كيف تخطى رفيق الحريري الحدود؟!

كيف تخطى رفيق الحريري الحدود؟!

محمود القيسي

     يَا أيها البطل الذي فينا.. تَمَهَّلْ!

    عِشْ ليلةَ أُخرى لنبلغ آخر العمر المُكلَّلْ

    ببداية لم تكتملْ،

    عِشْ ليلةً أُخرى لنكملَ رحلةَ الحُلُم المُضَرِّجْ

    يا تاجَ شوكتنا، ويا شَفَقَ الأساطيرِ المُتَوَّجْ

    ببدايةٍ لا تنتهي.

   يا أيها البطلُ الذي فينا .. تمهَّلْ!

  عِشْ ساعةً أُخرى لنبدأ رقصةَ النصرِ المُنَزَّلْ

  لم ننتصربعدُ، انتظرْ يا أيها البطلُ انتظرْ

 فعلامَ ترحلْ..

 يا أيها البطلُ

  الذي فينا تمهِّل”.

    لم يولد رفيق الحريري في قصرٍ من الرخام. كما إنه لم يولد على سريرٍ من حرير وريش النعام والحمام، وفي فمه كما يعتقد البعض ملعقة من الذهب والفضة الخام. كما لم يأتي هذا “الرفيق” الذي شغل الناس والدنيا في حياته وشغل الناس والدنيا في استشهاده من عائلة ثرية، أو من عائلة سياسية، أو روحية، أو على بلاط الرخام.. جاء من وجع الناس وتراب الأرض وطحينها وحب الأهل والصحبة والشجر وقصائد الاشعار والأغاني الوطنية وأحلام الناس.

كانت رؤية الرئيس رفيق الحريري إلى الأساس المنهجي لماهية الوطنية الديموقراطية، أو الدولة الوطنية الديموقراطية، قوامه: “إن المجتمع المدني ليس إنعكاس الدولة، بل الدولة هي تعبير المجتمع المدني”، الدولة الوطنية الديموقراطية التي ستغدو عنده الدولة السياسية، الليبرالية، التي ينتجها المجتمع المدني على أنها شكل وجوده السياسي، والتي تصير دولة (ديموقراطية) يتحد فيها الشكل السياسي والمضمون الإجتماعي. فالدولة الوطنية الديموقراطية هي جميع أفرادها، بلا تمييز وعليها إن تقوم بوظائفها التي هي وظائف إجتماعية، لا تتعلق بالصفات الفردية لكل فرد، بل بصفته الإجتماعية على نحو يرضي مواطنيها، لأنها تحديد ذاتي للشعب. كان يؤمن إن قيام دولة وطنية ديموقراطية حديثة مشروط بتفكك البنى والعلاقات التقليدية، ما قبل المدنية و الوطنية، والحيلولة دون أن ينتج في أي من هذه العلاقات التقليدية نتائج سياسية وهي علاقات وهمية في جميع الأحوال، تخفي العلاقات المادية والأخلاقية الواقعية. السبيل إلى تفكيك هذه البنى والعلاقات هو إدراج الأفراد في بنى وعلاقات حديثة، مهنية ونقابية وحزبية وتنظيمات مدنية مختلفة. ذات مضامين اجتماعية / اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، يعينها نمو الإنتاج الإجتماعي بجميع منطوياته المادية والروحية، من دون أن يتخلوا عن شروطهم المسبقة، الاثنية، والدينية أو المذهبيه وتحديداتهم الذاتية إلا بإرادتهم. نمو الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي هو كلمة السر التي تفتح مغاليق الدولة الوطنية الديمقراطية. حيث أن الأهداف التي يصعب تحقيقها، ينتج عنها مكاسب دائمة. والضعفاء فقط كما يقول الرئيس الحريري هم من يسعون لتحقيق الأهداف السهلة ودائماً ما يخسرون في النهاية. كان يعتقد رحمه الله أيضاً إن الفرق بين الثورات الإجتماعية العامة والتي تولد لأسباب إجتماعية تاريخية متعددة الجوانب والأسباب وبين النمو الاجتماعي الحقيقي للتغيير والعبور نحو الدولة الوطنية، هذا العبور بالفعل الاجتماعي والحاجة له يعني التخلي عن البنى الاجتماعية القديمة، والموروثة بشكلها الهش والفوضوي وعلاقاتها التي بكل أسف تعيد إنتاج نفسها وتتجدد في تخلفها واستبدادها، وكما يقول مكيافيلي: “إذا تركت المشاكل تتفاقم، فسوف يأتي الحل بعد فوات الأوان”. إن النمو الاجتماعي تأسيس لعلاقات اجتماعية يأخذ بالحسبان الحاجه لهذا التغيير التدريجي والارتفاع إلى حاجات المجتمع الملحة والمطلوبة.

    كان الرئيس الشهيد صاحب نواة مشروع وطني يبدأ من لبنان آخذاً في الاعتبار عمقه العربي وعمقه التاريخي والظروف المحيطة رغم صعوبتها، هذا المشروع الذي دفع رفيق الحريري حياته ثمناً له، هذه التضحية / الشهادة – الاستشهاد والتي كان رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري ومؤسس إلى حد ما الجمهورية اللبنانيه “الجديدة” على الأقل بالقياس إلى الكيان السابق لبنانياً بل حتى وبكل أمانة عربياً، كانت هي المقدمة الطبيعية لبداية نمو اجتماعي يؤسس لفعل التغيير التدريجي والحاجة التاريخيه من أجل مجتمع يأخذ في الاعتبار مدى حاجته للتغيير والتطور المستمر… وما استشهاده إلا نتيجة لتراكمات عديدة – متعددة بل تراكمية في كمها ونوعها، كما في تقاطعاتها والتي سوف أتي على تناولها وبشكل تحليلي مقرون بدلائل كثيرة حين تسمح الظروف بذلك. ابتداءً من مؤتمر لوزان ونجاحه في مؤتمر الطائف ومشاركته الكبيرة والفاعلة في إصدار وثيقتها التوافقية/الوفاق الوطني “برعاية المملكة العربية السعودية”، ووقف الحرب الأهلية في لبنان وإعادة إعماره وإرساء سلمه الأهلي وإعادة وضعه على الخارطة الدولية والعمل الدؤوب على تطوير النظام اللبناني وتحديث قوانينه بما يتماشى مع متطلبات العصر الحديث. كما عمل جاهداً على نهضة المجتمع اللبناني في مجالات عديدة وعلى رأسها تأهيل وتعليم أكبر عدد ممكن من الطلبة والطالبات، في جميع المجالات والتخصصات العلمية وفي أهم الجامعات الوطنية والعالمية حيث “إن رجل السياسة يتطلع للإنتخابات القادمة، ورجل الدولة يتطلع للأجيال القادمة”، كما يقول توماس جيفرسون. كذلك محاولاته المبنية على قناعات وطنية صلبة وراسخة في تحرير لبنان من كل الجيوش الأجنبية، من أجل قيامة لبنان وقيامة دولته الوطنية الديمقراطية.

    لقد جسدت حياة رفيق الحريري كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه المحن والتحديات، فما إن يؤسس مشروعاً لإحياء قيم المجتمع ويغلقه إعداء النمو المجتمعي ظلما وعدوانا حتى يؤسس مشروعاً آخر، وما أن يُحارب من قوى الاستبداد والظلام في اتجاه حتى ينشط ويجتهد في اتجاه آخر دون كلل أو ملل.. وهكذا في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل وانتفاخ كيانه الهش ومؤسساته الباغية، ولا ترتعد من سطوة قرارته الجائرة وسياساته الرعناء. لا تقتصر حياة الحريري الاب على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية والسياسية الباهرة، بل إن رجل الفكر والسياسة والاقتصاد امتلك مرونة دبلوماسية مدهشة صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكل شخصية بديعة ذات ملامح ومكونات متكاملة تُوّجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد. لذا، لم يكن مستغربا أن تفتح جبهات الحرب على الرجل نيرانها من كل حدب وصوب، وأن يكون قرار إقصائه حاضرا على الدوام في كل المراحل والمحطات.

   من الصعب الكتابة عن قامة وطنية كبرى كقامة رفيق الحريري الذي أفنى حياته حتى لحظة الاستشهاد في سبيل نصرة القضايا العربية وإعلاء شأن شعبه وأمته، وأعطى القضية الفلسطينية الكثير الكثير. حين نتحدث عن علاقة رفيق الحريزي بالقضية الفلسطينية نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة الاحتلال.

Visited 60 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني