الصحافة الثقافية لمقاومة التفاهة
جمال المحافظ
لم يعرف المغرب الصحافة الثقافية، إلا في وقت جد متأخر بالمقارنة مع نظرائه بالبلدان العربية من قبيل مصر ولبنان وسوريا، التي يعود تاريخها بهذا التخصص الإعلامي الى أواسط القرن التاسع عشر،. وكانت ” العلم” التي تأسست سنة 1946، أول صحيفة مغربية تصدر ملحقا ثقافيا أسبوعيا عام 1969، تلتها “المحرر”، وشكلتا آنذاك ملتقى لاحتضان المفكرين والمثقّفين ليس فقط المغاربة ولكن العرب والأجانب والتعريف بهم وبإنتاجاتهم المعرفية والابداعية.
منذ أواسط السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، توسع الاهتمام بالصحافة الثقافية، بإحداث منابر إعلامية جديدة، عملت بدورها على اصدار ملاحق متخصصة في المجالات الأدبية والفكرية، استلهاما من تجربتي ” لعلم” لسان حزب الاستقلال، و” المحرر” التي خلفتها سنة 1983 صحيفة ” الاتحاد الاشتراكي” الصادرة عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وإذا كانت الصحافة الثقافية، قد اضطلعت – على مدى الخمسين عاما- بمهام التوعية والتثقيف، وشكلت جسرا للتواصل مع مختلف قضايا الإبداع الأدبي والفني داخل المغرب وخارجه، فإنها شهدت – في ظل التحولات التقنية الاجتماعية والإعلامية المتسارعة- تراجعا ملحوظا تعددت أسبابه منها تدنى مستوى المقروئية وانخفاض نسبة رواج الصحف والمبيعات، والتوجه نحو الرقمنة.
الثقافة والهوية
فالصحافة الوطنية المغربية، احتضنت البعد الثقافي منذ تأسيسها في زمن الاحتلال الفرنسي. واعتبر زعماء الحركة الوطنية- الذين كانوا أيضا مثقفين، مبدعين ومفكرين- أن الثقافة سلاح جوهري في الحفاظ على الهوية المغربية ومقاومة المستعمر الفرنسي والإسباني. واستمر هذا الاحتضان للثقافة والمثقفين حتى بعد الاستقلال، وطيلة مرحلة الكفاح من أجل الديمقراطية والحرية. فالصفحات الثقافية والفنية والملاحق الثقافية التي تصدر بانتظام، كانت حينها – حسب الإعلامى و الكاتب الصحفي عبد العزيز كوكاس “مثل منارات مضيئة في زمن سنوات الرصاص خاصة، ومشتلا للنخب المثقفة التي كانت تجد ضالتها للتعبير في الصحافة الوطنية”.
بيد أن المجلات الثقافية التي تصدر في المغرب الآن، لا يمكن حصرها بسهولة، كما لا يمكن حصر جغرافيتها في الحواضر كبرى، كما كان عليه الحال في أواخر القرن الماضي. وقال “اختفت تلك المرحلة التي كنا نسمع فقط عن دعوة الحق، أقلام، آفاق، بيت الحكمة، الثقافة الجديدة، لاماليف، البديل، الأزمنة الحديثة، أمل، علامات، مواقف، مقدمات.. إلخ ، أما الآن أصبحت اللائحة أطول من أن نحصرها في عشرين أو ثلاثين عنوانا، كما يذكر الصحفي والقاص سعيد منتسب.
واليوم نحن شهود على تحولات كبرى، في زمن الاكتساح الرقمي لكل مجالات الحياة، توجد نقط ضوء هنا وهناك، تستوعب أن التكنولوجيا برغم كل أشكال التفاهة التي تسهل نشرها، تعتبر حاملا يمكن الاستفادة منه وتوظيفه للحفاظ على شعلة الثقافة وعلى مساهمة المثقفين في حضورهم وفي مساهماتهم في التحولات الجارية كما يرى كوكاس الذي لاحظ بأن هناك مجموعات عديدة على منصات “واتساب” و”تيلغرام” خاصة بالكتب والفن والسينما والنقاش الثقافي والفكري، تسعى لاستغلال الانتقال من الورقي إلى الرقمي، وتمنح المثقفين والمبدعين في مقاومة التفاهة والإسفاف واستمرار الحضور في الواقع اليوم لمجتمعهم.
الثقافة من الورقي إلى الرقمي
فتعدد العناوين الصحافية التي تعنى بالثقافة يدل، في العمق، على اتساع الاهتمام بـ”الثقافي” حتى وإن تولد لدينا اليقين بأن التفاهة حققت انتصارها العارم والشامل وأتت على الأخضر واليابس حسب منتسب صاحب مؤلف “طائر أبيض بأجنحة مؤقتة”.
ومن أجل الترافع عن مكانة الثقافة في الممارسة الإعلامية وتوسيع حيزها في المنابر الصحفية، والمساهمة في تطوير شروط ممارسة الصحافة الثقافية، ومساعدة الصحافي الثقافي على أداء مهامه، وتعزيز المشاركة في الإنتاج الإعلامي الثقافي وتقوية أنشطته، تأسست سنة 2019 الرابطة المغربية للصحافة الثقافية الذي يعرب رئيسها محمد جليد الإعلامي الأستاذ الباحث والمترجم عن اعتقاده بأن “ثمة عدة مؤشرات تدل على المركز الثانوي الذي تحتله الثقافة ضمن اهتمامات وسائل الإعلام المختلفة في المغرب”.
فأول مؤشر يتبدى من خلال العنصر البشري؛ ذلك أن الأقسام الثقافية في هذه الوسائل لا تتألف من عدد مماثل من الصحافيين والصحافيات، كما في الأقسام السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية، يوضح رئيس الرابطة التي تأسست بمبادرة من عدد من الصحافيين المغاربة المهتمين بالشأن الثقافي بوسائل الإعلام المكتوبة والسمعية البصرية والالكترونية.
ثانوية الثقافة في الإعلام
وأضاف أن المؤشر الثاني فيتجلى في التضحية بالصفحات والفقرات الثقافية في الحالات الخاصة (كالأحداث الكبرى، الملفات الخاصة، الإشهار…)، في حين يتمظهر المؤشر الثالث من خلال أسبقية الإشهار عن المحتوى الثقافي، بل وعن المحتويات الأخرى، حيث غالبا ما يتم إلغاء التغطيات الثقافية لتوفير الحيز للإعلانات وللإشهار، كما يرى جليد الذي يلاحظ نزوع الوسائل الإعلامية المختلفة إلى الاهتمام بجوانب الإثارة، بدل المضامين الفكرية والفنية والإبداعية المختلفة، وهو ما يمثل في نظره “مؤشرا قويا دالا على ثانوية الثقافة في الممارسة الإعلامية”.
غير أن تأسيس رابطة وطنية تعنى بالصحافة الثقافية أثر واضح في زيادة الاهتمام بالإعلام الثقافي، إذ أطلقت الرابطة، منذ تأسيسها، نقاشا عموميا، من خلال تنظيمها عدة ندوات وورشات كانت غايتها التحسيس بأهمية الرأي والحدث الثقافيين في الممارسة الإعلامية المغربية حسب جليد.
الأسبقية للاشهار على الثقافة
غير أن زميله سعيد منتسب فيرى أن الصحافة الثقافية – مع الفارق في الاهتمام بطبيعة الحال- ستختفي بالطريقة التي تهدد بها التكنولوجيا الوجود الإنساني نفسه. إلا أنه أردف: ” صحيح أن عادات القراءة تغيرت، وصحيح أن الألواح الإلكترونية والهواتف الذكية والحواسيب صارت تقضم يوما بعد يوم المساحة التي كانت للكتاب أو المجلة الورقيين، لكن لا يعني ذلك في نظري، وبأي حال من الأحوال، وخارج أي تحيز نوستالجي، نهاية الصحافة الثقافية الورقية”. وأشار الى أن ثمة بعض التغير الذي بدأ يطرأ على مواقف هيئات التحرير من التغطيات والمتابعات الثقافية في وسائل الإعلام، حيث” زادت في السنوات القليلة الماضية، البرامج الثقافية في القنوات الإذاعية والتلفزية، ولو أن الأمر ما يزال محتشما، كونها لا تتعدى بضع دقائق”.
الانتصار للاستثناء الثقافي
وفي هذا الصدد لاحظ أنه “بدل أن يقل عدد المجلات الثقافية بفعل “الاجتياح التكنولوجي” زاد عددها، ويزداد كل يوم عبر إقدام مجموعة من المنظمات والجمعيات الثقافية والمؤسسات والجامعية على إصدار مجلات موضوعاتية خاصة بها مع استفادة المجلات الثقافية من الإمكانات الفنية الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا على مستوى التصميم والتركيب والإخراج والطباعة مشيرا الى اتساع هامش الاختيار بين التخصصات الثقافية، (الآداب، التاريخ، التشكيل، السينما، السوسيولوجيا، الفلسفة، المسرح، علم النفس… إلخ)، وكذا هامش النشر والتسويق والتوزيع (الدعم العمومي، الدعم المؤسساتي الجامعي، الشراكات الدولية، المعارض الوطنية، المعارض الجهوية، المكتبات، الخزانات الجامعية.. إلخ)، علاوة على بروز بعض المبادرات الخاصة في الإنتاج والاستثمار والترويج الثقافي عبر إصدار مجلات ثقافية.
أما محمد جليد فلفت الانتباه الى أن جائحة فيروس كورونا أبانت عن الحاجة إلى حضور الثقافة في الوسائل الإعلامية، ترجم بزيادة نسبية في حضور الوجوه الثقافية، خاصة من المنتسبين إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، في القنوات السمعية والبصرية والصحافة المكتوبة، خاصة خلال فترات توقف الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات عن الصدور.
الصحافة الثقافية رهان صعب
فوظائف الصحافة الثقافية هي في مجملها الوظائف التي تقوم بها الصحافة عموما من إخبار وتثقيف وترفيه، لكن الصحفي مصطفى بوبكراوي رئيس القسم الثقافي بوكالة المغرب العربي للأنباء سابقا، عبر عن اعتقاده الراسخ بأن أوضح أنه ” وإذا كانت هناك من خصوصية فهي ترتبط بطبيعة حقل الاشتغال، حيث يلعب الصحافي دور الوسيط بين عالم الثقافة( أحداث إنتاجات وشخصيات ..) من جهة، والجمهور المستهدف من جهة أخرى”.
فكلما كان الجمهور المستهدف واسعا، كلما اكتست هذه الوساطة أهمية أكبر وكلما كانت أكثر تعقيدا، مما تكون معه الصحافة الثقافية مطالبة بنقل “الحدث الثقافي” والتعريف بـ”المنتج الثقافي” بلغة وقاموس أكثر بساطة أو لنقل أقل تعقيدا من لغة وقاموس الحقل موضوع التغطية الإعلامية مع الحرص في الوقت نفسه على أن لا يصل هذا التبسيط إلى درجة المس بجوهر وقيمة الحدث أو المنتج . إنه التوازن والرهان الصعب للصحافة الثقافية، يؤكد بوبكراوي.
مواطنة واقعية وافتراضية
ويعتبر الجامعي سعيد بنيس أستاذ السوسيولوجيا في جامعة محمد الخامس بالرباط، أنه يمكن بصفة عامة توصيف مستقبل الصحافة المهنية في ظل الثورة الرقمية من خلال جدلية تنبني على أساس أنها صارت تحاكي منطق السيلان – بحسب عالم الاجتماع البولندي زيجموند باومان – حيث أن تدفق المعلومة وليس سرعتها و خضوعها لنخبة سائلة وعائمة، ترتهن بجدلية الربح المادي والحظوة المجتمعية جعل منها صحافة تابعة لقضايا وإشكالات متحكم فيها.
فالعهد الرقمي فتح مجال الصحافة لفئات عريضة من المجتمع، حيث انتقل الأفراد من مواطنين عاديين إلى مواطنين صحافيين من خلال تحول نوعي في طبيعة مواطنتهم حيت تم المرور من مواطنة واقعية إلى مواطنة افتراضية تتأسس على التداول والتفاعل الديجيتالي كمصدر للمعلومة وتداول الأخبار، يوضح بنيس صاحب مؤلف ” تمغربيت”.
وإذا كان صحيحا أن “الضحل طفا، و العميق توارى”، فإن سعيد منتسب يرى أنه على الرغم من ذلك ف” الحاجة إلى الانتصار لـ”الاستثناء الثقافي”، تجعل من الصحافة الثقافية هي الحصان الرابح الذي بوسعه مقاومة موجة التفاهة المهيمنة حاليا على الساحة، وهي التي بإمكانها قلب المعادلة التي تراهن عليها السلطة السياسية من أجل فرض ” النموذج الواحد”، خاصة إذا كان هذا النموذج مرتبطا ب” القولبة” و”الاستهلاك”.