فصل روائي: شمس المغرب
نور الدين محقق
كان الفتى شغوفا بكرة القدم وبالأجواء الرائعة التي تقدمها. كان يتابعها بشوق كبير، ويعتبرها هواية جميلة وممتعة بالنسبة له. لقد كان يلعبها قبل ذلك، وكان معروفا بمراوغاته البديعة فيها بين أبناء حيهم القديم في منطقة سباتة، وقد فكر خاله المصطفى في أن يلحقه ذات يوم بناشئة فريق “الوداد البيضاوي” لولا رفض والدته خشية من أن تلهيه الكرة الساحرة عن متابعة دراسته أو خوفا بالأحرى عليه من التعب المستمر في الذهاب والإياب إلى مقر هذا النادي المغربي العريق لبعده عن المنطقة التي كان يسكن فيها، بالرغم من والده حبذ الفكرة في بداية الأمر قبل أن يتراجع عنها تحت إلحاح والدة الفتى. هكذا ظل يلعبها مثل باقي أبناء حيه، ثم تحول بموازاة مع ذلك في عملية عشقها ومتابعة مشاهدتها إما مباشرة في ملاعب الكرة أو في الغالب على شاشة التلفزيون. وقد استمر هذا العشق الكبير إلى الآن، بحيث لم يكتف فقط بالمشاهدة المستمرة لها، وإنما امتد ربط هذه المشاهدة بالقراءة عن سير اللاعبين النجوم الذين كان شغوفا بطريقة لعبهم. أُعجب كثيرا في البداية باللاعب الأرجنتيني الأسطوري دييغو مارادونا، ثم بعد ذلك باللاعب الفرنسي ميشيل بلاتيني، وبعدهما باللاعب الفرنسي زين الدين زيدان وبعده باللاعب الألمعي البرتغالي كريستيانو رونالدو. وبالنسبة للاعبين المغاربة فقد ظل وما يزال معجبا بكل اللاعبين الذي استطاعوا أن يحققوا تميزا وهم يلعبون ضمن المنتخب المغربي، وقد كتب عنهم فيما بعد فصلا في رواية حملت عنوان “برج الميزان” وهم يخوضون غمار مباريات كأس العالم في سنة 1986 ويحققون تميزا رائعا فيه. وبالرغم من أن هذه الرواية تنسب إلى الكاتب المغربي نور الدين محقق، فإنه هو الذي كان بطلها وهو الذي كان يتكلم فيها بضمير المتكلم، وهو الذي كان يحكي فيها سيرته الشخصية بكل تفاصيلها التخييلية إذ إنه ليس في نهاية الأمر سوى كائن من ورق على حد تعبير الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت، ولم يفعل الكاتب المغربي نور الدين محقق سوى التكلف بعملية الصياغة، شأنه في ذلك شأن كل كتاب العالم أجمع. وهو ما سيقوم به أيضا وهو يتسلل خفية إلى غرفتي ويفتح دفتري ويقرأ فيها ملاحظاتي حول متابعتي لأجواء كأس العالم المقام حاليا بدولة قطر الشقيقة ويقرأ فيه ما كتبته لحد الآن حول الأجواء الرياضية لا سيما ما تعلق فيها بالمنتخب المغربي والانتصارات التي حققها فيه. وقد حملت هذه الملاحظات عنوانا جامعا لها هو “شمس المغرب تسطع في الكون الأرحب”. هكذا فإن الملاحظات التي ستقومون بقراءتها هنا والآن ، هي ملاحظاتي الخاصة باعتباري بطلا لهذه الرواية وليست طبعا ملاحظات الكاتب الذي تبنى هذه الرواية ونسبها إلى نفسه .إليكم إذن هذه الملاحظات.
*****
1- الكتاب وكأس العالم
منذ مدة بعيدة في الزمن، كنت جالسا في المقهى أتابع مباراة في كرة القدم تندرج ضمن مباريات كأس العالم. كنت شغوفا بتشجيع المنتخب الأرجنتيني تحت وقع سحر دييغو مارادونا في ذلك الوقت. وما أن انتهت المباراة حتى رأيت أحد أصدقاء الكتابة وهو يبحث عني، فأشرت إليه بيدي. وما أن جلس، حتى أبدى استغرابه من كوني أتابع مباريات كرة القدم، على اعتبار أن متابعتها لا تليق بالكتاب أهل الفكر. والغريب في الأمر أننا معا كنا في ذلك الوقت البعيد في بداية حياتنا الثقافية ونسعى جاهدين لنجد لنا مكانا في هذه الحياة، ومن ثمة فلم نكن لا كتابا ولا من أهل الفكر إلا باعتبار ما يمكن أن يحدث في المستقبل .ولم يكن الشاعر محمود درويش في ذلك الوقت قد نشر رائعته “ذاكرة للنسيان” التي يشير فيها إلى ولعه بمشاهدة مباريات كرة القدم ، حتى أنصح هذا الكاتب بقراءتها وتغيير هذا النوع من التفكير الذي يحمله ، ومن ثمة فقد اكتفيت بقولي له بأنني أمارس لعب كرة القدم أيضا مع بعض الأصدقاء ولا أكتفي فقط بمتابعة المباريات التي تجرى في مجالها ، بل أبعد من ذلك لقد كنت على وشك التسجيل في نادي الوداد البيضاوي، حينما كنت يافعا لولا اعتراض الوالدة على ذلك نظرا لبعد مقر هذا النادي عن الحي الشعبي الذي كنا نسكن فيه .
وتمضي السنون سريعا، ويهيئُ بعد ذلك الإعلامي سعيد عاهد ملفا رائعا عن علاقة الكتاب المغاربة بكرة القدم، وأشارك فيه صحبة مجموعة من الكتاب المغاربة. وهو أمر طمأنني إذ لم أكن الوحيد بين الكتاب وأهل الفكر مع تحفظ كبير على الصفتين، على حد تعبير الكاتب الألمعي عبد الفتاح كيليطو، الذي يحب كرة القدم ممارسة ومشاهدة. وقد نشر هذا الملف الرائع في الملحق الثقافي لجريدة ” الاتحاد الاشتراكي” تعلوه لوحة تشكيلية من توقيعي، تمثل عالم كرة القدم بشكل فني، وحظي بتلقٍ جميل كما هو معلوم عند أهل الثقافة وعشاقها الجميلين.
2-كأس العالم واستحضار الأدب
أعجبتني كثيرا مسألة استحضار عناوين الكتب لاسيما الإبداعية منها وجعلها عناوين لمباريات كرة القدم ، فما بين عنوان رواية ” لعبة النسيان” لمحمد برادة ، وعنوان المجموعة القصصية “يوم صعب” لمحمد الأشعري أو عنوان رواية “برج الميزان ” أو عنوان رواية ” وقت الرحيل” لنور الدين محقق ، أو عنوان رواية” الفريق” لعبد الله العروي أو عنوان “الثعلب الذي يظهر ويختفي ” لمحمد زفزاف أو عنوان المجموعة القصصية “هيا نلعب” لأحمد المديني أو غيرها من العناوين المتعلقة بالكتب الإبداعية التي أطلقت على بعض المباريات في كأس العالم هذا ، وهو أمر ينم عن محاولة جعل الأدب في معترك الحياة الكروية ومنحه بعض إشعاع ولو رمزي في مساراتها . طبعا هنا اقتصرت على بعض العناوين، وهي كلها لكتب إبداعية مغربية، فقط على سبيل التمثيل لا غير، إذ حضرت بطبيعة الحال عناوين لروايات عالمية شهيرة وأخرى لعناوين روايات عربية معروفة، تمت بها عملية تقييم بعض المباريات مثل عنوان رواية ” بداية ونهاية” للكاتب المصري نجيب محفوظ أو عنوان رواية ” رقص رقص رقص” للكاتب الياباني هاروكي موراكامي أو عنوان رواية ” 1.2.3.4″ للكاتب الأمريكي لكاتب پول أوستر. وغيرها.
3- الحلم المغربي الجميل
استمعتُ تقريبا إلى كل الحوارات المنشورة مع المدرب المغربي وليد الرگراگي، وتمعنت في الذي قاله. وهو بحق، كان قويا في هذه الحوارات ومتمكنا من معرفة ما يريده وما يسعى إليه وما يحلم به. الحق في الحلم، هو أمر رائع والرغبة والمحاولة من أجل تحقيقه هو في حد ذاته تحدي كبير.
يقدم المدرب المغربي وليد الرگراگي هنا درسا بليغا في عملية التسيير يتمثل في خلق جو رائع بين كل اللاعبين وجعلهم أصدقاء داخل الملعب وخارجه، بحيث تحضر روح الجدية والمرح بينهم والتعاون الإيجابي وتقدير بعضهم البعض من أجل تحقيق حلم مشترك بينهم يتجلى في إحراز الفوز الجماعي والشعور بالمتعة أثناء اللعب الكروي على الملعب وهو ما تم التعبير عنه بطريقة مرحة بأن أعضاء الفريق كانوا يلعبون باستماع بهذا اللعب الكروي، وبهذه المنافسة الرياضية العالية ولم يشعروا حتى وجدوا أنفسهم في نصف النهائي.
وبالفعل لقد لعبوا كرة بمستوى عالي وبأناقة رياضية فاتنة. وطبعا لقد كان وراء هذا النجاح الكروي الكبير عمل جبار، عمل استراتيجي من طراز رفيع، يعتبر درسا لكل المنتخبات الأخرى المشاركة في مباريات هذا الكأس العالمي وغير المشاركة، وهو عمل جعل المنتخب المغربي ينتصر على كبار المنتخبات الكروية العالمية ويتفوق عليها وبطريقة رياضية تحقق النصر والإمتاع والمؤانسة وتبعث الرضا في نفوس كل المشجعين. هكذا يصل المنتخب المغربي إلى نصف النهائي وما زال الحلم مستمرا وما زالت إمكانية تحقيقه قائمة.
3- سيميائية اللعب الكروي
كان الفوز أساسيًا، لكن الطريقة التي فاز بها المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني بكل رمزيته الكروية التاريخية، وبحضور نجمه العالمي ليونيل ميسي، كانت بفنية كروية رائعة. لعب جماعي منسق، تمريرات مذهلة وتركيز على تحقيق الفوز. كما كان الدفاع عن هذا الفوز الكروي بشكل فني جميل. وكان الحارس أكثر من لاعب يصد الكرات، لاسيما في اللحظات الأخيرة من المباراة، بل لقد كان فنانا رائعا وهو يقوم بذلك.
سيميائيا، هذه العلامات الكروية المذهلة تبعث رسائل ثقافية جديدة للعالم أجمع وتخلق صورا غاية في الإيجابية.
4- فوز المنتخب المغربي
مستوى عالٍ جدا لعب به المنتخب المغربي ضد نظيره المنتخب البلجيكي، على مستوى التوزيع الكروي وعلى مستوى التمريرات وعلى مستوى التناسق الجميل بين كل اللاعبين. لعب كروي نظيف وبتقنيات كروية هائلة، ورؤية استراتيجية واضحة وذكية من لدن المدرب المغربي وليد الرگراگي ومعرفة عميقة بقدرة اللاعبين وكيفية استبدالهم في الوقت المناسب وإحداث التغييرات الضرورية. تألق كبير للاعب حكيم زياش واللاعب أشرف حكيمي وطبعا لكل من اللاعبين اللذين سجل كل واحد منهما هدفا رائعا في مرمى المنتخب البلجيكي اللاعب عبد الحكيم صابيري واللاعب زكريا بوخلال ولكل لاعبي المنتخب المغربي وكيفية محافظتهم على الكرة واللعب بها كما يجب وبفنية قوية فيها متعة وذكاء. الأهداف كانت رائعة في مستوى كأس العالم. بالنسبة للجمهور المغربي كانت أصواته تسمع وهي تنشد النشيد الوطني المغربي كما كان الجمهور العربي قاطبة يشجع أيضا المنتخب المغربي ويظهر هذا التشجيع. إنه انتصار للكرة المغربية والكرة العربية والكرة الإفريقية. برافو المنتخب المغربي ومزيدا من التألق في الذي يأتي …
4- هزيمة المنتخب البرازيلي
في مرحلة ربع النهائي من مباريات كأس العالم، يأخذ اللعب الكروي منطقا آخر، بحيث تبدو فيه كل الفرق المشاركة متساوية الحظوظ في إحراز الفوز على نظيراتها من الفرق الأخرى. وهو ما ظهر واضحا بين كل من المنتخب البرازيلي المرشح بقوة لنيل هذا الكأس الكروي العالمي وبين نظيره المنتخب الكرواتي الذي لعب مباراة متعادلة معه بل إنه قد استحوذ على الكرة ولعب بها أحسن منه.
اللعب لحد الدقائق الأخيرة في هذه المباراة بينهما ظل في مستوى تداول الخطورة الهجومية بينهما حتى وإن بدأ المنتخب البرازيلي يأخذ بزمام الأمور حتى لا يلج به الأمر إلى مراحل الشك في قدراته، وهي مراحل دقيقة للغاية. وهو ما تبدى بعد ذلك مباشرة حين بدأ المنتخب الكرواتي هو الآخر يشن بين الفينة والأخرى هجومات خطيرة على مرمى المنتخب البرازيلي. هي مباراة مفتوحة بين الفريقين، وهي مؤهلة للذهاب في نتيجتها لهذا الفريق أو ذاك على عكس ما قد توقعه أغلبية المحللين الرياضيين الذين رأوا أن المنتخب البرازيلي سيقوم بحسم الأمر منذ بداية المقابلة.
هكذا لم يحسم الأمر في الوقت العادي المحدد للمباراة، وإذا ظل الأمر على نفس هذه الوتيرة وبنفس هذه النتيجة، بالتعادل السلبي أو حتى التعادل الإيجابي، فإن المنتخب الكرواتي قد يحسم المباراة لصالحه في ضربات الجزاء، ويقصي المنتخب البرازيلي.
كل شيء وارد في لعبة كرة القدم …!
إنها الضربات … ضربات الجزاء وضربات الترجيح وضربات الحظ الذي يأتي هنا أو هناك
5-نجوم سينما كأس العالم
تصنع كرة القدم نجومها كما تفعل السينما تماما أو ربما أكثر بكثير منها، بحيث يتحول نجم كروي إلى نجم سينمائي عالمي بامتياز، هو يلعب ولكنه في نفس الوقت وهو يعلم بأن الكاميرات مسلطة عليه يقوم بعملية التمثيل السينمائي من حين لآخر كي يدفع بالأضواء السحرية أن تسلط عليه. هكذا يبدع صيحة خاصة به أو قفزة ترتبط به أو لحظة لعب لا تنتهي إلا إليه. وكما تسلط هذه الأضواء السحرية على النجوم الكروية التي تمت عملية تكريسها، فإن نجوما كروية أخرى سرعان ما تعلن عن وجودها وهي تقوم بتسجيل الأهداف أو تساهم بشكل فعال في عملية صنعها، وهو ما يجعل من الملاعب الكروية شاشات سينمائية كبيرة لا حدود لها وهي تنقل عبر التلفزيون العالمي بمختلف محطاته وتجلياته. وكما تبرز نجوم كروية تخفت أخرى أو تختفي بشكل نهائي أو تدريجي. هكذا لاحظنا قد خرج من رحاب كأس العالم هذا كل من النجمين الكبيرين البرازيلي نبمار والبرتغالي كريستيانو رونالدو.
***
طبعا، لقد كنت أريد أن أنشر هذه الملاحظات بعد أن كتبتها في دفتري بشكل تلقائي، على صفحتي في الفاسبوك لأرى مدى تفاعل أصدقائي معها، وتعقيباتهم عليها، لولا أن فضل كاتب هذه الرواية الذي أصبحتم تعرفون اسمه الآن توظيفها في عمله الروائي هذا وجعلها أكثر من ذلك فصلا افتتاحيا فيه، ومن هنا فلم يبق لي سوى أن أتمنى أن تروقكم وأن تتفاعلوا معها هنا والآن، وإلى اللقاء في الفصل الثاني.
___________________________________
* الفصل الأول من رواية تحمل عنوان “شمس المغرب”، وهي رواية حول مشاركة المنتخب المغربي في مباريات كأس العالم المقام بدولة قطر 2022