الذكرى السنوية الـ 140 لوفاة كارل ماركس
جمال القرى
بعد موت زوجته في الشهر الأخير من العام 1881، لم يستطع كارل ماركس التصالح مع فكرة فقدانها. وسافر بعد عدة أشهر بناءً على نصيحة الأطباء إلى أماكن معتدلة المناخ لتحسين حالته الصحية. وخلال عشرة أشهر زار فينتنور في جزيرة وايت، والجزائر، وموناكو وأرجانتيوي بالقرب من باريس، ثم غادر إلى ضفاف بحيرة جنيف ومنها مرة أخرى أرجانتيوي. لكن الألم بقي يطارده في كل مكان. وكم كانت كلماته لأقرب أصدقائه مؤثّرة: “بالمناسبة، أنت تعرف بأنه يصعب علي أكثر من أي شخص آخر التعبير عن الحزن والألم، ولكن سيكون من الرياء عدم الاعتراف بأن معظم أفكاري عن ذكريات زوجتي لا يمكن فصلها عن كل ما كان أكثر إضاءة في حياتي”.
ومن نوفمبر العام 1882، كان ماركس مرة أخرى في فينتنور، حيث انكبّ من جديد على بحثه العلمي. فقد عمل على الطبعة الألمانية الثالثة من المجلد الأول من “رأس المال”، وعلى المسائل الرياضية. ولكن في 11 يناير العام 1883، تلقّى ضربة جديدة، فقد توفيت فجأة في أرجانتيوي ابنته البكر جيني، التي كان المفضّلة لديه، تاركة خمسة أطفال. وفي يوم تلقّيه الخبر، عاد إلى لندن مكسوراً ومنهاراً جسدياً. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها كل من إليانورا وإلينا ديموت وأنجلز لدعمه والمحافظة على نشاطه، فقد نام في 14 مارس بهدوء ومن دون ألم إلى الأبد.
وفي هذه المناسبة الحزينة، كتب أنجلز “لقد خسرت البشرية عقلاً كان أهمّ مما امتلكته يوماً. صحيح أن حركة البروليتاريا تسير قدماً بطريقها الخاص، غير أن الفرنسيين والروس والأميركيين والألمان افتقدوا المرجع الأساسي الذي كانوا يتوجهون إليه في اللحظات الحاسمة لتلقّي المشورة الواضحة التي لا يمكن دحضها، والمقدَّمة في كل مرة من عبقريٍ مسلحٍ بالمعرفة”.
وحضر جنازته التي أُقيمت في 17 مارس في مقبرة خايغتسكي لورا وبول لافارغ، وإليانورا ماركس وشارل لونغي، ويليام ليبكنخت وفريدريك ليسنر، والعديد من الأصدقاء الآخرين، وممثّلون عماليون من كل العالم، حيث دفن بجانب زوجته. فقد كان قد أعرب عن رغبته بأن تكون جنازته هي الأكثر تواضعاً.
وعلى قبر صديقه، ألقى فريدريك إنجلز خطاباً قال فيه:” في 14 مارس، وعند الساعة الثالثة إلا ربع، توقف أعظم مفكرٍ عن التفكير. إنها خسارة لا تقاس، لقد ضرب موته كلاً من الطبقة العاملة المناضلة في أوروبا وأميركا وعلم التاريخ. إن الثغرة التي نجمت عن رحيل هذه الروح العظيمة، ستبرز جليّة قريباً.
فمثلما اكتشف داروين قانون تطوّر الطبيعة العضوية، اكتشف ماركس قانون تطوّر التاريخ البشري: لقد أوضح الحقيقة البسيطة التي تخفيها هيمنة الإيديولوجيا القائلة بأن الإنسان يجب أولاً أن يأكل ويشرب ويجد المأوى والملبس قبل أن يصبح باستطاعته الاهتمام بالسياسة والعلم والفن والدين الخ… وبرهن بأن انتاج الوسائل المادية للعيش ومن ثم درجة التطوّر الاقتصادي المحقّقة من طرف شعبٍ ما أو في حقبةٍ ما، هو ما يشكّل الأساس الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة والمفاهيم الشرعية والفن وحتى الأفكار حول الدين التي يختصّ بها هذا الشعب أو ذاك، وعلى ضوئها يجب أن تُفسّر وليس العكس كما هو الحال.
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر. فقد اكتشف ماركس أيضاً القانون الخاص بالحركة الذي يحكم نمط الأنتاج الرأسمالي لعصرنا والمجتمع البورجوازي الذي خلقه هذا النمط من الإنتاج. إن اكتشاف فائض القيمة سلّط الضوء فجأة على المشكلة محاولاً حلّ ما عجزت عن حلّه جميع الأبحاث السابقة للاقتصاديين البورجوازيين وكذلك النقّاد الإشتراكيين.
إن هذين الاكتشافيين يُعدّان أمران كافيين في حياة شخص. وسيكون سعيداً من يتسنّى له ولو تحقيق أحدهما.
علاوة على ذلك، فقد تميّزت كل أبحاثه العديدة بالعمق، حتى أنه قدّم في حقل الرياضيات اكتشافات مستقلة.
لقد كان ماركس رجل علم. فالعلم بالنسبة إليه كان حركية – دينامية – تاريخية وقوة ثورية. ومهما كان سروره عظيماً بأي اكتشافٍ جديدٍ في العلوم النظرية ولئن كانت تطبيقاتها مستحيلة البلوغ، فإنه كان يعيش سروراً من نوعٍ آخر حين يشمل الاكتشاف الجديد تغييراً ثورياً في الصناعة وفي التطوّر التاريخي عموماً.
لقد كان ماركس قبل كل شيءٍ ثورياً. وكانت مهمته الأولى في الحياة المساهمة بطريقةٍ أو بأخرى بالإطاحة بالمجتمع الرأسمالي وبمؤسسات الدولة التي جلبها معه، وكذلك، المساهمة في تحرير البروليتاريا الحديثة الذي كان أول من جعلها تعي بموقعها وحاجاتها وبشروط تحرّرها. لقد كان الكفاح أمراً أساسياً بالنسبة إليه، إذ كافح بحبٍ وعزمٍ ونجاح لم ينافسه فيه إلا القليلون. لقد عمل في الجريدة الرينانية الأولى في العام 1842 وفي جريدة إلى الأمام الباريسية في العام 1844، والجريدة البروكسلية – الألمانية في العام 1847 وفي الرينانية الجديدة بين العامين 1848 – 1849 وفي التريبيون النيويوركية بين الأعوام 1852 – 1861، بالإضافة إلى إشرافه على النشريات الدورية النضالية ونشاطه في منظمات باريس وبروكسل ولندن، وأخيراً توّج كل ذلك بتأسيس جمعية العمال العالميين. لقد كان ذلك إنجازاً يمكن لمحقّقه الافتخار به حتى ولو لم ينجز أي شيء آخر.
وبنتيجة كل ذلك، كان ماركس أشدّ المكروهين وأكثر المُشهّر بهم في عصره. فقامت حكومات مطلقة وجمهورية على حدٍ سواء بترحيله عن أراضيها وتنافس البورجوازيون من المحافظين أو من أقصى الديموقراطيين بالتشهير به. لقد أزاحوا ماركس كما تُزاح خيوط العنكبوت. لكنه لم يعر الأمر اهتماماً، ولم يرد إلا عندما دعته الضرورة إلى ذلك. لقد مات محبوباً وممجّداً، ونعته الملايين من العمال الثوريين، من مناجم سيبيريا إلى كاليفورنيا إلى كافة أنحاء أوروبا وأميركا. سيُخلّد اسمه وأعماله على مرّ العصور!”
Visited 66 times, 1 visit(s) today