بمناسبة اليوم العالمي للتوحد.. تحية إلى ذكرى علي قازان

بمناسبة اليوم العالمي للتوحد.. تحية إلى ذكرى علي قازان

 بديعة بيضون

   بمناسبة اليوم العالمي للتوحد أتذكر أنه عندما كُنا أطفالاً صِغار، كان في مدينتنا بنت جبيل شاباً اسمه علي قازان، وأنا فقط وبعد زمنٍ طويل جداً وبعد أن كبرت وسافرت إلى بلادٍ بعيدةٍ جداً، وعشت فيها سنوات طويلة، ودرست وتعلمت هناك، عرفت وفهمت بوجود ما يُعرف بـ”التوحد”، وأن علي قازان كان متوحداً!

علي قازان كان شاباً ضخم القامة وقوي البُنية بشكلٍ استثنائي، وكان لا يرغب بالتفاعل مع الآخرين نهائياً، وكان قليل الكلام ولا يرفع رأسه أبداً، ولا ينظر إلى وجه أو إلى عيني مُحدثه، ودائم النظر إلى الأرض. بالإضافة إلى كونه كان فقيراً جداً، وقد أجبرته ظروف الحياة على أن يعمل عتالاً، وكان الناس لم يسمعوا بعد بالتوحد ولا يعرفون شيئا عن التوحد.

كان علي قازان يحمل على كتفه كيس الطحين من وزن 50 كيلو أو ما يقرب… ويسير به مسافات بعيدة من مكان إلى مكان، وعند إيصاله الحِمل الثقيل إلى المكان المقصود كان يضعه على الأرض ويقول: “علي قازان بّدُّو”، يعني “علي قازان يُريد”، ويُحدد المبلغ الذي يُريده بالضبط. كان علي قازان مدهشاً، بل كان نابغة وعبقرياً في عمليات الحساب، وكان كثيرون يتحدونه في لُعبة الأرقام التي كان يتقنها ولا يخطىء بأيَ منها، وكأنه يحتفظ بجميع الأجوبة في مكانٍ خفي أو جيبٍ سحري لا يراه أحدٌ سواه، كانت لا تخونه أي عملية حسابية أياً كان نوعها ومهما كانت مُعقدة وصعبة، ومهما كانت مُركبة، ولا يخونه أي سؤال. وكان دائماً قبل الإجابة وبسرعةٍ أقل ما يُقال عنها أنها كانت مُدهشة وأشبه ما تكون بالسحر، وقبل أن يُعطي الجواب يقول: “علي قازان يقول”.. ويعطي الجواب دون أن يُخطىء ولو لمرةٍ واحدة، وربما كان عالم الحساب والأرقام وسيلة التواصل الوحيدة التي كان يتواصل من خلالها مع الآخرين من الناس، والتي كان يرغب فيها ويأنس إليها ويبدو سعيداً بها. وكان الوقت الوحيد الذي يُخيل فيه للمراقب أن علي قازان يبتسم أو أن بإمكانه أن يبتسم. وحدها الأرقام كانت صديقة علي قازان التي كان يرتاح إليها ويثقُ بها. كان لا يقول أبداً “أنا أريد أو أنا أقول”.. بل كان دائماً يقول “علي قازان يُريد.. وعلي قازان يقول..”، وربما من يدري.. كان يتكلم باسم علي قازان السجين داخل علي قازان، الذي يعرفه باقي الناس، والذي لا يعرفه ولا يفهمه أحد ٌ سواه.

من نوادر علي قازان، وما كان معروفاً عنه لدى الجميع، أنه إذا أحد ما رغب بمحاججته ومُساومته على أجره لا يُحاجج ولا يُساوم ولا حتى يتكلم، بل كان يحمل كيس الطحين أو أي شيء آخر يكون قد قام بحمله وإحضاره ويُعيده إلى حيث أتى به، ولا يُعيده حتى وإن أعلن الطرف الآخر موافقته على السعر الذي قد حدده وعن رِضاه، وكان لا يرضى حتى المزاح في هذا المجال، وإذا أحد أراد أن يكون كريماً معه بأن يُعطيه أكثر من ما يطلبه كان يرفض ويُعيد الزيادة وبمنتهى العزة والكبرياء، وأيضاً دون أي كلام. كان لا يقبل من أحد أجراً لأتعابه إلا ما يُقرره علي قازان لعلي قازان، وكان يرفض بإباء أي زيادة في الأجر ويرفض بحزم لا رجوع عنه ولا مُساومة عليه أي نقصان.

لو أن الظروف والوعي قُدرا لعلي قازان لكان ربما تبناه أحد أهم مراكز العلوم العالمية، ولكان عمل محاسباً متحدياً كل آلات الحساب وكل الحواسيب والكمبيوترات دون منازع على الإطلاق، ولكن للأسف.. الجهل والفقر والحرمان جعلوا علي قازان يُعاني من الإهمال ويعيش حياته على هامش الحياة، شبه منسيٍ في الظلام.

في هذا اليوم، اليوم العالمي للتوحد، السلام لروح علي قازان ولأرواح كل الذين بسبب الفقر والجهل والحرمان عاشوا حياتهم في الظلام، الذين كانوا ربما سيكونون شموعاً مضيئةً في هذا العالم لو تسنت لهم الرعاية، وتسنى لهم الاهتمام، ولو كانو حصلوا على حقوقهم في الحب والحنان، وربما كانت ستكون لهم إنجازات تُخلدهم وتُخلد ذكراهم، ولما كانوا عاشوا حياتهم مُهمشين ومُعذبين.. ولما كانوا غابوا في عالم النسيان

Visited 23 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة