الرهان على الجسد  

 الرهان على الجسد  

  سعيد بوخليط

   ما الجسد؟ أكثر من كونه منظومة بيولوجية، مفتوحة دائما وباستمرار على اجتهادات سؤال العلم وتراكماته اللامتناهية، سيعكس الجسد، قبل أيِّ حقيقة أخرى تبدو حاضرة ضمن هذا الإطار، أول سبيل ينتقل عبره الإنسان من بؤرة ذاته صوب العالم الخارجي، ثم أول اتصال له بالموضوعي الكامن افتراضا أو موضوعيا- يصعب الجزم- خارج إطار الذات.

 يجعلنا الإحساس بالجسد، ندرك معاني الآخرية وفق مختلف حمولتها،الموت نفسه، مثلما أخبرتنا نصوص الديانات،تقف عند حدود تعديم قابلية هذا الجسد،وتعطيل عمله وكذا التحول به صوب جهات أخرى. الموت بكل بساطة، إلغاء لحيز الجسد، وإعادة تحوير هويته من المرئي إلى اللامرئي.

نموت داخل أجسادنا، تتعالى الذات عن منظومة المحدِّدَات المادية الزمكانية، غياب الأجساد جراء واقعة الموت بمثابة عنوان لانقضاء كتلة مادية، نسافر وجهة مكان ثان؛ غير المكان المألوف، يغدو الجسد فقط ذكرى مرَّت من هنا، مجرد أثر مادي اقتحم المكان إبان ذكرى، ثم اندثر وتلاشى.

تضفي الأجساد على الموت، حقيقة معلومة بإعطائها سمة اختفاء معطى الحيز المادي، بالتالي تركيز الموت على الجسد. نموت بأجسادنا في هذا العالم، كي نحقق انتقالا مختلفا عن المعطى الراهن، بينما تستمر حيَّة أبد الدهر عناوين  معالم تبلور الباطني: روح، فكر، آثار معنوية، نتاجات ذهنية، وإن أضحى “شائعا” التميُّز الوجودي الذي حظيت به فئة استثنائية على امتداد عصور الإنسانية دون الأغلبية الساحقة، نظرا لما امتلكته من قدرات نوعية استثنائية ذهنية أو فيزيائية؛ مقارنة مع غيرها، أتاحت أمامها إمكانيات لها الترسخ كذاكرة ملؤها بورتريه جسدي، بفضل آثار معنوية خلَّدت الجسد باستمرار فوق كل محو، يستعيد وفقها سيميائيته.

أقول، بأنَّ حظوة نوعية، من هذا القبيل، قد انتقلت نتيجة الثورة الرقمية كي تصبح تعميما  ”ديمقراطيا” وحقا شخصيا،متاحا للجميع دون شرط الاستثناء الوجودي، مثلما ساد الأمر طويلا قبل سيادة منظومة الديجيتال، صار من السهولة بمكان التقاط الصور بواسطة هاتف محمول، متى أراد صاحبه، وكيفما أراد، ثم تبثُّ بلمسة أصبع بين طيات أثير الزمان على امتداد اللامكان.

أخيرا، يقارع الجسد الموت ويتحداها ضمن مضمارها.

إذن، الخاصية التي منحت الموت مجالا خاصا جدا بها، أخذت تتقلص تدريجيا منذ نجاح الإنسان في اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي التي أمدته بتوثيق كلي ومحض فوري للجسد حسب مختلف تفاصيله اللحظية، بعدها اكتسى السعي مناحي مذهلة للغاية نتيجة التطور اللامتوقع الذي بلغته الصورة، وقد أمسكت بأسرار الخلق.

أحدثت الصورة من خلال وضعيتها الحالية، انقلابا كيفيا بخصوص مستوى المحددات المفهومية للموت والحياة، بل أكاد أجزم، بأنها مدَّدت بسخاء منقطع النظير إطار الحياة، ليس بالضرورة فورية بالمعنى المعهود للكلمة، لكنها افتراضية طبعا انسجاما مع منظومة النسق الرقمي. مقابل ذلك، انسحب كثيرا مجال الموت التقليدي.

الجسد/الصورة: الأيقونة، البروفايل النموذجي،التحقق المثالي، السلطة المرنة بدل الاعتباطية، الأفق اللامتناهي لخلق الجسد، إلخ. بوسع الشخص منذئذ، التدخل امتثالا لكل رغبة قصد الاحتفال بجسده ، ليس ككيان اكتمل نهائيا تشكله الهوياتي؛ كما ساد الوضع قبل القطيعة التي حققتها الصورة، بل قابل للتطويع المرن وإعادة الخلق والانبعاث، هكذا افتقد الموت في خضم ثورة الجسد الرقمية وتحولاته، حتميته الأصلية.

تدخلت حاليا وسائط عدّة، فيما يتعلق بصياغة مستمرة لهوية الجسد، بجعله رهينة منظومة سوسيو- اقتصادية ومن ثمة إيتيقية خاضعة لمضاربات ظرفية، أنزلته من برج محض وجودي،كي يغدو مصيره موصولا فقط بقيمة أداتية، تتقلب راهنية سياقها حسب مقتضيات مباشرة ترتبط بالمقتضى العابر.

مع ذلك، وإن سحب الجسد البساط من تحت قدمي الموت، بعد نجاحه في تحقيق التوطد ضمن الزمان بفضل تسيد الصورة الخالقة، بالتالي لن ينعدم وجوده قط سواء أكان حيا أو ميتا،لأنه مستمر هنا، مقوِّضا قانون الموت، فلاشك أن الإنسان لم يتخلص بعد نفسيا، ولازال عاجزا عن هزم التمثل اللاواعي والحاضر دائما بخصوص ارتباط الموت بمؤشرات اعتلال وسقم الجسد من جهة، أو حيويته وانتعاشته من جهة أخرى. سياق المرض لاسيما المزمن وارتداد طاقة الجسد نحو درجات منحدرة، يندر حسب التصور القائم بشبح الموت؛ فالأخير ليس ببعيد عن المعني.

بالعكس من ذلك، تنمُّ القوة والفتوة والنشاط عن ابتعاد خطر الموت، والاستمتاع بمزيد من الحياة، غير أن الحقيقة مغايرة تماما لهذه المقاييس والبناءات الاستدلالية، ويبقى المعيار الوحيد لتعريف سواء الحياة أو الموتى، كونهما طارئين بكل ماتحمله فظاظة هذه الكلمة من دلالة.

إذن، بنية نفسية مترسبة تحتاج بدورها إلى ثورة جذرية شخصية، كي يتحقق هذا الانفصال بين زمني الجسد والموت،مادامت العلاقة بينهما لاتحترم قط رتابة زمنية متواصلة.  

منطق الموت الوحيد، يكمن في المباغتة والفورية اللاذعة، حدث يتجاوز مختلف القوانين والتشريعات. الموت سيّد نفسه، غير آبه مطلقا سواء بكيان الجسد أو غيره، فلا زال غاية اليوم، مالكا زمام أمور الجميع رغم كل التفوق الذي حققته العلوم البيولوجية والانجازات الطبية، التي سمحت فقط بتوسيع هامش إمكانية الالتفاف على سطوة الموت،لكن ليس مجاراتها تماما.

بناء على الفكرة الأخيرة، تطرح بحدة قضية حدود التداخل ضمن سياق واحد بين الرؤية الميتافيزيقية لمسارات القدر، باعتباره وضعا قائما سلفا ومصيرا جاهزا يسبق كل تدبير وضعي، ثم التدخل البشري بالتأثير على الطاقة الجسدية بتمطيط إمكاناتها أو تقليصها، عبر الاهتمام بآليات السير العام للجسد البيولوجي والحرص عليه قدر الإمكان من شر الأمراض وكذا ولوج عتبة الموت والعدم.  

عموما، قضية الجسد بمثابة تدبير لأمر مواجهة الموت، وكل الثورات التي عرفها تاريخ الجسد،انطوت دواعيها الضمنية على تمكين الحياة من القضاء على الموت،بحيث عكست ثقافة الجسد في بعدها المتخاذل أو المتوقد،فهما معينا للقدرة على خوض جوهر الصراع مع الموت.

فوبيا الجسد بغض النظر عن خلفياته النفسية، ذات المناحي السيكوباتية؛ إن صارت قهرية، تؤكد من جهة أخرى تسلط هاجس الحياة واستحضار مرعب لعدمية الموت.                   

Visited 68 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي