أخرى. أشعل سيجارة. أطفأها. أعاد إشعالها. كان ينظر إلى المرأة. بطء حركاتها يضيق الخناق على صبره. رآها تحمل كأسا وتذهب إلى الكونتوار ثم تفعل نفس الشيء بمنفضة وفنجان.
عندما نظفت الموائد شعر بارتياح كبير . توجهت هي نحو الباب. وبدل أن تغلقه وقفت دون حركة. اتكأت على الإطار ونظرت إلى الشارع . سألها هو
“ماذا في الأمر ؟“
“يجب إدخال موائد الرصيف“
وقف وهو يلعن بين أسنانه. تقدم نحو الباب وقال ليبدي قيمته:
“هذا عمل الرجال“
عندما أدرك الرصيف قفز. هناك ثلاثون مائدة بكراسيها ومنافضها.قام بعملية حسابية ذهنية و أدرك أن ذلك سيستغرق ربع ساعة على الأقل.
قالت صاحبة البار:
“إذا تركناها في الخارج سيسرقونها”.
شرع أريستيد في العمل. بدأ يعرق بغزارة وهو لا يزال في منتصف مهمته. رتب الموائد الحديدية الثقيل . على العتبة كانت صاحبة المحل تنظر إليه بحب. وعندما يمر من أمامها لاهثا تمد يدها وتداعب شعره. تعيد إليه هذه الحركة قوته ويوهمها أنه الزوج الذي يقوم بواجبه البيتي حتى يمارس حقوقه بعد ذلك. بدت له موائد الرصيف تتعدد .اشتكى:
“لم أعد أستطيع“
قالت المرأة ساخرة:
“كنت أعتقد أنك أقوى من ذلك“
حدق في عينيها . أضافت وهي تغمزه:
“هيا. لم يبق إلا القليل“
بعد نصف ساعة أصبح الرصيف فارغا. أخرج أريستيد منديله .جفف العرق المتصبب على وجهه.تساءل هل يؤثر مجهود كهذا على فحولته. من حسن الحظ أن البار رهن إشارته و أن كأسا واحدة تعيد إليه قوته بسرعة. وهو على وشك الدخول قالت له المرأة:
“والأزهار.. ستدعها في الخارج ؟“
رأى في مدخل الرصيف إناء ضخما من الطين نبث فيه غرنوق تافه. ضاعت كل أوراقه. تسلح بشجاعته ورفعه. زحف نحو الباب وقد أحنه المجهود المبذول. و عندما رفع رأسه رأة المرأة تغلق الباب وتنظر إليه بنفس الابتسامة .
همس:
” افتحي“
حركت صاحبة المرأة أصبعا رافضة بدلال.
“أرجوك.. إن هذا ليس وقت مزاح“
دفعت المرأة الرتاج وانحنت باحترام ثم أدارت له ظهرها. نظر إليها وهي تبتعد بخطوات متعبة دون أن يضع الإناء . ثم رآها تجمع الكؤوس و تطفئ النور ثم تختفي من باب أقصى البار.
عندما ساد الظلام والهدوء رفع هو الإناء فوق رأسه وتركه يسقط على الأرض.أعاده صوت ارتطام الإناء الطيني بالأرض وتطاير شظاياه إلى نفسه. تعرف في كل شظية على جزء من أوهامه المهدمة. أحس آنذاك بخجل عميق يغمره كأن أحدا بصق على وجهه.