صدمة لا نهاية لها لسكان غزة

صدمة لا نهاية لها لسكان غزة

ريم ياسين

بين التاسع من أيار والثالث عشر منه، كانت غزة مسرحا لتصعيد جديد للصراع مع إسرائيل. فقد أطلقت حركة الجهاد الإسلامي حوالي الألف 1500 قذيفة نحو الأراضي الإسرائيلية وقتلت شخصين. وتسبب القصف الإسرائيلي على قطاع غزة بوقوع 33 ضحية وتهديم 93 مبنى بينما أصبح 128 مبنى غير صالح للسكن و2516 شخصا بلا مأوى. وقد تم دفن الموتى ورفع الأنقاض وسيتم حتما إعادة بناء مباني جديدة. ولكن الأضرار ليست فقط مادية، بالنسبة لسكان غزة، هذه العودة الأبدية للحرب هي سبب تتجدد معه المعاناة النفسية والمعنوية، إضافة إلى ظروف المعيشة القاسية، فقر وحبس وارتباك. أشخاص قلائل لا يطالهم هذا العذاب، تعلم كيفية تخفيف هذا العذاب أو التأقلم معه  أو محاولة الشفاء منه يتطلب العمل بكدح من قبل أشخاص يأتون من آفاق مختلفة مثل العاملين في المهمات الإنسانية والمهنيين في القطاع الصحي والتعليمي. إنه عمل  سيزيف، بطل اللامنطقية التي تحدى الآلهة  وحارب الموت.

يقع مخيم اللاجئين دير البلح في وسط قطاع غزه الذي يخضع لحصار مستمر منذ أن سيطر الإسلاميون في حركة حماس على السلطة سنة 2007.  خلال فترة التصعيد، قصف مبنى في مخيم عن دير البلح  ولكن بعد يومين من اتفاق وقف إطلاق النار، ساد جو مذهل كأنه عيد على الأنقاض، فهناك موسيقى وبالونات وبهلوان وفتيات محزمة بالعلم الفلسطيني تتسلق أعمدة الباطون المقصوفة من الإسرائيليين. أما الرجال، فهم جالسون في الظل يدخنون بدون أي كلمة. نظمت هذا الحدث منظمة غير حكومية وهي مركز الشباب ساود ومديرها في غزة هو محمود أبو صالح  الذي يقول، بعد كل قصف، نحن ننظم نشاطات ترفيهية  للأولاد لمساعدتهم على تخفيف التوتر ونقدم لهم هدايا ونحثهم على اللعب والغناء والرقص.

الشابة رهيف زيدان تقفز على حائط الباطون المهدم ملوحة بالعلم الفلسطيني’ إنه شعور جيد أن تستطيع أن تلهو بعدها كل هذا الضغط. يقع منزل رئيف على بعد مرمى حجر من المبنى المهدم. وهي تروي أن الإسرائيليين أنذروهم أنهم سيقصفون المبنى المجاور، “كانت الساعة 8:30 مساء فنزلنا إلى بيت جدتي في الطابق السفلي وسمعنا انفجارا كبيرا وشعرت أن قلبي سينفجر. لقد سمعت في حياتي انفجارات كثيرة لا تعد ولا تحصى ولكن هذا كأنها أكبرها”.

بجانبها، يقف رجل يحمل طفلا بين يديه. هو لا يسكن بعيدا ونوافذ منزله تحطمت جميعها نتيجة الانفجار. كان كبيرا جدا كما يقول وقد قذفني متران إلى الوراء وغطى غباره المنزل.  لم نعد نرى شيئا  وكنا نسمع طفلنا يبكي ولم نستطيع إيجاده.  وهو الآن لا يستطيع النوم ويستيقظ باكيا.

اكتئاب وحزن وخوف

 في غزة، الأطفال هم الضحايا الأوائل لمشكلات التوتر ما بعد الصدمة.  فالأولاد ما دون 17 سنة يشكلون أكثر من نصف سكان قطاع غزة وعددهم 2,100,000.

في تقرير نشر في حزيران 2022 صادر عن المنظمة البريطانية غير الحكومية أنقذ الأولاد، يقول كل أربعة على خمسة من الأولاد أنهم يعيشون حالات من الاكتئاب والحزن والخوف. ويشير هذا التقرير إلى تدهور الوضع منذ تقرير 2018. بينهما حصلت ثلاث عمليات تصعيد، عام 2018 و2022 و2023. حسب هذه المنظمة، بالإضافة إلى الإصابات الجسدية والحرمان الناتج عن سوء الأحوال الاقتصادية وعدم إمكانية الوصول إلى الخدمات البديهية مثل الصحة،  فإن الحصار تسبب بأزمة عقلية عند الشباب والأولاد،  نوبات ذعر وكوابيس  والصعوبة في التركيز وعدائية.  لن يستطيع هؤلاء الأولاد النمو بشكل هادئ.

لا يوجد مكان آمن

 تشكل المدرسة المكان الذي تظهر فيه هذه العوارض وهي أيضا مجال عمل المنظمات الإنسانية. هذا الصباح، يتواجد ثلاثة موظفين من المجلس النروجي للاجئين في قاعة صف في مدرسة ابتدائية  للصبيان في بيت لهيا  شمال قطاع غزة. طور هذا المجلس منهجا تدريسيا يهدف إلى مساعدة الأولاد على الدراسة بشكل مناسب بعد إصابتهم بصدمه. يقوم معلم في هذه المدرسة تدرب على هذا المنهاج باللعب مع الأولاد  لتعليمهم على الاسترخاء. مما يسمح أيضا بإيجاد الأولاد الذي يحتاجون دعما نفسيا معمقا

يقول يوسف حماش الناطق باسم المنظمة النروجية في غزة: “الصدمة لدى الأولاد هي جزء من الصراع . هنا الجميع متأثر إلى حد أنه من المستحيل تغطية جميع الاحتياجات. في سنة 2022، أخذت المنظمة النروجية على عاتقها  7400 صبي وفتاة في حوالي 80 مدرسة في قطاع غزة. نحن نطبق البروتوكول خاصتنا، ولكن قبل أن ننهي الاعتناء بطفل، يعود العنف ويدمر عملنا ويحيي الصدمة. هذه هي مشكلتنا الرئيسية”.

لهذه الأسباب،  يرفض الطبيب النفسي للأطفال سامي عويضة الذي يدير المركز النفسي للصحة العقلية في غزة، أن يتحدث عن عوارض ما بعد الصدمة. ويقول: “نحن لسنا ما بعد الصدمة. نحن دائما داخل الصدمة  وأسمي هذا متلازمة غزة.  لا يوجد أبدا استراحة.  الناس تعيش وتكبر في واقع صادم.  لهذا، يحاول الجميع أن يطور استراتيجياته الخاصة للصمود  وتقنيات للتأقلم يستعملونها مجددا عندما يعود العنف، هناك حرب نفسية تدورفي غزة. أنا متأكد أن الإسرائيليين يحاولون كسر معنويات السكان. ولكنهم لن ينجحوا في ذلك  لأن الفلسطينيين يعون ذلك ونحن موجودون هنا لدعمهم. الطب النفسي للأولاد في غزة هو شكل من أشكال المقاومة السلمية”.

كيف نستطيع أن نشتكي من سوء عندما الجميع يعاني منه؟ ربما لأن الجميع يعاني، من الصعب الكلام بسهولة. في هذا الإطار، تنظم منظمة فلسطينية غير حكومية وهي اتحاد النساء الفلسطينيات جلسات حوار بين نساء.

في هذا اليوم، كانت هناك عشرة نساء جلست حول مدربتين. كلهن محجبات وإثنتان ترتديان نقاب أسود لا يظهر إلا الأعين. النساء ينتمين إلى وسط اجتماعي متواضع، تكرر كلمات مثل أف 16 وطائرة مسيرة وصاروخ. إحداهن تستمع وهي جالسة في زاوية بصمت.  تدعوها المدربة للكلام فتقول لقد وقع قصف في حينا الأسبوع الماضي. تشجعها المدربة قائلة من الظاهر أنك ما زلت متوترة جدا. فترد بالإيجاب وتتابع: “خلال التصعيد الماضي عام 2022  كدنا أن نموت وأنا أتناول أدوية ولكن هذا لا يساعدني كثيرا. عندي شعور بأن عائلتي ليست بأمان في أي مكان.  عندما مرت طائرات أف 16 فوق رؤوسنا الأسبوع الماضي، أخذ ابني يرتجف وهو امتنع عن الكلام منذ ذلك الوقت. أما زوجي، فهو لا يجد عملا  لأنه مصاب باضطرابات نفسية شديدة. شقيقه توفي أمامه بسبب القصف. لم يعد معي مال ولا أعرف كيف سأشتري ما نأكله”.

تشهق بالبكاء. تعطيها المدربة المحارم ثم تدعو النساء وهي تبتسم للتخلص من الطاقة السلبية والوقوف للقيام بحركات التنفسية. تضع المرأة محرمتها جانبا وتقوم بالحركات. ثم تقول لنا المدربة خلال الاستراحة أننا سنساعدها بشكل عملي أيضا.

لا يوجد شىء طبيعي

مشكلة إضافية تواجهها المدربة مثلها مثل جميع الأشخاص الذين يحاولون التخفيف من آلام  سكان قطاع غزة. بما أنها تعيش هنا، فهي تخضع لنفس الصدمات التي يتعرض لها الأشخاص الذين تحاول مساعدتهم. المنظمة الفرنسية  غير الحكومية أطباء بلا حدود الموجودة في غزة وضعت خدمة رعاية لمبتوري الأطراف وهي تشمل وحدة طب نفسي. تشرح الطبيبة النفسية آسيا كيلان والطبيبة المنسقة سهيب صافي كيفية عمل هذه الوحدة وتتحدثان عن تجربتهما الشخصية. “الحصار والقصف وانقطاع الكهرباء. كل هذا يؤثر على الناس. الأولى لديها ابن عمره سبع سنوات وقد عاش عدة حروب. أما الثانية فلديها فتاة عمرها أربع سنوات عاشت حتى الآن ثلاثة حروب. عندما تسمع قصفا، تحاول أن تطمئنها فتقول لها أن هذه ألعاب نارية. وفي المرة الأخيرة أجابتها الصغيرة أنها تكره الألعاب النارية. فقررت أن تكون أوضح معها في المرة القادمة”.

لكن ماذا يبرر القصف الذي عرفته سابقا وما هي نتائجه عليها في المستقبل؟ تقول آسيا كيلان، “كيف نستطيع ان نطلب من الناس أن يبتسموا وأن يتصرفوا بشكل جيد مع الآخرين  كأنه كل شيء طبيعي بينما لا شيء مما نعيشه طبيعي.  أحيانا هذا يفوق قدراتي. ردات الفعل الطبيعية هي التأثر.

 يرى جميع هؤلاء الاختصاصيون أن الحل الوحيد الذي يضع حدا نهائيا لهذه الآلام هو رفع الحصار وإنهاء الصراع الذي يدوم منذ 75 عاما. وهذا سيناريو غير مرجح على المدى المنظور.

بتصرف عن “لو فيغارو”

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة