غاستون باشلار: شعرية الشجرة

غاستون باشلار: شعرية الشجرة

    سعيد بوخليط

 باستمرار، تأخذ الشجرة حيوية اندفاعها ثم ترتجف أبديا في السماء، أوراقا أو أجنحة”

أندريه سواريس (أحلام الظِّل، ص 62).

     يقتضي الحديث عن التوافق بين حياة الحياة المتخيَّلة وكذا النباتية، كتابا بأكمله. موضوعاته العامة المثيرة جدليا، تتشكَّل انطلاقا من التالي  البراري والغابة، العشب والشجرة، الأجمة والدَّغل ، الخضرة والأشواك، النبات المعترش وشجرة الكرم، الأزهار والفواكه، ثم أنتَ نفسك: الجذر، الساق، الأغصان، وكذا الصيرورة الموسومة بفصول مزهرة أو جرداء، أخيرا القوى : القمح والزيتون، الوردة والسنديانة والعنب.

    عندما يغيب السعي نحو دراسة منهجية لهذه الصور الجوهرية، سيفتقد حينها التحليل النفسي للخيال الأدبي، العناصر التي تجعله قابلا كي يتأسس وفق صيغة نظرية، بالتالي يستمر تحت رحمة خيال الصور المرئية، معتقدا بأنَّ وظيفة الكاتب تتمثل في استعراضه لما رسمه الفنان التشكيلي. غير أنه، كيف لانفهم ارتباط عالَم النبات بعالم تأملات شاردة متميزة يمكننا تحديدها حقا بكونها نباتات تمثل محفزات صوب تأمل شارد خاص.التأمل الشارد النباتي، هو الأكثر بطئا وهدوءا وباعثا على الاسترخاء، حينما نستعيد الحديقة والمرعى، ضفة النهر والغابة، ثم نحيا لحظتها أفراحنا الأولى.

   يمسك النبات على نحو دقيق بذكريات تأملاتنا الشاردة السعيدة. يجعلها تولد ثانية مع حلول كل فصل الربيع.في المقابل، يبدو بأنَّ تأملنا الشارد يضفي عليها نموا كبيرا، وأجمل الورود، ورود إنسانية: ”يا أشجار الغابات، تستلهمين خبرتكِ بمنأى عني، داخل لغزكِ النباتي. لكن أنا من يعمل على تغذيتكِ” (1).

  غير أنه علم نبات الحلم ليس ناجزا. القصيدة مكتظَّة بالصور الخاطئة. صور فاترة استُنسخت ثم أعيد استنساخها ثانية، اكتسحت الآداب دون أن ترضي قط خيال الزهور. تثقل كاهل حمولة أوصاف معتقدة بأنها تنعشها . سنشعر بهذه الحمولة الزائدة، من خلال تصنُّعها، أجزاء شجاعة تسهل جدا كتابتها، هكذا أمسكت الأنامل بحياة نباتية خبيرة .لكن يبدو بأنَّ تعيين وردة اسميا، يعكس ألفة تربك التأمل الشارد. يلزم، كما الشأن مع باقي الكائنات ،تحقق معطى الشغف بعشق الورود قبل المبادرة إلى تسميتها. ثم لايهم إذا لقبناها بطريقة خاطئة. سنندهش جدا حين انتباهنا إلى أسماء الورود والأحلام.

   أريد من خلال صفحات معينة، بغض النظر عن إمكانية  ترتيب هذا ”الدَّغل”، الإلحاح على الوحدة العميقة والحيَّة لبعض الصور النباتية. سأتناول كمثال صورة الشجرة، ثم دراستها وفق مبادئ الخيال الديناميكي والمادي، بالتركيز خاصة على صور ذات ماهية  هوائية. صحيح، وجب دراسة الكائن الأرضي للشجرة، وكذا حياتها التحت- أرضية في إطار خيال للأرض.

   أوضحتُ عبر فقرات الفصل السابق الذي خصصته للحديث عن الطاقة النيتشوية، بأنَّ شجرة الصنوبر تمثل بالنسبة للخيال محورا حقيقي للتأمل الشارد الديناميكي. يدرك كل حالم ديناميكي كبير عمق هذه الصورة العمودية، وكذا الصورة ذات المنحى العمودي. الشجرة المستقيمة قوة بديهية تحمل حياة أرضية صوب السماء الزرقاء.

    أورد، أنجيلو دي جوبيرناتيس حكاية تبرر حقا هذه العمودية :”في منطقة أهورن (قرية ألمانية)، على مقربة من كوبورغ، تبعث ساحرة بريح مرعبة، أدت إلى تقييد حركة جرس الكنيسة  سخر الجميع في القرى المجاورة من ذلك : أحد الرعاة ولكي يخلص قريته من هذا العار ، بادر إلى ربط حبل كبير بين الجرس وشجرة صنوبر احتفظت دائما بنفس الاسم، ثم بحكم كثرة الابتهالات واللعنات السحرية فقد تأتى لها تمكين الجرس من وضعه السابق” (2). كيف نتمثَّل بشكل أفضل الدرس الديناميكي لشجرة الصنوبر :”هيّا، كن مستقيما على شاكلتي، وقفْ منتصبا، تخاطب الشجرة الحالم المنبطح”.

   تجمع الشجرة العناصر الأكثر تعددا، وترتبها. يقول بول كلوديل عن شجرة الصنوبر: ‘ ترتفع بمجهود، ورغم توطّد مجموع جذورها بين ثنايا الأرض، فقد خَفَّفَت من غلوائها، أطرافها المتعددة والمتضاربة، غاية نسيج أوراقها الهشّ والحسَّاس، حيث ستنطلق كي تبحث في الهواء نفسه وكذا الضوء على نقطة ارتكازها، وسيشكِّل العنصران ليس فقط إيماءتها ، بل فعلها الجوهري وكذا شرط قِوامها”(3)  .لايمكننا التعبير بطريقة أكثر تركيزا عن إيماءة الشجرة، وكذا فعلها العمودي الأساسي، ثم خاصيتها ”الهوائية، المعلَّقة” (ص 152). إنها مستقيمة جدا، بل وترسخ الكون الهوائي.

   تحت عنوان ”جنون النبات” بصيغته المراهنة جدا، استأنس فرانسيس جيمس مع استقامة الشجرة. يقول  “أحلم بأشجار، تتطلع دائما وجهة توازنها الهوائي. هكذا حياة شجرة التين، المشابهة لحياة شاعر: البحث عن الضوء وكذا صعوبة التماسك”. “في حين تنكسر بعض أشجار التفاح، التي فضلت جمال ثمارها قياسا لتماسك توازنها. إنها مجنونة”(4).

   علاوة على ذلك، بوسع هذه الحياة العمودية للخيالات الأكثر تنوعا ،سواء كانت نارية، مائية، أرضية، هوائية، أن تعيش ثانية موضوعاتها المفضَّلة. يحلم البعض مثل شوبنهاور، بالحياة التحت- أرضية لشجرة الصنوبر. بينما يستحضر البعض، خشخشة إبر غاضبة وكذا الريح.  في حين يشعر فريق ثالث، على نحو شديد للغاية، بالانتصار المائي للحياة النباتية: ”يرهفون السمع” إلى نُسغ صاعد . وفق هذه المبالغة للتعاطف النباتي، فإن بطل رواية لغرهارت هاوبتمان :”يلامس جذع شجرة الكَسْتناء” (5). ويحس بـ ”العصارات المغذِّية التي تصعد داخلها”.

   في نهاية المطاف، يعرف آخرون، كما لو بطريقة غريزية، بأنَّ الشجرة أب النار؛ يحلمون دائما بأشجار ساخنة تهيئ سعادة الاحتراق: أوراق نبات الغار، الشجيرات التي تطقطق، ثم شجرة الكَرْمة التي تتقلب وسط النيران، أمام شبكية العين، مادة النار والضوء، تحترق أصلا  نكهتها خلال صيف محتدم.

  هكذا، بوسع نفس الشيء في العالم بلورة “طيف كامل” للخيالات المادية. تأتَّى لعادات الأحلام الأكثر تنوعا، الالتئام حول نفس صورة مادية. وبقدر دهشة ملاحظة أنَّ هذه الأحلام المتنوعة، في حضرة شجرة باسقة ومستقيمة، تمتثل جميعها لتوجيه معين. يتمكن التحليل النفسي العمودي فرض صورته الأولى. أيضا، تخفق عوامل كالتي توقظ مفعول الخشب في محو صورة الشجرة الحيَّة. يحافظ دائما الخشب بين أليافه، على ذكرى قوته العمودية، ولن نتمكن قط من السيطرة على ذلك بغير اكتساب مهارة ضد معنى الخشب وأليافه .

   يمثل الخشب بالنسبة لبعض النفسيات، نموذج عنصر خامس – المادة الخامسة- بالتالي ليس نادرا، مثلا أن نصادف عند الفلاسفة الشرقيين، الخشب ضمن عِداد العناصر الجوهرية. بيد أنَّ تحديدا من هذا القبيل يقتضي الاشتغال على الخشب؛ لذلك يشكِّل حسب اعتقادي تأملا شاردا للإنسان الصانع. يلزمه إعطاء فارق دقيق أكثر بالنسبة لتحليل نفسي للعامل.

   بما أن فصول هذا العمل، اقتصرت على تحليل نفسي للتأمل الشارد وكذا الحلم، فينبغي الإقرار بالأهمية القليلة التي يحظى بها الخشب قياسا لمنظور حُلُمية عميقة. بينما تلعب الأشجار والغابات  دورا كبيرا في حياتنا الليلية، لايظهر الخشب قط بين طياتها. ليس الحلم أداتيا، ولايقدم وسائل، بل يعيش مباشرة في إطار سيادة الأغراض؛ يتخيل مباشرة العناصر ثم يعيش فورا حياتها الأصلية. نطفو عبر أحلامنا، دون مَرْكب، أو قارب ، أو بذل مجهود فيما يتعلق بحفر زورق داخل جذع الأشجار، مادام الأخير دائما أجوف بالنسبة للحلم،  فجذع الأشجار مهيأ دائما كي يستقبلنا والاستلقاء بين أحضانه، ثم النوم عميقا مستندين إلى يقين استيقاظ قوي وحيوي.

  إذن، الشجرة كائن يسلم من التشويه بفضل الحلم العميق.

  لنترك الآن  تأملنا الشارد يقتفي آثار صورة الشجرة.

  هذه الصور، سرعان ماتلقي بالأشكال جانبا! لذلك تنعم الأشجار بأشكال متعددة جدا! ثم تكتسيها أغصان، في غاية التضارب والتباين! وبقدر مايبدو مثيرا للاهتمام وحدة وجودها، بينما يكمن الأساسي، في وحدتي حركتها و مرفئها” (6) .

  بالتأكيد، يعود مصدر وحدتها الوجودية، كما يبدو من الوهلة الأولى، إلى وحدة جذرها. لكن الخيال لايقنعه ذلك أو الاكتفاء بالوقوف عند مستوى الوحدة الشكلية والخارجية. بل، لنترك أمرها ينمو ويتطور، ثم شيئا فشيئا  نشعر داخلنا بأنَّ الشجرة كائن ثابت بامتياز، يحظى من لدن خيالنا بحياة ديناميكية رائعة. صماء، بطيئة، اندفاع لايمكن إيقافه. غزو للخفَّة، خلق لأشياء طائرة، وأوراق هوائية مرتعشة!

  يعشق الخيال الديناميكي، دون توقف، هذا الكائن المستقيم دائما، الذي لاينام قط! “لسبب نموذجي، وحدها الشجرة في الطبيعة مستقيمة مع الإنسان” (7). الشجرة نموذج مستمر عن بطولة الاستقامة: “كم تبدو أشجار الصنوبر تلك مستلهِمة لأبكتاتوس… كم تضمر الحياة من السخط نحو هؤلاء العبيد النحاف، وقد استكانوا إلى مصيرهم مثلما ينمّ مظهرهم” (8). 

  تحديدا، تشكِّل هذه الديناميكية العمودية، الجدلية  الأساسية للخيال النباتي، بين العشب والشجرة. أن تكون مستقيمة جدا أكاليل الزهور خلال فترة جني الحشائش، ستحافظ على الخط الأفقي وسط المرعى الكبير. يظل كل نبات مزهِرٍ، ضمن هذا السياق، زَبَدَ بحر من الاخضرار يتموج برخاوة ذات صباح صيفي. وحدها الشجرة تنطوي بثبات على النبات العمودي، بالنسبة للخيال الديناميكي.

    لكن حتى نشعر حقا بفعل قوة متخيَّلة، فالأفضل أيضا، وإن بدا هذا متناقضا، المبادرة صوب مداهمتها من خلال إغوائها الأكثر نعومة، وفعلها الأقل إلحاحا، لكنه أكثر أوَّلية وبكيفية خالصة. بناء على هذا المنظور، سأدرس وفق ديناميكية الشجرة، إحدى المحرِّضات الأشد بطئا وأخوَّة، تلك المتعلقة بحالم متكئ بهدوء على شجرة. 

    لنتأمل صفحة كتبها ماريا ريلكه: ”يذهب ويأتي، حسب عادته، صحبة كِتاب ، ثم خلال لحظة معينة، وجد نفسه مأخوذا إلى نقطة ارتكاز، أعلى كتفه تقريبا، وسط تشعب شجيرة، فأحس فورا بسرور جدا مدعوما، وبإسهاب مستريحا في إطار هذه الوضعية، توقف عن القراءة، بعد أن أحاطته الطبيعة كليا، مستسلما لتأمل لاواعٍ تقريبا” (9).

   هكذا، يبدأ تأمل محض ديناميكي، وفق تبادل عذب بين قوى الحالم وكذا الكون، دون أن يتلوَّن شيء ويشغل حيزا في الوجود، تحت نظرة حالمة، تسمى حقا غائبة: ”يحدث معه، كما لو اكتسحته في حضن الشجرة، ارتجاجات غير محسوسة تقريبا”. وبدا كأنّه مفعم بحيوية حركات عذبة جدا، لم يشعرها أبدا قبل تلك اللحظة، أما جسده فقد أضحى بكيفية ما أشبه بروح يختبر حالة جعلته يسلِّم بمستوى من التأويل، لم يبلغه حسب ممكنات الوضوح المعتاد للشروط الفيزيائية.

   يضاف إلى انطباع من هذا القبيل، أنه خلال اللحظات الأولى، أخفق فعلا في تحديد دلالة إدراكه مضمون رسالة تعتبر في الوقت نفسه، مضبوطة وممتدة؛ كذلك تتسم الحالة التي يبعثها التواصل داخله بكونها مثالية جدا ومتواصلة بما يكفي، تختلف عن جميع الحالات الأخرى، لكن إذا كان مستحيلا تمثيلها سواء بترسُّخ أو تعاظم لوقائع عشناها سلفا، وبالرغم من كل العذوبة، فلا يمكننا التفكير في نعتها باستمتاع. لايهم. لقد انشغل حتى يدرك بذاته تحديدا الانطباعات الأكثر خِفَّة، يتساءل بإلحاح عن ماوقع له هنا، ويصادف دون تماطل تقريبا، تعبيرا يرضيه حينما يهمس لنفسه، بكونه قد مضى صوب الجهة الأخرى من الطبيعة (ص 110).

  صفحة رائعة، جعلت الكائن هادئا، بفضل سند بسيط، بالكاد التمس سبيل حياة غير محسوسة، دون أن يأخذ شيئا من مادة العالم، ويحس بأنه في جهة أخرى من هذا العالم، قريبا جدا من الإرادة العامة البطيئة، منسجما مع الزمن البطيء، مستلقيا تماما على نسيج خالٍ من أيِّ عقدة.

  إذن، فالحالم ظاهرة بسيطة لاندفاع الشجرة عموديا؛ لايمتلك سوى فكر أن يستمر “واقفا جسديا، كما لو يشرئبُّ وجهة مكان ثان”. يفضي بنا ريلكه نحو هذا الصفاء المطلق للخيال الديناميكي: جسد الحالم الذي وجد سنده في الشجرة “جيد، لكن أيضا، أفضل من ذلك، البقاء واقفين، بكيفية خالصة وحصيفة”.

    الإنسان، مثل الشجرة، كائن تأتَّى من خلاله الانتصاب لقوى حائرة. لايطلب الخيال الديناميكي أكثر من ذلك حتى تنطلق أحلامه الهوائية. بعدها ، ينتظم كل شيء، على التوالي حسب هذه العمودية اليقينية. إذا أخطأ تلقي القارئ لهذا التحريض، يستعصي عليه حقا الربط بين الصور، بالتالي تظل صفحة ريلكه فقيرة وفاترة. بالعكس من ذلك، حينما نرصد دروس الخيال الديناميكي، نستشف حينئذ بأنّ صفحة ريلكه قبل كل شيء صورة للحركة ، وتنطوي على نصيحة تتعلق بحركة تبعث نباتا. 

   يمكننا مماثلة صفحة ريلكه- يؤول شاعرا شاعر آخر- بصورة جميلة عن النباتي أبدعها موريس غيران (10) :”من بوسعه الهمس داخل ملجأ إذا لم يكن عند نقطة مسافة ارتفاع معين، يشكل أقصى مابوسعه الارتقاء إليه؟ لو أمكنني بلوغ تلك المرتفعات؟ متى أدرك الهدوء؟ فيما مضى أرست الآلهة حول بعض الحكماء، معالم طبيعة نباتية كي تمتص داخل حضنها، قدر ارتقاء هؤلاء، جسدهم الشائخ، وتُبدِّل حياتهم التي استنزفتها تماما مراحل العمر، بحياة أخرى قوية وصماء تكمن تحت لحاء شجرة البلوط. هؤلاء الأموات الجامدين، لايبدون قط حراكا سوى عند منتهى أغصان أشجارها المهتزَّة بالرياح. تحافظ على بقائها نتيجة انتقائها لنسغ من العناصر، يكتسيها ،ثم تبدو أمام الأشخاص قوية بجذورها وكذا لامبالاة بالغة مثلما الشأن مع بعض أقدام الأشجار الكبيرة التي تثير إعجابنا في الغابات، لاتتفاعل مع صدى المغامرة سوى بأصوات فضفاضة لكنها عميقة، كما يحدث لبعض القِمم الكثيفة حين تقليدها همسات البحر، إنها حالة حياة تبدو لي جديرة بمجهودات خاصة جدا كي تكون معاكسة للأشخاص وكذا ثروة  الراهن” (11).

   تظهر فعلا نباتية القِمم، الواردة في السياق، أنّ الخيال بالنسبة لموريس غيران، حياة في الأعلى. تساعد الشجرة الشاعر كي ”ينتقل صوب ذاك الأعلى” يتجاوز القِمم، يعيش حياة منعشة، هوائية.

   أيضا، كم يثير الدهشة، هذا التقييم لسانت بوف حول صفحة وفيَّة لتأملها الشارد النباتي: ”لقد حلم موريس غيران بتحوُّل للشجرة عجزت عن إدراكه”. لايكمن هنا، خطأ على مستوى التفصيل، لأنّ ذلك يتنافى حين الاهتمام بتقييم خيال العناصر عند شاعر معين.

يتجلي بوضوح أنّ سانت بوف، لم يستأنس بالخيال الديناميكي الذي ينعش عدة صفحات من عمل منعزل قصر كايلا . ثم يخلص في الأخير، ويضيف دون تردد: “جيدة هذه الوجهة المرتبطة بالشيخوخة، وكذا النهاية الجديرة بفيليمون وباوس (أساطير إغريقية)، وفي أفضل الحالات ماتعلق بحكمة فيكتور دو لابراد”.

  سنكون أقل قسوة من سانت بوف إذا قارنا عذوبة الإيحاءات النباتية لموريس غيران، مع استثمارات أخرى وهمية جدا عن أسطورة فيليمون وباوس. هكذا، عندما نقرأ قصة ناثانيال هاوثورن : الرَّامي المذهل، لانصادف مفعول أيّ خاصية ضمن التحول المباغت للمسنَّيْن إلى شجرتي البلوط وكذا الزيزفون.

  سيقدم ثانية عمل ديفيد هربرت لورانس صفحات عدة يحيا الحالم بين طياتها تغيّر شكل الشجرة . مثلا ورد في “نزوة اللاوعي ، ص 51”: “أريد للحظات أن أصبح شجرة. تشيخ هنا مثل برج ، وأنا جالس أشعر بملاذ مأوى، أحب الإحساس بتقدم عمرها، وهي تطلُّ عليّ ”.

  عشق لورانس (ص 50) :”الانزواء وسط الجذور، بين ثنايا عشٍّ، متكئا على جسد ضخم، ثم تخلصه من كل الهواجس.ها أنا بين أصابع قدمها مثل دبوس الخشب، وهي بصمت تطلُّ عليَّ. أحس بغمرة وكذا تدفق دمها. تستشرف اتجاهين مختلفين .مثلما ترتمي باندفاع مذهل، صوب الأسفل غاية جوف الأرض، هناك حيث ينغمس البشر الأموات في الظلام، داخل تحت- أرضي  مبلَّل وكثيف، ثم من ناحية ثانية تتجه صوب أعالي المحيط الجوي. شجرة ضخمة جدا، قوية للغاية، منتصرة في الاتجاهين معا. خلال كل تلك الفترة لا ملامح وجه ولا أفكار. أين تخفي روحها؟ لكن أين تكمن روحنا؟” (12) .

لماذا تلزم كلمة حطَّ مصطلح ساخر؟ مع ذلك، ماذا يفعل الديك في قمة برج الجرس؟ ماذا يصنع الطائر فوق الشجرة الصخرية الكبيرة ؟ ألا يضيف جناحا إلى ذاك الأعلى الجامد؟ ألا تعتبر قِمَم جبلية صلبة هوائية تماما؟. يريد الخيال الديناميكي تحرّك كل شيء في الأعلى. سأقدم تحت اسم تأمل شارد جاثم نمطا من التأمل الشارد الديناميكي، ينتقل من الواقعي إلى المتخيَّل، يسمح لنا باقتفاء أثر الانتقال من خيال القِمَمِ إلى خيال الحركة المتأرجحة.

  سنعاين مثالا عن التأمل الشارد الجامد، وقد تبدَّى كتجربة مألوفة إيجابية، في كتاب ”المارد” لجون بول ريشتير: “باستمرار، خلال شهر مايو، اتخذ ملجأ قمة شجر تفاح ضخمة مرتَّبة أغصانها على منوال خزانة خضراء؛ يحب الإحساس بكونه يُهدهَد، تارة برخاوة، وتارة أخرى جراء رمشات شديدة للعين. أحيانا، يكتسح إعصار هوائي القمة المرتفعة التي يشغلها ، مداعبا عشب البراري النديِّ. ثم ينهض ثانية بقوة، كي يستعيد موقعه في السماوات. تبدو له هذه الشجرة تجسيدا لحياة أبدية تلامس جذورها مناطق جحيمية، يحاور رأسها السماوات، وهو الألباني البريء، وحيدا في منصته الهوائية، يقطن عالما  عجيبا أبدعه صولجان خياله، يمتثل دون اكتراث للعاصفة التي تضغط على سقف قصره ليلا ونهارا ”. (13)

  يتطور كل شيء في إطار هذا النص، مثلما يجدر بصفحة واقعية للمتخيَّل؛ توحِّد الشجرة الجهنَّمي بالسماء، الهواء مع الأرض، تتأرجح خلال النهار والليل. هذا التمايل يزيد من حدَّة العاصفة : تنحني القمة غاية المرعى ! ثم، فورا، وبحركة مذهلة يعود الساكن المثالي لأغصان الشجرة صوب السماء الزرقاء! 

   يصادف ثانية، هذا التأمل الشارد لجون بول، كل من قرأ وحلم فوق الأرض، داخل فرع شجرة جوزاء شائخة. لن يزعجه إفراط الحركة، مادام تحقق الأخيرة تجلى بهدف إيقاظ اندفاعات أولى. سيدرك بأنّ الشجرة تمثل حقا ملاذا، أشبه بقصر للحلم . ثم يقرأ ، ديناميكيا و حُلُميا، هذه الإيقاعات الكبيرة لفرانسوا دو شاتوبريان، أوضح بيوس سيرفيان خاصيتها العميقة :” حينما تهبّ الرياح من السماء فتهتزّ شجرة الأرز الكبيرة، وكذا القصر الهوائي، المشيَّد فوق أغصان، هكذا يسبح الطيور والمسافرون الذين تخبئهم إيواءاتها، وتنبعث آلاف التنهدات من باطن دهاليز وكذا قِباب الصرح الثابت” (14). ألا تجد هنا حركة الكائن الهوائي ونَفَس الشاعر، ضمن سياق نثر شاتوبريان، تآلفا حميما جدا قد نرى فيه مثالا جيدا عن القصيدة التنفُّسية وكذا الديناميكية؟

   يمكننا التوفيق بين التأمل الشارد للمكوث وكذا صورة عشٍّ في أعالي القمم، يفتقد إلى دفء الأعشاش الأرضية. سنعاين مثالا عن ذلك بالإحالة على صفحة اعتقد معها جاك لندن اكتشافه لذكريات إنسان الأشجار: ”الحلم الأكثر اعتيادا إبان فترة طفولتي الأولى : بدا لي وأنا صغير جدا انزوائي داخل ما يشبه عشّا صنعته أوراق وأغصان. أحيانا أستلقي على ظهري، وأستمر على ذلك الوضع  خلال ساعات طويلة، متأملا السماء وهي تلعب وسط أوراق الشجر فوق رأسي وكذا اهتزاز الأوراق جراء هبات الريح.غالبا يتأرجح العشّ نفسه بين هنا وهناك حين هبوب ريح قوية. لكن، في خضم استراحتي تلك، كنت أعاني دائما من انطباع بخصوص فضاء مرعب يحدِّق نحو الأسفل. لم أتبيَّن هويته قط، مثلما لم أتمكن أبدا من اكتشاف جوانب العشِّ؛ لكني أدرك وجود هذا الفضاء الشاغر المفتوح تحديدا فوق رأسي، يهددني دون هدنة مثل شِدْق وحش مفترس” (15).

   هل تنبغي الإشارة مرة أخرى إلى مقطع هذا المجاز حول هوَّة بمثابة شدق مفترس؟ صورة يوظفها عدَّة كتَّاب. ثم يضيف قائلا: ”حلم كنتُ خلاله سلبيا وتجلى بالأحرى كحالة أكثر منه فعل، انتابني باستمرار فترة طفولتي الأولى”.

  بناء على هذا الأساس الحُلُمي، كتب جاك لندن فيما بعد روايته ذات المضمون المنصب على ما قبل التاريخ. أضحت حوادثها لاحقا إنسانية جدا، لكن عنصر الحلم امتلك صيغة أولى. يفسر التأمل الشارد صورة العشّ وفق مختلف ميزاته. يحافظ العشّ هنا– واحدة من الكلمات الأكثر تقييما بالنسبة إلى مختلف اللغات- على مأساة كامنة. يفتقد إلى أمان العرين أو الكهف.

  تظل الهَدْهدة فوق الشجرة، خطرا إذا لم ينتبه الكائن إلى رشاقته، وخِفَّته، وكذا مهارة “التمسك بالأغصان”. هكذا، تبدو الحياة بين أحضان الشجرة ملجأ وخطرا. نحلم بها دائما، وبنفس الكيفية. إنها إحدى أكبر التأملات الشاردة الطبيعية (16). تمثل في الوقت ذاته عزلة خاصة وامتثالا لحياة هوائية ديناميكية بجلاء. 

  كيف بوسعنا أيضا، دون الخيال الديناميكي، إضفاء قوة رُجُولية و أبويَّة على شجرة البلوط. في ”سوانيفيت” للكاتب أوغست ستريندبرغ، وحينما يحمي الدوق ابنته ضدا على زوجته، تتجلى فورا دون تحضير، الصورة الديناميكية مع أول مشهد تراجيدي (ص 223): “تسرع سوانيفيت نحو حضن والدها الدوق:  أبي! أنت شجرة بلوط فخمة، تعجز يدايَّ عن الإحاطة بك، لكني أريد الجلوس تحت كنف أغصانكَ  للاحتماء من زخَّات الأمطار (تخفي رأسها تحت لِحية البطل التي تغطي صدره غاية خصره)، ثم أقفز بين الأغصان مثل طائر. احْمِلني حتى أتمكن من التسلق غاية القمة ( هكذا بَسَط الدوق ذراعه على شاكلة غصن).

” امتطت سوانيفيت ذراعه ثم جلست على كتفه. 

”حاليا تكمن الأرض في الأسفل والهواء فوقي؛ أهيمن على حديقة  ورود، ضفَّة رمل أبيض ، البحر الأزرق وكذا الممالك السبعة”.

تفتقر صورة من هذا النوع إلى المعنى في خضم سيادة الأشكال؛ فلن تمنحها قط الحُلُمية الهادئة للنباتي قوتها المطلوبة. وحده الخيال الديناميكي يمكنه تناول الشجرة كموضوعة للمبالغة؛ يلقي ناحية الظلِّ بصور ذات فقر شكلي غير دالٍّ، تافهة، مثل لِحية تصدّ  العاصفة. كل شيء تجرفه الحركة المتخيِّلة، بقوة الارتقاء التي يستمدها التأمل الشارد الديناميكي أمام شجرة البلوط الفخمة.

 بعد ذلك في صفحات تالية، يحضن الدوق العجوز، أو شجرة البلوط الشائخة،  سوانيفيت ثم يشرع في الإلقاء بها صوب الأعلى والتقاطها ثانية (ليست سوانيفيت بطفل، بل طفلة صغيرة) :”هكذا يحلِّق عصفور صغير، يحوم فوق التراب ويحرس انطلاقتكَ”. أن تعيش في الشجرة الكبيرة، بين طيات الورق الضخم، تعني دائما بالنسبة للخيال، أنَّك طائر. الشجرة ذخيرة للتحليق. 

يقول هربارت لاورونس في كتابه ”نزوة اللاوعي ، ص 184″ : “ليس الطائر سوى أعلى ورقة غصن تنتهي عنده الشجرة، تخفق في أعالي الهواء، لكنها أيضا ورقة ترتبط  جدا بالجذر أكثر من أيِّ ورقة أخرى”.أليس بالتالي مضطرا كي يعود إلى العشِّ؟ الشجرة عشّ ضخم تؤرجحه الرياح. لايجذبنا الحنين إليه تطلعا وجهة حياة دافئة نلتمسها، بل تحت دافع ذكرى ارتفاعه وعزلته. عشّ القمم حلم بالقوة : يعيدنا إلى كبرياء فتوَّة العمر، لحظات اعتقادنا بأننا خُلقنا كي نعيش فوق ”الممالك السبعة”. 

طبعا، حينما يبوح لنا شاعر كحقيقة إيجابية تلك الذكرى الموصولة بالساعات المنقضية بين أوراق الشجر، يلزم قراءته غالبا على ضوء المتخيَّل. نادر جدا مايجرؤ طفل الأرياف على تسلق شجرة الحور، بالتالي، يلزم فيما يبدو، وضع هذا البوح لموريس دو غيران، ضمن نطاق المتخيَّل:” أصعد إلى قمة أشجار الحور، ثم تهتدي بي فوق عشِّ الطيور” (17). وحده الكائن المستسلم لتأمل شارد قوي جدا بوسعه التطلع نحو التأرجح،على شاكلة طائر أعلى، يحطُّ عند أقصى قمة أكبر شجرة.

  أيضا، أوَّلت صفحة وردت في مذكرات موريس دو غيران، ارتجاج القِمَم بشكل مثير للإعجاب وفق نبرتها الكونية. وضع سيئ، فأزهار الأشجار ذابلة، وثمار أعالي الأغصان مجهدة، كي تمتص الطاقة الحيوية. إذن :”ذرية لاتحصى عالقة حاليا عند أغصان كل الأشجار. براعم عديدة، يصعب الإحاطة بعددها وكذا تنوعها، معلقة هنا بين السماء والأرض داخل مهد، وقد تكفلت الريح بأرجحة هذه المخلوقات. تتأرجح الغابات المستقبلية بكيفية غير ملحوظة من خلال الغابات القائمة. فالطبيعة برمتها تحت عناية أمومتها الهائلة”.

   لنلاحظ فعلا، أنه في هذه الصفحة، حظي قول مأثور عن الأمومة الكونية بتفرُّد جديد : ينتعش مع حياة القمم المُهَدْهَدة. الغابة مجرد مهد.لايوجد مهد فارغ. تهَدْهِدُ الغابة الحية غابة المستقبل. منذئذ، ينبغي لنا إدراك بأنها نفس الحركة، حركة المهد الأولية التي تمنح السعادة إلى الغصن، الطائر وكذا الإنسان المتأمِّل ثم قراءة هذه المقطع الآخر لصاحبه موريس غيران وفق استمراريته الرائعة :” الغصن المزهر، الطائر الذي يحطُّ فوقه كي يشدو أو يبني له عشّا، فالإنسان الذي يتفقد الغصن والطائر، يحفزهم جميعا نفس المبدأ حسب درجات مختلفة للكمال”(18). نكتشف لحظتها، بأنّ الوحدة تتم جراء تأمل حركة واحدة وأولية ،أقصد الهَدْهَدة. لكن لنبادر أكثر صوب الحلم، بدل الاقتصار على النظر: فوق الشجرة الخضراء، أكثر علوا من أعلى قمة، واستنفارا من الطائر المغرد، سنكتشف حياة هوائية وفق أقصى مستويات كمالها.

   هكذا أمكن الشجرة تقديم صور عدَّة بالنسبة لتحليل نفسي للحياة العمودية.أحيانا، الشجرة مجرد خطِّ تذكير ينبغي لها إرشاد الحالم الهوائي. يلاحظ ، ماريا ريلكه في عمله “رباعيات كانتون فاليه”، الخطّ الأساسي لتطهير عمودي (19) :

شجرة حَوَر، في مكانها الصائب

تعارض أفقيتها

بطء الاخضرار المتين

الذي يتمدَّد وينتشر.

  هكذا، نحس على نحو أفضل بالفعل العمودي لتأمل الشجرة وبأنها أكثر انعزالا.شجرة  تمثل بوضعيتها تلك، المصير العمودي الوحيد للسهول والهضاب:

وحيدة

تملي على السهول حياتها الهائلة والمتسيِّدة(20)

  يشعر ريلكه عبر قصائد أخرى عنوانها” بساتين”، بأنّ شجرة منظر طبيعي، تجسِّد محورا يمضي بواسطته الحالم من الأرضي الأكثر طبيعية وجهة الهوائي:

هناك يجتمع ما تبقى لدينا،

ما يثقل و يغذِّي

مع الانتقال الجلي

للحنان اللانهائي.

   شجرة الجوز نفسها، الشجرة المستديرة، وقد”انعطفت صوب كل مكان”، تستدعيها روح هوائية. 

تذوُّق

القبو المطلق للسماوات (21)

   نتيجة طقس جيد، تهتز مشاعر ألف غصن، وألف سعفة نخيل مثلما تنتعش داخل قلب جديد آلاف الأبخرة الدافئة . يقول شيلي (ألفونس رابي، شيلي 1887،ص 296): ”تنطوي حركة أوراق الربيع، في السماء الزرقاء، على تواصل سرِّي مع فؤادنا”. امتياز خيال يؤوِّل ممكنات الحياة بين ثنايا مختلف تفاصيل هذا ” التواصل السري”.

   سيرى قارئ مستعجل في ذلك، مجرد قضية مستهلَكَة، بالتالي لن يستأنس وفق نموذج شيلي، مع الحركة المضطربة والسعيدة لأغصان ربيعية، وكذا انفعال الورقة الأولى التي تكشَّفت، وقد استمرت غاية البارحة، ثمرة صلبة، كائنا منبعثا من الأرض. الشجرة المألوفة، كائن بلا وجه، ستكتسي مساء بعد أن أحاطت نفسها بضباب خفيف، خاصية تعبيرية امتلكت قوة كبيرة  في خضم نبرة حُذفت.

  يحلم خواكيم غاسكيه (22) بالشفق، ضمن محيط مستريح، بعد عنف شمس منطقة بروفانس وكذا صراع محتدم بين الأخضر والذهب ، ثم كتب التالي: ”جِلد شفاف لأشياء ذات هالة ويزعج المظاهر. تتبخر فكرة الأشجار، بين جذورها. يضيء القمر البحر مثل شمس أكثر نقاء ”. 

   يتعايش نفس الاندفاع العمودي، وكذا صنيع لجمالية الشمس، بين فقرات صفحة بول غادين (المبعوث ،ص 369): “تحيا هذه الشجرة بكل قواها المتناثرة؛ بحيث امتلكت طريقتها قصد السيطرة على السماء واستدعاء الطبيعة برمتها كي تقدم شهادة بخصوص حماستها.  تصف حركة ذات سهولة رائعة، بهدف الارتقاء نحو الفضاء وتناوله، وينقسم جِذرها المتفاخر و الضجر إلى أغصان عديدة يقتضيها امتصاص غذاء الهواء وجعله جميلا. سنرى تفتحا صوب الأعلى ، مثل باقة ورد، رأسها مستديرا بكيفية تتناسب مع السماء”.

  أيضا، إبان الاضطراب، لأنَّ الشجرة تشبه هوائيّا مرهف الحس، تندلع الحياة الدرامية للسهول. نصادف ملاحظة من هذا القبيل في كتاب غابريل دانونزيو ”انتصار الموت” (ترجمة ، ص 40): “يحدقان في الشجرة الصغيرة المتأثِّرة بحركة تقريبا دائرية، كما لو تفعل ذلك، يدٌ تتوخى  اقتلاع الشجرة. يتأمل الاثنان، خلال دقائق معطيات الإثارة الغاضبة، التي تكتسي مظهر حياة واعية، قياسا لشحوب الريف الخامل، وعرائه، وفتوره . تضعهما المعاناة المتخيَّلة للشجرة أمام معاناتهم الخاصة”.

  ثم يتخيل الشاعر ،ضمن سطور عمل ثان ، صراع الشجرة ضد السحاب :

حولنا، تنبجس من الأرض أشجار غريبة، كما لو تتناول بين ذراعيها الهائلة سحابة ناعمة.

تهرب، السحابة الرشيقة من هذا الاحتضان المرعب، وقد أنعمت على هجومه المتوحش  بستائر ذهبية منسابة(23).

 هكذا، بوسع الشجرة المعذَّبة، المهتاجة، والمتحمِّسة إعطاء صور لمختلف العواطف الإنسانية. كم هي الأساطير التي أظهرت  لنا الشجرة نازفة وباكية. 

  كذلك، يبدو أحيانا نواح الأشجار أقرب إلى روحنا قياسا لصراخ حيوان بعيد. تشتكي بكيفية صماء أكثر، نتبيَّن ألمها أكثر عمقا.سياق أوضحه فعلا وببساطة الفيلسوف  تيودور جوفروي: “حين رؤية شجرة في الجبل منهزمة أمام الرياح، فلا يمكننا البقاء غير مكترثين: لأنه مشهد يذكرنا بالإنسان، آلامه، ثم وضعه. جملة أفكار حزينة”. تحديدا بسبب بساطة المشهد، ينمّ الخيال عن تأثره.انطباع عميق، رغم عدم أهمية القيمة التعبيرية للشجرة المنطوية جراء العاصفة! يرتجف وجودنا نتيجة تعاطف أولي.

  يوضح لنا مضمون تلك الصورة، بأنَّ الألم في الكون، تضمّن العناصر للصراع، تضاد إرادات الكائنات ، وأخيرا الراحة نعمة عابرة. تطرح الشجرة المتألمة منتهى ألم شامل.

  نبدي تقييما سريعا للغاية حينما نرى في مختلف صور توتُّر الشجرة و هدوئها مجرد تجلٍّ لإحيائية شعرية. يستحضر نقّاد الأدب، غالبا جدا، إحيائية شعرية في إطار عموميتها، تمتلك معنى فقط إن وجدت صورها الخاصة.ينبغي على الشاعر إدراك كيفية الوصول إلى منبع التأملات الشاردة الراهنة، وكذا المبادئ الفتية للحياة المتخيَّلة. عندما نقتفي أثر ذلك، سنكتشف بأنّ الصور الأولى ليست كثيرة. الشجرة إحداها.إنها نموذج سلسلة كاملة من الأحلام تظهر لنا تشكُّل الشجرة من خلال جذعها وأغصانها.

  على سبيل الذكر،من الذي لم يحلم، بأشكال شَجَرية للدخان، مرتجفا وسط حقل، خلال شهر أكتوبر، أمام احتراق نفايات البطاطس؟ بدل نفث النار، وكذا الوردة اللامعة والرنانة لتلك الشُّعل المنبعثة من خشب يابس، ستتشكل باقة، وجذع وكذا أولى الأغصان، ثم منسابة نحو علو السماء ،سعف نخيل وكذا أطياف حلزونية. ينتشر الدخان ببطء، ويصعد مع هواء الليل.هكذا، تنبثق برشاقة، شجرة غير ملموسة، زرقاء كلية، رمادية تماما.اكتسح الليل، قليل من أريج الموت. أمامنا، شيء سريع يحتضر ثم رؤانا اللانهائية. تكمن شجرة الدخان عند أقصى حركة غير ملموسة وحيَّة .

  شجرة رُسمت بإفراط، واستسلمت جدا إلى مقتضيات النظرة الملوَّنة، ستغدو عند شاعر كبير صورة مصير يوحي بالإغواءات المتعددة للتماثل الهوائي:

نحو مصير فوَّاح للدخان،

أحسُّ بأنِّي مسلك، متاحٌ ومضمحِلٌّ،

كل شيء، تعهّد صوب السحب المبتهجة! 

بل، أبدو شجرة ضبابية

افتقدت الفخامة قليلا

تستسلم لعشق كل الامتداد 

يستهويني الوجود الشاسع (24).

  بفضل تواصل الرؤيا، تملأ شجرة الدخان السماء. يشير شارل بلوا بأنه: ”بالنسبة لأسطورة الفيدا، يماثل الغطاء الجليدي للغيوم الذي يغطي الأرض ويعتِّمها، نباتا هائلا”. يرى الحالم، تشكُّل الغطاء الجليدي للغيوم، فوق الأرض.عمود دخان في موطنه الليلي. يتحطم وينتشر عبر قبة السماء، أوراق سوداء لشجرة غسقيَّة.

   إذا اعتدنا على أن نترك الصورة الكبرى تنتعش ببطء داخل الذات، ونلاحق التأملات الشاردة الطبيعية، ندرك حينها بشكل أفضل نَسَب بعض الأساطير.هكذا، حين دراسة الخيال في إطار مبدئه الديناميكي، تصبح موضوعة الشجرة الكونية طبيعية جدا وقد بدت سلفا شاذة للغاية. كيف يمكن لشجرة تفسير تبلور العالم؟ وكذا موضوع خاص ينتج عالما بأكمله؟

   خلال فترة تعميم البراغماتية، ينساق كل شيء خلف تأويل قائم على الفائدة. حينما درس عالم النبات بونافيا الحياة البرِّيَّة لآثار بلاد مابين النهرين، ادعى مايلي:”بأنَّ الشجرة المقدسة في الحضارة الآشورية، جَسَّدت بكل بساطة تركيبا لنباتات مبجَّلة أصلا داخل البلد، نتيجة خدماتها: النخلة  لثمرها، الكروم نتيجة شرابها، الصنوبر أو خشب الأرز بفضل أخشابه للبناء والتدفئة، ثم الرمان جراء دوره بخصوص إنتاج الدباغة وكذا تصنيع المشروبات” (25).

   يحدِّد تراكم من هذا القبيل للفوائد مفهوما للنافع، بيد أنها إيجابيات غير كافية فعليا قصد توضيح الطاقة الأصيلة للحلم الأسطوري، ويرى غوبلي دالفيلا، دون رفضه بوضوح أطروحة بونافيا، بكيفية دقيقة أكثر في الشجرة المقدسة (ص 167.): “رمزا نباتيا لألوهية قوية، وطيف نبات أسطوري، مثل شجرة سنديانة مجنَّحة والتي بواسطتها – وفق تقليدي فينيقي ذكره فيريسيدوس من سيروس – نسج الإله الأعلى، الأرض، والسماء المرصَّعة بالنجوم ثم المحيط”. 

   لقد درس دي غوبيرناتيس طويلا أساطير أشجار متعلقة بنشأة الكون، وأخرى ترتبط بظهور الإنسان وتطوره، أشجار المطر والغيوم، أشجار قضيبية.نعتاد مع جلِّ  تلك الأساطير على ربط السمو والقوة بصور تأملنا الشارد. أن يزور شجرة بودهي، شجرة نشأة الكون حسب ريجفيدا (مجموعة نصوص هندية مقدسة)، طائر النهار والليل، بالشمس ثم القمر، فلايوجد شيء يخرج عن سُلَّم الحلم، أو التشويش على الفكر العقلاني والموضوعي. أن يحدث انجذاب المطر بفضل شجرة المطر، وتنتج المطر، فتنضم إلى الغيمة المدوِّية، هنا يكمن ثانية مفعول قوة الأحلام.

   إذن، يبدو أنَّ مجرد دراسات بسيطة للخيال الراهن يمكنها المساعدة فيما يتعلق بالعثور ثانية على المبادئ الحُلُمية لبعض الأساطير. إذا انتقلت الرموز بكيفية سهلة جدا، فلأنها تنمو على أرضية الأحلام نفسها. غالبا جدا، تجعلها الحياة الفعالة خاطئة. يغذيها التأمل الشارد، باستمرار.

  لقد رأيت دائما ضمن تسلسل دراساتي حول الصور الأولى، بأنَّ صورة جوهرية يلزمها نتيجة نمو الحلم نفسه، الانتقال إلى المستوى الكوني. هكذا، بوسع الشجرة، مثل كل تيمات التأمل الشارد الموحَّدة ، الحصول، بطريقة ما طبعا،على قوة مرتبطة بنشأة الكون. يستعجل غوبلي دالفيلا،هذه القوة، دون إخفائه بكيفية جيدة انذهاله. يذكِّر بضرورة: ”استيعاب الكلدانيين ضمن سياق الشعوب التي رأت في الكون شجرة، قمتها السماء والأرض عند السفح أو بمثابة جذر”.

  لقد أكد بأنَّ هذا المفهوم، ”الطفولي” في نظره ، إن وقع خطأ التخلص من الاندفاع الخيالي”بدا محوه باكرا، في بلاد الرافدين”، لصالح أنظمة متعلقة بأصول نشأة الكون أكثر تهذيبا، بحيث تحولت القوة إلى الجبل. لكن مجازات الشجرة- ملاحظة مثيرة جدا- تمتلك قوة أساسية جدا، أمكنها- ضد كل مبرر- إعطاء حياتها المتخيَّلة إلى الجبل المقدس: ”آه أنت، من يلقي بظلاله، والسيد الذي يحيط بكنفه مجموع البلد، أيها الجبل الكبير”. نعاين طفلا في كتاب ريجفيدا: ”وسط هوَّة بلا أساس، وضع الملك فارونا varuna قمة الشجرة السماوية”.

   يظهر إمساك الشجرة بمجمل الأرض بين قبضة جذورها، وبأنَّ ارتقاءها صوب السماء يمتلك قوة تعضيد العالم. أيضا: ”ما الشجرة التي وفقها تمَّ تهذيب السماء والأرض؟”. يجيب غوبلي دالفيلا (ص 195): “إنها الشجرة سواء من سماء رصَّعتها نجوم وثمارها أحجار ثمينة، وتارة سماء غائمة تلقي بجذورها أو أغصانها حول القبة السماوية، مثل تيارات تلك الغيوم الممتدَّة وكذا القبة الزرقاء المسماة من طرف الأرصاد الجوية الشعبية لبوادينا، بشجرة أبراهام”. هكذا، تبلغ الشجرة القوية عِنان السماء، تستوطن هناك  وتتمدَّد بلا نهاية، ثم تغدو نفسها سماء. لن يندهش حيال ذلك سوى من يجهلون بأن الحلم يعيش أهدافه بدل وسائله. حينما يسيطر التأمل الشارد النباتي على حالم، سيعود به إلى ليل يهودا حينما عاش بوعز كسنديانة : 

من يخرج من بطنها، يذهب غاية السماء الزرقاء.

  تمنح نشأة الكون بواسطة الشجرة انطباعا نبيلا. أوضح ذلك جيدا أر. بي. أندرسون في دراسته المعنونة ب ”الأسطورة الاسكندينافية، 1886، ص 34: ”شجرة أغدراسيل إحدى أكثر المفاهيم نبلا ، لم يعرفه قط أيّ نظام لنشأة الكون أو الوجود البشري. إنها حقا ،أكبر شجرة في الحياة ، تجلت بروعة، ثم شملت نظام الكون بأكمله. تتيح بفضل الأغصان أجساما إلى النوع البشري؛ وتمتد بجذورها عبر كل العوالم، ثم تنثر أطرافها في السماوات وتهب الحياة. بفضلها تتمُّ المحافظة على كل حياة، بما في ذلك حياة الثعابين التي تلتهم جذورها وتتوخى تقويضها”.

  عندما نقتفي آثار حياتها، سندرك إمكانية ”انبثاق” الحيواني من النباتي، وتمثل الشجرة حقا “شجرتها السُّلالية”؛ “تتحرك الحيوانات بها وحولها؛ فلكل نوع حيواني موقعه وكذا وجهته” (ص 54). ليس فقط النسر، الصقر، السنجاب، من يحظوا بفائدتها؛ أيضا يتغذى أربعة جياد من براعمها، ويستخلص أر. بي. أندرسون، ص 53 :”الخاصية المميزة لأسطورة شجرة أغدراسيل وكذا إيجازه التعبيري .كم جميل مشهد شجرة كبيرة !أغصانها المنتشرة بعيدا، ساقها المغطاة بطحلبيات، تذكِّرنا جذورها العميقة بلانهائية الزمن؛ لقد عاينت قبل ولادتنا انقضاء لأزمنة”، ثم الصفحة: 55  “لايلزم أقل من روح لانهائية كي نفهم ذلك؛ ويستحيل على فرشاة رسمها، أو بوسع لون معين تجسيدها. لاشيء ساكنا، أو مستريحا؛ بل ينعم كل شيء بالفعالية.إنها مجمل العالم ، يصعب فهمها سوى بفكر الإنسان، وروح الشاعر، ويُرمز إليها بتدفق اللغة المتواصل. ليست موضوعا للرسام والنحات، لكنها من أجل الشاعر. شجرة أغدراسيل، تجربة شعرية للعِرق القوطي”. كيف يمكننا التعبير بشكل أفضل على أن الأسطورة لاتنعش فقط صورا مرئية، لكن في وسعها تبيان خيال متكلم مباشر؟

    أحيانا، يصادف ثانية، الخيال المشحون على نحو مفرط بالنَّزَوي السهل، دون ارتياب أو سعي منه، بعض سمات شجرة بشرية المنشأ ،شجرة الحياة التي تنتج كائنات إنسانية. هكذا، يسرد بونيفاس سانتين الحلم التالي: “ترتفع على بعد خطوات شجرة هائلة، تشعّ مثل باقي الأشجار، غير أنها تتميز مقارنة مع الباقي بفصوص ضخمة، يتدلى أغلبها غاية السطح.اقتربتُ منها، فتحتُ واحدة، وعلى رقٍّ ناعم للفص، اكتشفتُ مع دهشتي العميقة، بأنّ أحدها منفصل عن الثاني بواسطة قاطع خفيف، يلتفُّ حولها برشاقة، مرتبة في شكل طبقات، مثل فاصولياء في قشرتها. نعم، وأتحداكم تخمين ما الذي وجدته…نساء، صديقي العزيز، شابات جميلات. انبهرتُ، ثم ارتبكتُ، فتراجعتُ، تقريبا مرعوبا جراء روعة ما رأيت، تنفتح عفويا فوق تربة الأرض مختلف الفصوص المتدلية، تتفتق، مثلما يقول لنا أخصائيون آخرون في النبات : تتخلص الثمار الجميلة للشجرة السحرية، من غشائها، تنحو يمينا وشمالا، تثب حين وقوعها ثانية، مثل بذور البلسم بينما تشظت كبسولتها”(26). 

 أسطورة، وظفها ثانية أنجيلو دو غوبيرناتيس (ص 18)، مشيرا إلى أن  شجرة آدم  تلامس الجحيم بجذورها والسماء بأغصانها(27). لكن حالما بشجرة عمودية لن يكون في حاجة إلى هذه الأسطورة كي يستوعب الخاصية الطبيعية حُلُميا للمقطعين الشعريين  الرائعين حينما تكلم لافونتين عن السنديانة:

كان رأسها مجاورا للسماء

وتتصل أقدامها بإمبراطورية الأموات.

  ألا تمثل فعلا، هذه الصورة الضخمة، ضمن نطاق سيادة الخيال الديناميكي، صورة طبيعية؟

  حتما، نستحضر الثقافة العتيقة كي نشرح صورة مدهشة. بيد أنه ليس مبررا قصد تبخيس التأمل الشارد الذاتي. يبدو، فعلا، أن الثقافة، بتقديمها لمعارف حول أساطير قديمة شبيهة ببعض تيمات تأملاتنا الشاردة، تشير علينا بالحلم.عندها نحلم بشجرة هائلة، شجرة العالم، تغذيها كل الأرض، تخاطب مجموع الرياح،شجرة تحمل النجوم.

  إذن، لم أكن مجرد حالم بسيط، رؤيا- خرقاء، توهُّم حي ! جنوني حلم قديم. تحلم من خلالي قوة حالمة، حلمت سلفا، إبان أزمنة بعيدة جدا، فتعود هذا المساء كي تنتعش بفضل خيال جاهز!حكاية تخاطبكَ.

  نتيجة معرفة الأساطير، تتبدى موضوعية بعض التأملات الشاردة، الاستثنائية جدا.إنها تضم الأرواح مثلما تربط المفاهيم الأفكار. تصنف الخيالات كما تفعل الأفكار بالذكاءات. لايتم تفسير كل شيء بتآلف الأفكار وكذا الأشكال. بل ينبغي أيضا دراسة تجمُّع الأحلام. بهذا الخصوص، يلزم أن تكون معرفة الأساطير، تفاعلا ملائما ضد التأويلات الكلاسيكية للشعر، ويتعين الاندهاش نحو غياب كل دراسة جادة للأسطورة ضمن تربية المعاصرة.

   هكذا، بعد قراءة أساطير شجرة أصل نشأة الكون، تتجلى ضرورة أن نقرأ بنوع من التعاطف المتزايد بعض صفحات ”المبعوث” لمؤلِّفه بول غادين، حيث تسامي خيال الشجرة. هاهو، على سبيل المثال، تأمل أمام شجرة جوز هائلة :”لقد جسَّدت كائنا هائلا وعميقا، أثرت بأقصى جذورها في الأرض، سنة بعد سنة، كما مارست مفعولا جزئيا على السماء، ثم أرست انطلاقا من الأرض و السماء،معالم هذا العنصر الراسخ، وأوثقت رباط عُقَد تعجز أمامها قوة الحديد. هكذا، تبدي اندفاعها، وتسعى حركة أغصانها النبيلة جدا صوب الأعالي بحيث تفرض عليك اختبار إيقاعها،وأن تلاحق بعينيك أثرها غاية القمة”(ص 250)، والحالم: ”قد انصب جل تركيزه على شجرة، الظهر إلى الظهر، الصدر مقابل الصدر، يشعر بانسياب داخل جسدها لشيء من الفكر والقوة، اللذين سينعشان هذا العملاق والكائن المذهل” (ص251.). 

  علاوة على ذلك، بوسع نباتية متخيَّلة، لمَّا نعيشها وفق حميمتها، أن تظهر انعكاسات مثيرة. بدل أن تعيش بخمول الصورة  الموضوعية لشجرة تجدِّدها شمس الربيع، بينما تعريها رياح الخريف، ستتخيّل النباتية المتحمِّسة مختلف الفصول باعتبارها قوى نباتية أولية. تحيا التأمل الشارد لشجرة تنتج فصولا، وتأمر الغابة بأكملها كي تبرعم، تمنح نُسْغَها إلى الطبيعة برمتها، تستدعي النسيم، ترغم الشمس كي تشرق باكرا، تضفي لونا ذهبيا على الأغصان الجديدة ، باختصار،حلم شجرة تتجدد باستمرار قوتها المتعلقة بنشأة الكون.

   أن تعيش حميما الاندفاع النباتي، يعني إحساسكَ على امتداد العالم بنفس القوة الشَّجَرية، ويتشكَّل في ذاته وعي حتمي بالكائن المسمى ب”حمدرياد” (حورية أسطورية تسكن الأشجار) يشمل كل إرادة القوة النباتية لعالم لانهائي. يجدر بنا، فعلا، إدراك انعدام آلهة تابعة، قياسا لحياة أسطورية بكيفية جلية. من يحيا على منوال تلك الحورية يقود كل العالم، بإرادة حميمة لشجرة السنديانة، تصمِّم الكون النباتي. بالنسبة لحلم من هذا القبيل، لاتمثل شجرة متعلقة بنشأة الكون مجرد صورة رمزية تقريبا، حيث بوسعنا تجميع بعض الصور الخاصة. إنها الصورة الأولى، الفعالة، وأصل باقي الصور الأخرى.

   سوف يقال، بأني أخلط، تبعا لمفارقة سهلة ، بين المؤشر والعِلَّة؛ ويضاف بأنَّ عالم النبات أوغستان دو كندول، قد اكتفى في إطار تخيُّلاته النباتية، بأن غرس وسط حدائقه ”ساعة حائط للزهور”. تكشف كل نبتة عن غطائها خلال ساعة معينة جراء الامتثال إلى نداءات الشمس المنتظمة. لنمضي صوب الاعتقاد بأنَّ العبد هو السيد ثم تحكُّم روضة الحديقة في الضوء؟ لكن الحلم لايواكب العقل؟ حسب عقلانيي المرح؟ بقدر مايكون المبرّر الذي يتعارض مع الحلم قويا، يتعمق أكثر حلم الصور.

   عندما يستسلم التأمل الشارد فعلا، بكل ما أوتي من قوة، إلى صورة محبوبة، فالأخيرة تنظِّم كل شيء.إذن للعبث قاعدة. طالما نفحص الحلم خارجيا، فإننا نقرّ بصدده عبثية مفكَّكَة، يسهل جدا محاكاتها ضمن صفحات نصوص تمثل مجرد صورة ساخرة عن الحياة الحُلُمية.هكذا، نفسِّر الحلم بالكابوس دون رؤية الأخير باعتباره حلما مريضا ، قطيعة وتفكُّكا للقوى الحُلُمية، مزيجا بلا شكل للمواد الحُلُمية الأولية.بخلاف ذلك، يمنحنا الحلم، والرؤيا، وحدة سعيدة حقا.

  إن انتمت الحياة النباتية إلى دواخلنا، فستلهمنا هدوء إيقاع بطيء، إيقاعها الكبير الهادئ. فالشجرة كائن الإيقاع الكبير، الكائن الحقيقي للإيقاع السنوي.إنها الأكثر صفاء، دِقَّة، وثوقا، ثراء، وسخاء من خلال تجلياتها الإيقاعية. لايعرف الغطاء النباتي تناقضا. يتأتى من الغيوم كي يعارض الانقلاب الشمسي. يستحيل بالنسبة لأيِّ عاصفة الحيلولة دون أن تغدو الشجرة خضراء إبان موعدها.

  إنْ تهذبنا شعريا عبر الحلم بنظرية للتشاكل النباتي والخَشَبي، سنفهم حسب دلالتها القوية، بيانات كما الحال مع ديفيد هربرت لورانس (نزوة اللاوعي، ترجمة، ص 113) ،بعد استشهاده بعبارة “كتاب الغصن الذهبي، وقد أضحى عتيقا”: ”كان عليها أن تبدو مثل آري بدائي بحيث استعادت الشمس شبابها على نحو منتظم بفضل نار شجرة البلوط المقدسة”، ويضيف لورانس: ”هكذا الأمر.فالنار التي تنطوي عليها شجرة الحياة.بمعنى الحياة نفسها. مما يوجب علينا قراءة التالي :”كان عليها أن تبدو مثل آري بدائي، فقد ”استعادت الشمس بصفة دورية شبابها نتيجة مفعول الحياة”، ”بدل أن تُستخلص الحياة من الشمس، يتحقق انبعاث الحياة من ذاتها، أقصد كل النباتات والكائنات الحية التي تغذِّي الشمس”.

   أيضا، حينما نذهب غاية أقصى الرؤى، بالانصراف كُلِّية وجهة قوة حُلُمية خاصة للعالم النباتي، سنفهم بشكل أفضل أسطورة أشجار- التقويم. لن نذكر بهذا الخصوص سوى مثالا. يستشهد ألبير إيتيان لاكوبيري، بتقليد صيني: ”يتحدث عن نبتة رائعة، ينمو فصّ خلال كل يوم من الشهر إلى الخامس عشرة؛ مثلما يسقط واحد يوميا غاية الثلاثين” (28) .

   بناء على هذه المبالغة في التدقيق، تظهر تلك الأسطورة بكيفية جلية للغاية، إرادة إدراج اليوم ضمن سياق النشاط النباتي. نكتشف دلالته الأصيلة عندما نحلم حقا بقوة البرعم، نذهب كل صباح كي نتأمل برعما في حديقة أو داخل أَجَمَة، نفس البرعم، ونرصد بواسطته نشاط اليوم.

   حينما تتفتَّح وردة، وينبجس نور شجرة التفاح ، بريقها الذاتي، أبيض ثم ورديا، سندرك حينها فعلا بأنّ شجرة واحدة تجسِّد عالما بأكمله.                        

هوامش:

(1) باتريس دو لاتور دو بين : ترانيم، ص 87

(2) أنجيلو دي جوبيرناتيس  : أسطورة النباتات، باريس ،1882،ص 292

(3) بول كلوديل : معرفة الشرق، ص 148

(4) فرانسيس جيمس : فكر الحدائق، 1906 ،ص 44

(5) غرهارت هاوبتمان : فاسق الحمَّام البخاري

(6) من الملاحظ أيضا بأن ”شكل” الشجرة غير قابل  للترجمة على مستوى الأدب. في الواقع، لم تتم محاولة ذلك. وحينما يتوخى البستاني- الإنسان الصانع لمقص البستاني- إعطاء شكل هندسي إلى نبات الطقسوس أو العفص، يسخر التأمل الشارد من ذلك. إذا كان الهزلي ميكانيكا تسوِّي الكائن الحي. فالسخرية وفق مستواها الأعلى بمثابة هندسة تطبق على النباتي. هكذا يشكل ماسماه نيتشه ب :”عصر الروكوكو فيما يتعلق بفن البستنة”.

 (7) بول كلوديل : معرفة الشرق، ص 148 .

 (8) جواكيم جاسكيه، هناك لذة في الألم، ص 27 

 (9)ماريا ريلكه : شذرات نثرية، ص 109

 (10)موريس دو غيران : يوميات شذرات منتقاة، ص 119 

  (11) صدر سنة 1723 في روين، دون ورود اسم الكاتب، تحت عنوان :”عجائب الطبيعة السبعة”، أوضح نحتا يتواصل ضمنه جذع شجرة عبر جذع الإنسان. يشرح النشاط الحُلُمي هذا الأصل الاشتقاقي، أفضل من كل نشاط مفهومي. 

(12) ينبغي تأمل صفحات أخرى لهربرت لورانس،على ضوء تأمل شارد أرضي للشجرة. يعيش لورانس أرضيا حياة الجذور. يشير من خلال صفحات مقتضبة إلى : ”جشع الجذور الهائل. شبقها ”(ص 51). يعتقد بأن اندفاع الشجرة يدين بكل شيء إلى الأرض (ص 95) : “تندفع الشجرة بكيفية مستقيمة حينما تمتلك جذورا عميقة”. تثير هذه الحياة ”العميقة” تثير (ص 61) :” تخيفني أشجار سالف الأزمان. يفزعني طمعها، وكذا الاندفاع الأعمى  للبرج الشبق” (ص 49). إرادة شجرة بمثابة شيء مرعب”.

(13) جون بول ريشتير : المارد، ترجمة شازليز، ص 35

(14) بيوس سيرفيان : الغنائية والأبنية الصوتية.مناهج جديدة لتحليل الإيقاعات التطبيقية في ”أتالا”  لشاتوبريان ،ص 81

(15) جاك لندن : قبل آدم، ص 38

(16) جورج ساند، شجرة البلوط المتكلِّمة، ص 53 

(17) موريس دو غيران : مختارات منتقاة، ص 328

(18) نفسه :ص 87

 (19) أوضح أرنست رينان جيدا، هذه الحاجة إلى العمودية، في كتابه ”باتريس” ص:52”هناك حشد من المناظر الطبيعية، تستمد فقط سحرها من أبراج الكنائس التي تؤثثها. فهل ستكون مدننا، الأقل شعرية، قابلة للاحتمال، إذا لم يرتفع فوق السطوح المبتذلة، سهم نحيف أو برج جرس مهيب؟” .

(20) إميل فيرهارن : البهاء المتعدد .

(21) ماريا ريلكه : قصائد فرنسية .

  (22)خواكيم غاسكيه :متعة الألم ،ص 72

(23) دانونزيو :قصيدة ، ترجمة هيريل ،ص  265

(24) بول فاليري :المنتزه الفتي، قصائد،1942،ص 99

(25) غوبلي دالفيلا : هجرة الرموز ،1891،ص 166

(26) بونيفاس سانتين : الحياة الثانية،1864،ص 81-82 ، لن يصادف المحللون النفسانيون مشقة بخصوص ولوج حلم اللاوعي النباتي.

(27) فيرجيل : جغرافيات، ص 291

(28) غوبلي دالفيلا : نفس المرجع السابق، ص 193

Visited 207 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي