موندياليات شرقاوية

موندياليات شرقاوية

د. محمد الشرقاوي – الدوحة

أبدأ بتأملات بعنوان “إيّاكم من لعنة التاريخ المتخيّل”، إذ تنطلق بعد أقل من ساعات معدودة المباراة الحاسمة بين  المغرب وإسبانيا ضمن إقصاءات مونديال قطر. هي مباراةٌ يختلط فيها التكتيك الرياضي والحماسة الوطنية وتأويلات المعارك السياسية بحديثها وقديمها، وتتشابك فيها أيضا تركات التاريخ وذكريات الجوار متقلب الأطوار عبر العصور. وبدأ البعض منّا يميل إلى إسقاطات سلبية من التاريخ، خاصة حقبة دخول جحافل طارق بن زياد الأندلس، وحقبة الحروب الصليبية وطرد المسلمين واليهود إلى شمال أفريقيا عقب عام 1492. وكلاهما يمثلان للمغاربة والإسبان “مجدا مختارا” وأيضا “صدمة مختارة” بشكل متقابل عكسي مع فارق التوقيت بين الحدثين الأول والثاني.

الحديث عن إضفاء قراءة تأويلية لما يبدو “إعادة فتح” أو “انتقاما تاريخيا”، كما يحلو للبعض الترويج له ضمن حملة التحضير النفسي والثقافي لمباراة الغد، لا يمثل سوى تفكير سلبي بالاحتماء بالتاريخ والقومية، وكأنهما رافدان متدفقان بالروح الوطنية في نصرة زياش ورفاقه في معركة الدقائق التسعين المنتظرة. وتمثل المباراة ومن حولها قراءاتنا وتأويلاتنا وتوقعاتنا كمغاربة أو إسبان أو المتعاطفين مع أي طرف #اختبارا_عمليا للتفكير الجماعي والخطاب العام. فهل نحن اليوم #شعب_الحاضر_الأجوف لا يجد أفضل من الاحتماء بالنوستالجيا الرومانسية والتغنّي بأمجاد الماضي والوهم الكاذب بإعادة إنتاجها دون عناء؟

هذا ضربٌ من ماضوية لعينة تكبّل عصبونات التفكير في المستقبل وتحاصره ضمن سراديب التاريخ القديم. وتكشف لنا الحقيقة المزرية بأنا نقدّس الماضي ونواصل الترانيم القديمة في محرابه. في المقابل، هل نهندس قراءات مستقلة جديدة ونبتكر سرديات مغايرة تنطلق من الحاضر نحو الغد دون الدوران حول مركزية الماضي. بعبارة أخرى، هل نستطيع أن نثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا شعب يعيش حقيقة في حاضره ومستقبله وبتعامل راهن مع اللحظة الراهنة، والمباراة المقبلة.

باختصار، هل نترك لوليد الرگراگي ولاعبي الفريق فرصة استنباط خطة واقعية وهندسة استراتيجية بتقنيات اللعب وبرغماتية الشطرنج الكبير في ملعب الدوحة؟ وهل يخفّف أهل الضجيج والتكاثر من فئة “المؤثرين” و “حمّالي الحطب” و”قارعي الدفوف” من سرديات التهجين التاريخي غير المجدي والنفخ في أقوال برّاقة لم تعد تجد لها مسلكا إلى وعي المغاربة وذكائهم الجماعي المتنامي.

من هم جمهور المغرب في ملاعب مونديال قطر!

كأيّ سؤال من أسئلة البحث الاجتماعي، يقتضي الجواب اعتماد منهجية البحث الميداني والمعاينة المباشرة، وتوظيف المعطيات الكمية والنوعية، لتكون الخلاصة واقعية وبمعايير علمية. وجدتُ نفسي في أجواء مغربية رائعة في أكثر من موقع في الدوحة، وعايشتُ حماستهم في رحلات الميترو وداخل الحافلات نحو ملعب “البيت” في الخور وملعب “الثمامة” جنوبي المدينة. والتقيتُ بعضهم وهم يمشون على طول الكورنيش ساعات المساء، أو يهتفون ويرقصون في سوق واقف أو سيتي سنتر، أو عندما ترتفع أصواتهم وضحكاتهم حول طاولات المقاهي والمطاعم نشوة بانتصارات الفريق. غلب اللون الأحمر بحضورهم المباريات الثلاث الأولى ضد كرواتيا وبلجيكا وكندا بالآلاف، وكان أكبر عدد منهم خلال مباراة المغرب-كندا مساء الخميس الماضي.

بحكم التفاعل شبه اليومي معهم، يمكن تقسيم جمهور المغاربة في مونديال قطر إلى ثلاث مجموعات رئيسية:

  1. 1. مغاربة قطر أو المقيمون الذين “هرموا من أجل هذه اللحظة التاريخية” منذ عدة سنوات، وهم يشعرون حاليا بسرور مضاعف: استضافة قطر كأس العالم وقدرة الفريق المغربي على البلاء الحسن في ثلاث مباريات حاسمة ضد فريق عتيدة، وتحدوهم الآمال في أنهم سيكونون شهود عيان على نجاح محتمل لتأهل المغرب إلى منافسات ربع النهاية.
  2. 2. مجموعة أخرى تشمل مغاربة الشتات الذين جاؤوا من دول بعيدة ومنها فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وأيضا من دول الخليج، وأعداد أخرى أتوا مباشرة من المغرب، وتبدو عليهم أماراتٌ مستوى معيشي جيد ودخل مريح. بيد أن القاسم المشترك بين هاتين المجموعتين من مغاربة الخارج والداخل أنهم اكتشفوا الأسعار مرتفعة جدا في الفنادق في الدوحة، وأيضا تلك المتداولة في المطاعم والمقاهي نسبيا خلال فترة المونديال. ويتراوح معدل الغرفة الواحدة في فنادق الدوحة حاليا بين 337 دولارا و2102 دولار لليلة الواحدة. غير أن رحلات الميترو والحافلات تظل مجانية بالنسبة لما حصلوا على بطاقة هيا، وهنا بعض التضامن القطري مع رأسمالية المونديال.
  3. 3. المجموعة الثالثة تشمل خليطا من الأعمار ومستويات الدخل المحدود. بعضهم يقيمون في منطقة الوكرة والضواحي الأخرى للعاصمة الدوحة. ونسبة منهم كانوا يحملون معهم حقائبهم بعد مغادرة ملعب الثمامة، وكأنهم سيتجهون إلى المطار في تلك الليلة. سألت اثنين من حملة الحقائب، فجاء الرد متذبذبا وكأنهما لا يقرّان بحتمية العودة المبكرة إلى الدار البيضاء مباشرة بعد المباراة.

تثير هذه المجموعة الثالثة سؤالا بديهيا: كيف تدبروا أمورهم المالية بما يكفي لتغطية تكاليف رحلة الطائرة بمعدل 500-700 دولارا، والإقامة في الفندق والوجبات بالأسعار الصاروخية، فضلا عن تذاكر الدخول إلى الملعب والمصاريف الأخرى. هل هي رحلة “وطنية” من قبيل تضحيتهم التلقائية أو “تمغرابيت” أصيلة من أجل عشق كرة القدم ومناصرة فريق المغرب، أم أن أبواب السماء أنزلت إليهم أعطياتٍ وهباتٍ وإكرامياتٍ عبّدت لهم الطريق إلى ملاعب الدوحة وفنادقها ومطاعمها؟!

تشمل هذه المجموعة أيضا بعضًا من فصيلة جديدة تسمى “مؤثرون”، كناية عن التكاثر والضجيج عبر منصات التواصل ونشر ما يعتقدون أنه تلميع لخطاب معين أو سمعة مؤسسة محددة. وليس من الواضح علميا بماذا يؤثرون، وفيمن يؤثرون، وهل لهم دراية فعلية بهندسة الخطاب العام؟ يحاول بعض هؤلاء تصوير مونديال قطر من الناحية الأمنية بمثابة قصة “إشعاع أمني مغربي”. فكتب أحدهم بلغة الفخر اللامتناهي: “الأمن القطري في المونديال موكل للحموشي المغربي، اغاني المونديال من ابداع ريدوان المغربي، تصميم كأس العالم في ايطاليا من انامل مغربي، التأهل العربي الامازيغي الوحيد مغربي…. تصدر القائمة في افريقيا والعالم العربي مغربي… الجمهور الرائع بشهادة الفيفي مغربي….. المونديال بنكهة مغربية خالصة. عاش الملك والشعب المغربي والاراضي المغربية والمخزن المغربي وكل من يحب المغرب…اما من يكره المغرب فالعزاء مقام في الشيراتون وفورا.”

نزعةُ فخر ينتشي بها صاحبها أكثر من حقيقة الوضع في الدوحة، وهو ممن يحضرون في “لمّة الشيراتون”. وهو لا يبدو أنه يعرف أن اللجنة الأمنية لمونديال قطر وظّفت 32000 شخصا من القطاع العام و17000 من القطاع الخاص. ونظمت تدريبات أمنية تحت إسم “وطن” مدة خمسة أيام في أكتوبر الماضي بالتنسيق مع خبراء من 13 دولة هي السعودية وباكستان وفرنسا وألمانيا وبولندا وإيطاليا والأردن والكويت وإسبانيا وفلسطين والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا والمملكة المتحدة.

إزاء نزعة المبالغات الحماسية لدى صديقنا المفاخر، كان لا بد من تصحيح الأمور، فكتبت العبارة التالية:” أنت تزّيف الحقائق وتغالط الواقع. القطريون استعانوا بأعداد كبيرة من موظفي الأمن من الأردن وتركيا والسودان، وبأعداد قليلة من تونس والجزائر والمغرب. والنحات الذي صمم كأس العالم الجديدة إيطالي أبا عن جد. وإذا زادت حمّى الحماسة لديك، قد تنكر على القطريين كل الفضل وتنسبه إلى من تراه “نجم السهرة”، وقد يزداد افترائك بأن تقول إنه تقرر تنظيم مباراة نهاية كأس العالم في الرباط. الله يهدي من يهذي!”.

يقول المثل: خذ حقك ودع لغيرك ما يستحق. فلأيّ حكومة ولأي فريق “مؤثرين” أن يفتخروا بإنجازاتهم داخل الملعب وخارجه كيف أرادوا. لكنه كان وسيكون وسيظل في كتب التاريخ كأس عالم قطريا بلا منازع. بعض التاريخ عبرة وإلهام.. وبعضه أفيون التخدير والأوهام!

ستّ حقائق يؤكدها مونديال قطر!

  1. 1. ليس التنظيم العربي أقلّ جودة من الدورات السابقة في موسكو أو باريس، بل يتفوق عليها في حفاوة الضيافة والاستقبال في المطار، ودقة وانضباط المواعد، ومستوى الأمن العام في الملاعب والشوارع على مدار الساعة.
  2. 2. تحطيم أسطورة تفوّق الشمال على الجنوب، وأن شدة التنافس بلا مركّب نقص أو ضعف متخيّل تفسح الطريق أمام ديمقراطية التأهل بمنطق البقاء للأفضل، وليس للأقوى، والأمثلة متعددة: اليابان وكوريا والمغرب.
  3. 3. ليس حوار الحضارات وتفاعل الثقافات تجريدًا سياسيًا أو ترفًا أكاديميًا، بل تجربة الفرد في بيئة مغايرة. فتأكد أن البعد الإنساني والتجربة الشخصية هما وحدة التحليل الرئيسية التي ينبغي الاعتداد بها، وليس العلاقات بين الحكومات. لقد حضر الإنسان من جغرافيات متباعدة وغابت أولوية الدبلوماسية الرسمية لدى الدول، وعلينا أن نعيد النظر في تطور الدبلوماسية العامة ودور المجتمع المدني.
  4. 4. لم تُجَار قطر والاتحاد الدولي لكرة القدم النسق القائل بمركزية القيم الغربية أو اعتبارها ذات مرجعية عالمية، بل فشل خطاب المثلية وشيوع شرب الخمر في الملاعب والشوارع وبقية التفريعات من منظومة الحرية الفردية في تحدّي الشروط القطرية باحترام الثقافة والقيم الخليجية والإسلامية. ولم تنجح شركات صنع الخمور في تشكيل لوبي عالمي ضد قطر، بقدر ما قبلت بالأمر الواقع.
  5. 5. أخفق مشروع إسرائيل في الركوب على مونديال قطر الذي يقام في قلب الخليج في توسيع دائرة التطبيع. وعاد الصحفيون والمبشرون بقرب التطويع الصهيوني للرأي العام العربي بخفي حنين، وهم يقرّون بأن لا أمل في التطبيع الشعبي والثقافي مع العرب.
  6. عايشتُ تجربة الحياة في أربع عواصم في أربع قارات، وازدادت لدي القناعة بأني مواطن العالم Global citizen. ولم أستسغ، كما كتبت سابقا، كيف أضحت هذه المرحلة تكرّس أسْلَحة الهويات Weaponization of identities في شتى المستويات، واستغلال الرموز والأيقونات في التجاذبات بين الثقافات ذات المنحى القومي المتزايد. وخلال المونديال في الدوحة، تعرّفت على عدد ليس بالقليل من مواطني العالم، ولمست أننا جميعا نعشق الحياة ونتمسك بكرامة الفرد وتحقيق الذات، وأن أرض الله الواسعة أكثر رحابة من أي مربعات ضيقة تنخرها القوميات ونعرات التعصب الانطوائية.

دعاء الخميس للعشر المستجابات

  1. 1. اللهمّ أنزلْ المباراةَ على لاعبينا بردًا وسلامًا وحماسةَ الألمعيات
  2. 2. اللهمّ أرفع معنويات فريقنا وجمهورنا حتى عنان السماوات
  3. 3. اللهمّ ألهمْ بونونا والمحمدينا بقوة البصر في عيون زرقاء اليمامات
  4. 4. اللهمّ اجعل من حكمة حكيمينا ومزراوينا طوقَ الحصون المنيعات
  5. 5. اللهمّ عزّز بصيرة صابرينا وامرابطنا في أربع ركنيات راجحات
  6. 6. اللهمّ قوّي خطى زيّاشنا وبُوفالنا إلى ثلاثة أهداف نظيفات
  7. 7. اللهمّ افتح قريحة بوخال حتى نسميه جمعًا “هدّاف البوخالات”
  8. 8. اللهمّ أغزر على عطية الله عطاياك في حرث الشباك الكنديات
  9. 9. اللهمّ ارفع عدّادنا إلى سبعِ نقاطٍ سمينات والارتقاء إلى سجل الدول العظيمات
  10. 10. اللهمّ اغدق فيضك من الشعر على صلعة ركراكنا “الأفوكا”، ليصبح رائد الغيوان الهيبيات!

دعاء الثلاثاء للعشر المستجابات

  1. 1. اللّهم افتحْ بابَ سماواتك لأدعيةِ شعبٍ توّاقٍ للبسمة.. يُجاري النوازلَ وهو يكدحُ،
  2. 2. اللّهم اعلم أن الغُّمّة فينا وما أكثرها، وأنّا بهوى المستديرة نخفّف اللوعةَ ونصدحُ،
  3. 3. اللّهم خَفِّفِ الوقيعةَ فينا بين أسعار أخنوش وغمّة معتقلينا، والنزيفُ منّا يسيحُ،
  4. 4. اللّهم ليس اليوم لشكوانا وإنْ عظُمَتْ، بل لتقوانا.. وبغيثك طريقُ النصر ينفسح،
  5. 5. اللّهم أنزل نورانية الإلهام بأنًا جميعا شعبٌ جبّارٌ يخطو إلى الأمام.. يبكي أحيانًا ويفرحُ،
  6. 6. اللّهم ارفع معنوياتِ لاعبينا حتى السماء، وأَكْثِرْ عدد أهدافنا فيهم.. والأمل الكبير فينا قُزحُ،
  7. 7. اللّهم لا تأبه بقول العابثين بأنّا “سنفتح أندلسًا”، بل شطرنجٌ محسوبةٌ لها عقلُ النبوغ ينفتحُ،
  8. 8. اللّهم اشهد علينا أن الليلة موعدُ حقيقةٍ وتاريخٍ، بل برزخٌ فاصلٌ بين من كنّا.. ومن سنُصْبحُ،
  9. 9. اللّهم استجب لنَجْوَانا وتَقْوَانا بأنّا شعبُ بيدٍ قصيرةٍ وعينٍ بصيرةٍ، لكن أبدًا للإسبان لا ننبطحُ،
  10. 10. اللّهم إنّي الشرقاوي المؤمنٌ بأن رفاق زيّاش شعلةُ توهُّجٍ، وخلفها قلوب الملايين تؤكّد أنها ستنجحُ.

 ابتسموا.. وقولوا آمين.. ياشعبًا يستحقُ الحياة!

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي