عبد الرحمان باكو.. الغيواني الأخير…
السؤال الآن:
مرت قبل أيام الذكرى العاشرة لرحيل الفنان عبد الرحمان قيروش، المشهور باسم “باكو”، أحد أعمدة مجموعة “ناس الغيوان”، الذي توفي يوم 14 أكتوبر سنة بمدينة الدار البيضاء 2012. هنا إطلالة مختصرة من سيرة هذا الفنان الكبير، الذي كان مؤسس المجموعة بوجميع يقدمه للناس لما التحق بهم: “ها الغيوان”…
كان انضمام عبد الرحمان باكو إلى “ناس الغيوان” هو ما أثار الانتباه إلى اللون الغنائي والموسيقي لـ”كناوة”، فجرى تصريف عشرات الأغاني ذات الموسيقى والإيقاعات الكناوية داخل المجموعة، جعل المهتمين والباحثين ينبشون في هذا اللون الفني ليصلوا إلى أعلامه ورواده كالبلغيثي، والحاج صام، وباقبو، وغيرهم..
وفي الحقيقة، فإن طريقة عزف لمعلم باكو على آلة «السنتير» هي التي كانت مثار إعجاب واستقطاب لأهل الموسيقى من مختلف أقطار العالم، فيكفي أن نذكر بأن الفنان العالمي، جيمي هاندريكس كان يلقب عبد الرحمان باكو بـ «طبيب الأشباح»، وهذا اللقب لم يطلقه عليه هكذا.. فقد كان جيمي هاندريكس يأتي إلى الصويرة عاصمة «الهيبيزم» في الستينات والسبعينات ليعيش عوالم كناوة، لكن بعد أن تعرف على الشاب باكو الذي لم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من العمر، أصبح هاندريكس يأتي خصيصا من أجله، ويحضر معه «الليلة الكناوية» وأحيانا يعزف إلى جانبه في الحضرة، الشيء الذي أغضب حينذاك مختلف الزوايا الكناوية بالصويرة وغيرها، معتبرين أن عبد الرحمان طائش و «ماشاربش عقلو» لأنه يسمح بتواجد «الكفار» في الحضرة، وهذا الأمر كان مرفوضا لدى رواد كناوة، لأن الحضرة تقتضي من بين ما تقتضيه الطهارة، أي الوضوء قبل الدخول إلى طقوس الحضرة، حتى لايصاب الحاضر بمس الجن.
انفتاح هذا الشاب على العالم الآخر هو ما أعطى إشعاعا لهذا التراث الذي كان مغلقا، وكان ممارسوه لايسمحون بممارسة هذه الطقوس للجميع ..
فن كناوة سيدخل ميدان المسرح العالمي، من خلال عبقرية لمعلم عبد الرحمان باكو، بعدما استرعى عزفه اهتمام الفرقة المسرحية الانجليزية «ليفينك تياتر» وهي فرقة كانت تنتمي إلى عالم «الهيبيزم»، وكانت من أشهر الفرق المسرحية في العالم، فطلب منه مخرجها بأن يتم اعتماده كعازف للفرقة، وأن يقوم بالتمويج الموسيقي .. لم يكن إذاك معروفا بلقب «باكو» فاسمه الحقيقي هو عبدالرحمان قيروش. وبعد انضمامه إلى فرقة «ليفينغ تياتر»، وبعد جولاته معها ستعجب به بطلة الفرقة «كريستين»، التي كانت مولعة بآلة «السنتير»، وكانت دائما تتبع عزف عبدالرحمان، والطريقة التي يسوي بها أوتار الآلة. وهي من أطلق عليه لقب «باكو» ليس نسبة إلى شخص، ولكن للنوتة التي يصدح بها السنتير عندما تسوى أوتاره، وهي «النوتة» التي كان يسوي عليها عبد الرحمان آلته.
وقد تزوج باكو من كريستين وأنجب منها طفلة تعيش الآن في انجلترا مع والدتها التي سيفارقها عبد الرحمان لأنه كان رافضا العيش في عالم بعيد عن كناوة ..
الثائر الصغير على الطقوس الكناوية القديمة وبفعل احتكاكه منذ حداثة سنه بفنانين عالميين كبار، سيخلق طريقته الخاصة في العزف على آلة السنتير، لتتحول إلى آلة عزف حقيقية، وهو ما كان يثير الاندهاش ، ويشد إليه كل الموسيقيين من مختلف أقطار العالم الذين كانوا يستغربون لآلة بـ«وترتين» من «المصران» تعزف كل تلك الأنغام ..
من هذه العبقرية جاء ولوج الغيوان إلى العالمية، وليس كما يعتقد الجميع بأن الغيوان مجموعة «ثورية»، لذلك استقطبت اهتمام المتتبعين والباحثين في الغرب .. ويظهر من خلال كل الأفلام الوثائقية الغربية التي أنجزت حول الغيوان ومعها كل الكتابات، أنها كانت تهتم بالآلة العازفة والتي كانت بمثابة نقطة الجذب التي دفعت بأولئك إلى البحث في «كلام الغيوان»..
وفي الحقيقة، فقد كان أول العارفين بقيمة لمعلم عبد الرحمان باكو هو الفنان الكبير الطيب الصديقي، فرغم أن عبد الرحمان لم يكن ضمن فرقته المسرحية التي كانت تضم أعضاء من الغيوان وجيل جيلالة، فهو الذي نصح الأخيرة بأن تضم إليها عبد الرحمان. فجيل جيلالة عندما تكونت، وكان من ضمن أعضائها الزوغي والدرهم ومولاي الطاهر، أسر لهم الصديقي بأن هناك أحد أجود عازفي آلة السنتير في المغرب، ويتعلق الأمر بباكو، فسارعت المجموعة إلى ضمه وبالفعل أنتج معها أغنيات خالدة، منها «الكلام لمرصع»، «العار آبويا»، و «يوم ظهرت لجبال واقفة» ..
ويعد المرحوم بوجميع، ثاني فنان عرف قيمة لمعلم باكو، حيث يحكي عمر السيد في سيرته الذاتية التي نشرت في بعض الصحف، بأن بوجميع عندما رأى عبد الرحمان مع جيل جيلالة، قال له «بأن هذا الولد بلاصتو في الغيوان»، وشاءت الصدف أن يختلف عبد الرحمان مع جيل جيلالة، وهو اختلاف فني محض حول طريقة عزف إيقاع إحدى الأغاني، ستدفع به أثناء التسجيل، إلى مغادرة الاستوديو والسفر مباشرة إلى مسقط رأسه الصويرة.. ليلتحق به بعد مدة، عمر السيد وبوجميع، وما أن طرقا بابه حتى حمل آلته وقال لهما «أنا غادي معاكم» ..
وكان بوجميع يقدمه الى أصدقائه من الكتاب والفنانين والمسرحيين بالقول «ها الغيوان» . وبالفعل كان المرحوم بوجميع يعلم القيمة التي سيضيفها لمجموعته باستقدامه لهذا لمعلم الكناوي، فأول أغنية والتي يعتبرها عبد الرحمان «قالب السكر» الذي ولج به دار الغيوان هي «غير خودوني» ذات الايحاأت الكناوية، والتي لقيت نجاحا واسعا . من جهة لجودة نغماتها وتوزيعها الموسيقي، ومن جهة ثانية لجرأة أبياتها الغنائية. وهي الاغنية التي ستقلب فيما بعد أسلوب الغيوان الغنائي، إذ سيتضح فيما بعد بأن عبد الرحمان «سيقلب» مسار المجموعة رأسا على عقب، وستصبح ميالة إلى اللون الكناوي أكثر منه إلى أي لون آخر، بل إن تاكناويت، هي التي ستحيي المجموعة من جديد وتجعلها على رأس المجد طيلة الخمس وعشرين سنة التي أعقبت وفاة بوجميع. والكل يتذكر أنه بعد وفاة فنان الشعب الحقيقي بوجميع، اعتقد الناس بأن الغيوان انتهت ولن تستطيع الاستمرار في غيابه، لكن بعد مدة الحداد، ستظهر المجموعة بأغنية «النادي أنا» ذات المطلع الكناوي، لتعلن في الناس بأن المجموعة مازال في جعبتها الكثير وبأنها قادرة على العطاء… ومع المنافسة التي كانت تعرفها الساحة بين المجموعات، خصوصا وأن جيل جيلالة ولمشاهب ظهرتا بأغان قوية وأنواع عزف مختلفة وأصوات رائعة، كانت تاكناويت هي من أعادت الغيوان إلى المنافسة. فكلما قيل بأن المجموعة «طفات» إلا كذب سنتير لمعلم عبد الرحمان باكو هذا الرأي. ففي أوج عطاء جيل جيلالة ولمشاهب ولرصاد ورعاة الصحراء، خرجت الغيوان بأغنية أخرى ذات إيحاأت كناوية وهي أغنية «نرجاك أنا» التي سيبدع فيها كثيرا رئيس المجموعة عمر السيد، (آش بغيت أنا بهاد العالم. لاراحة ولا نظام.غير الفوضى وزيد للقدام.)
وكلما اختلط سوق الكاسيط بأغاني الشعبي، وبدأ نسيان المجموعة أو التشويش عليها، إلا وطلعت أغنية كناوية أخرى تعيد الغيوان إلى المجد، منها «عايشين عيشت الدبانة في لبطانة»، و «تاغنجة»، و «زاد الهم»، و «الضهصيص»، و «أهل الحال».
ويتذكر الجميع بأن آلة السنتير أو الكنبري، كانت لدى المغاربة بمثابة آلة للتسول، لكن لمعلم عبد الرحمان باكو جعلها من بين أهم الآلات في العالم، ليعطي المجد لكناوة في المغرب بأسره رفقة مجموعة من العازفين الآخرين الذين لاينكر أحدهم إسهاماتهم في هذا الباب. وأصبح الآن مهرجان دخل العالمية وهو مهرجان كناوة الذي تتتبعه كل وسائل الإعلام عبر العالم، وكان عبد الرحمان بمعية مجموعة من «المعلمية» قد أسس له في البدايات، قبل أن تتدخل آلة الاقتصاد لتقصيه، بل ولتتنكر لمجهوده الذي أغرق منظميه في ملايير الدولارات، دون أبسط التفاتة، ودون عرفان بالجميل، بل حتى دون إنقاذ شباب المدينة من التهميش.