من أجل رد الاعتبار لجمالية روح مراكش

من أجل رد الاعتبار لجمالية روح مراكش

باريس- المعطي قبال

في الظرفية الراهنة التي تتميز بالعنف، الأوبئة، بالحروب السرية والعلنية، بالتمايز الاجتماعي والطبقي، بزحف الفقر… يسعى الناس إلى إيجاد حلول شافية تقيهم من شر هذه الآفات المزمنة. منهم من ينفس عن واقعه بزيارة السادات والصالحين، منهم يفضل عيادة أخصائيين نفسيين، منهم من يجد ضالته في الدين، منهم من يقبل على ممارسة التصوف بصفته علاجا ناجعا من فضائله شفاء الأرواح والخواطر. مع الطفرة الإسلاموية اتجه الكثير من المسلمين إلى القول أن التصوف هو مجال التسامح والإخاء والغيرية. وقد ذهب بعض الباحثين في الفكر الصوفي إلى القول بأن “الإسلام سيكون صوفيا أو لا يكون”. ويذكر أن التصوف، تاريخا، مدارس، ممارسات، وتعليم يحظى بعناية فائقة لا فحسب من لدن أتباع طريقة ابن عربي، ابن الحسن الشاذلي، الطريقة التيجانية، القادرية، البدوية وغيرها من الطرق المنتشرة في أنحاء المعمور. كما يتابع التصوف من طرف ناشرين كبار وجدوا في إقبال الجمهور على اقتناء الكتب الصوفية سوقا مزدهرة. هذا دون الحديث عن اعتناق أشخاص من أصول دينية مسيحية للإسلام والتحاقهم بهذه الطريقة الصوفية أو تلك.

على مستوى المغرب والأندلس، ثمة مؤسسات صوفية نذكر من بين أعلامها أحمد بن عجيبة، أبو العباس أحمد السجلماسي، أحمد بن إدريس الفاسي، أبو الحسن الششتري، محمد بن عبد السلام بن مشيش، سبعة رجال، القاضي عياض، الجزولي، الشاذلي  والقائمة طويلة.  أهم ما يميز هذه المؤسسات هي استمراريتها ورسوخها في الزمان. على هدي هؤلاء الأعلام والصالحين تشهد بعض مدن المغرب تظاهرات صوفية يساهم فيها باحثون ومفكرون أو متخصصون في الفكر الصوفي يفدون من مختلف أنحاء العالم، وذلك بغية تجديد الأسئلة وتعميق البحث أو تشارك الآراء والمواقف فيما  اكتشف من جديد في مجال المدارس، الخطابات، التوجهات.

في هذا الإطار، تحتضن مدينة مراكش من 19 إلى غاية 25 أكتوبر الجاري، النسخة الحادية عشرة من «الموسميات المراكشية» تحت عنوان: «حاضر ومستقبل المدن العتيقة… التعرف على التراث الهندسي والحضري وذاكرته في المغرب العربي والمشرق». تشرف «جمعية المنية» على تنظيم هذه التظاهرة الدولية. ويشمل المهرجان عدة فعاليات موسيقية، فكرية، أدبية تخاطب التراث المغربي المراكشي تحديدا. والموسميات مهرجان يزاوج بين السماع الصوفي والفكر. بين مقتضيات التقليد والحداثة. وتنظم حلقاته في أمكنة تاريخية ذات بعد رمزي قوي، مثل المنارة، مدرسة بن يوسف، قصر الباهية، باحة الكتبية وغيرها من الأمكنة الشهيرة…كما سيتم تنظيم تكريم للمهندس شارل بوكارا وفنان الملحون عبد الحق بوعيون

على المدى البعيد، يبقى الهدف هو إحداث القطيعة مع صورة مراكش بصفتها مجالا لليالي الأنس والجيت سيت للتركييز على تاريخها الثري، هويتها التعددية، أبعادها المعمارية، ومستقبلها الكوني أو العالمي. في هذا المقابلة، يلقي جعفر الكنسوسي، رئيس جمعية المنية ومنظم هذه الموسميات أنوارا كاشفة على هذا المنجز لرد الاعتبار لمدينة مراكش وتسجيلها ضمن دينامية مستقبلية عالمية دون نسيان ماضيها الغني.   

یبدو أن المھرجان أسترد كلمة «لبساط» المستعملة في الثقافة الشعبیة لتطبیقھا على المجمع الصوفي. ما الغایة من إعادة ھذا التوظیف؟

جعفر الكنسوسي:  منذ أن شرعنا في عملنا الثقافي واقتراحاتنا ابتداء من 1993 بمیمون ابتداء ̋ الموسمیات المراكشیة ̏ بمبادرة من فریق عمل مجلة آفاق مغاربیة، اجتھدنا فوضعنا ما یشبه  قاموسا من المصطلحات التي نستعملھا منذ التسعینیات من القرن الماضي منھا البساط والبسائط، والموسمیة والصبوحي بل حتى لفظ السماع لقي رواجا جدیدا أسھمنا في إخراجه من دائرة تداوله الأصلیة في متون التصوف. كما نستعمل المجلس بدل الصالون الأدبي. بید أن ھذا المنحى لم یقتصر على المصطلحات بل انتصرنا للتراث واتخدنا قضیته بجانبیھا المادي المتمثل في النسیج الحضري العتیق والمعنوي غیر المادي میدانا للعمل والتجدید.

وفي الحقیقة یعود الأمر إلى المحبة في اللغة العربیة التي نجدھا بقوتھا وحیویتھا الباھرة تظھر في المتون القدیمة وفي مقدمتھا مصنفات كبار الصوفیة. أما إشارتكم لشیوع استعمال كلمة البساط فھي كما أشرتم متداولة في الثقافة الشعبیة في مسرح الحكواتي مثلا، إلا أنه وكما یذھب بعض الباحثین في الدراسات الصوفیة حالیا فمجمل ما نسمیه ثقافة شعبیة نجد أصوله على التحقیق في أدبیات الزاویة ومؤسسات الصلاح بالجملة. إضافة إلى كون مصطلح البساط نقف علیه في استعمالات كثیرة كبساط الأنس وبساط القرب وبساط المنادمة الإلھیة… في كتابات مشایخ التصوف ونجد كذلك مصطلح البساط في قاموس البناء العتیق كذاك الجناح الطائر الصیت بقصر الباھیة بمراكش المسمى لبساط، لكن استعماله یبقى خافتا وأقل شیوعا.

في فن السماع نجد آثارا وتدخلات وافدة من أقطار الشرق الأدنى والأقصى وأیضا من إسبانیا. ھل لا تزال ھذه الآثار حیة في متن السماع؟

جواب: فن السماع تراث فني عالمي تطمح موسمیة مراكش إلى الحفاظ علیه بجمیع روافده. أرى أن سر نجاح مجالسه یكمن في تنوع مادته الشعریة، وإن شئنا قلنا مطیته الشعریة ببعدھا الأدبي العرفاني الصوفي المصحوبة بالطبوع المغربیة الأندلسیة أو المغربیة الصرفة، علما أن التوحید واحد كما قال أصحابه. سبق لي أن نشرت مؤلفا حول السماع بمناسبة إقامة عام المغرب بفرنسا سنة 1999 أوردت فیه نماذج من الأشعار المستعملة حالیا في مجالس الذكر أو عند المناسبات العامة والخاصة. ولازال ̋النفاقون » أو القوالون، منشدو الحضرة ینشدون شعر ذي النون المصري إلى جانب شعر بن الخطیب، والحلاج یلیه أبو مدین أو ابن الفارض ویبقى المحبب عند المغاربة أبو الحسن الششتري الأندلسي المغربي شیخ الشراب الروحاني والخمرة الإلھیة التي من ذاقھا غنى.

ثمة فقرات متنوعة تدور ھنا حول التراث المبني للمدن العتیقة والقصبات وامتداده في معرض الذاكرة والتراث المعماري والحضري، وسماع السماع الصبوحي، مجلس طرب الآلة الصباحي بقبة المنارة ̏. نحن إذا بصدد مھرجان یرد الاعتبار لتقالید الأنوار؟

جواب: تتفرد موسمیة سماع مراكش بجمعھا بین أمرین إثنین یحیطان بأطراف التراث، أعني المادي والمعنوي. ومن لطیف الموافقات أن تتعھد مدینة مراكش العتیقة ̋ أم المدائن ̏ ھذه الرؤیا بضخامة مساحتھا التاریخیة داخل السور وعظم شأن مشروعھا السیاسي والروحي في تاریخ الغرب الإسلامي. وقد عبرنا عن ھذا الشأن في ملصق ھذه الدورة بمزجنا بكیفیة فنیة بین منزل من عمل الراحل المھندس العربي المصري حسن فتحي وآلة عود الرمل الأثیرة في مجالس السماع المغربي الأندلسي. فعلا ھذه رؤیة سلیلة ما أسمیه ̋ متتالیات ̏ ثقافیة في محاورة دائمة مع سابقاتھا في تاریخنا الثقافي والروحي. وأقرب محطة نحاورها ھي تلك المسماة بزمن الإصلاح في القرن التاسع عشر ومن تجلیاتھا في المباني قبة المنارة وقصر الباھیة وتوأمھا قصر الزاھیة وكناش الحایك في السماع الموسیقي وتحقیق القاموس المحیط للغة العربیة بمراكش وترجمة الكتب الأوروبیة المتأخرة في علم الریاضیات والفلك إلى اللغة العربية كذلك في نفس الزمن. ولنا نسبة تصلنا بزمن الأنوار في تاریخنا وھو القرن السابع الھجري الذي أسمیه «الزمن الوھاج».

مھرجان السماع بمراكش والثقافة الصوفیة بفاس حدثان یعنیان بالحفاظ على الموروث الصوفي على مختلف أشكاله وتطبیقاته. ماھو وقع ھذا التراث وشعبیته بالمغرب خصوصا أن تیارات دینیة متطرفة تخترق أو تحاول اختراق المجتمع؟

جواب: كل من یھتم بالمظاھر الدینیة والحضاریة للمغرب یمكنه أن یرصد مدى اھتمام أھل ھذا البلد بعملھم الدیني التاریخي ومن المظاھر الأولیة ھي ملایین زوار المواسم والأضرحة والزوایا، إما مواسم الشكر وإما مواسم الرجاء أو احتفالات المولد النبوي. ومحصلته أن ملایین المغاربة مازالت لھم صلة قویة متجذرة بمؤسسات الصلاح ھاته وبمواسمھا وعاداتھا المستمدة من عمل أھل المغرب في الدین. وبالرغم من المخاصمة والمغافصة التي تشھرھا الأوساط السلفیة في وجه ھذه الممارسات فإن الأبحاث في الدراسات الإسلامیة الرصینة في الغرب على التحدید تبین جلیا أن تدین المسلمین حالیا مازال یدین بالكثیر للعمل الدیني التاریخي للملة الإسلامیة. فلا یعقل أن یتوارى عمل دیني أرساه الصوفیة لمدة ألف عام وھیمن على ثقافة المسلمین بھذه السھولة ولو أن المد السلفي في جوھره یبقى سیاسیا. محور فاس مراكش ھو السند الروحي العتیق ویتجدد باستمرار. ولو أن سیاسة الحمایة قبل قرن قد فضلت بعض المدن الساحلیة واصطنعتھا لنفسھا لإضعاف المحور المذكور فالواقع أن ھذا المحور الداخلي یتجدد ویبقى حمالا لأصالة المغرب بامتداده نحو الشمال في بلد الھبط ونحو الجنوب نحو سوس ووادي درعة والصحراء المغربیة وما وراءھا في إفریقیا الغربیة.

ماھو موقع وتمثیلیة النساء في ھذه التظاھرات؟

جواب: كانت أوساط النساء ولازالت لھا تعلق قوي بمؤسسات الصلاح. فنجد أغلب جمھور الزوایا من الزائرات، ربما لأن النساء یدركن بعاطفتھن وبعقولھن حقیقة التصوف أكثر من الرجال. أقول ھذا مع أني من خلال دراساتي لكتب التراجم حتى الصوفیة منھا لم تنصف النساء في تاریخنا وبقي تشنج بیٍن في ھذه المؤلفات ولو أن النساء شقائق الرجال في المقام وفي الأحكام كما یقول الصوفیة ولیس ھناك مطمح أو منصب روحي تبقى النساء دونه، لكن حیفا كبیرا مورس على النساء عبر الأجیال استطعنا تجنبه قدیما وتجاوزناه الیوم حیث نجد الیوم أغلب الجمھور في ھذه التظاھرات من النساء.

ھل من عمل تدویني، بالصوت والصورة لھذا التراث خصوصا وأن التقنیات الحدیثة الیوم قد تساعد على القیام بھذا العمل؟

<

p style=”text-align: justify;”>جواب: یوثر عن الشیخ سیدي أحمد التجاني دفین فاس ھذه القولة: « وبسیر أھل زمانك سر، ولنا فیھا عبرة ومثل ». أجل منذ أن بدأنا عملنا في التسعینیات من القرن الماضي حرصنا على توثیقه بالصوت والصورة وراكمنا مادة غزیرة. ومازلنا نأمل في صياغة ھذا الرصید النفیس في قوالب میسرة، لعلنا ننجح في آمالنا.

Visited 19 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".