فى الذّكرىَ الثانيّة بعد المائة لمعركة أنوَال المَاجِدة
من العُجْبِ أنْ يُرَوَّعَ الرُّومِيُّ ويَنْثنيِ.. تَحْتَ أَقْدَامِكُم وإِقْدَامِكُم سَاعَةَ الظّفرِ
د. محمّد محمّد خطّابي
فى الواحد والعشرين من شهر يوليو من العام الجاري 2023، مرّت الذكرى الثانية بعد المائة لمعركة “أنوال” الخالدة التي دارت رحاها على ثرىَ أرض الريف الوريف شمالي المغرب، فى مثل هذا التاريخ المجيد من عام 1921، حيث أبلىَ المجاهدون الأبرار، والشّهداء الأخيار البلاءَ الحسن، وخاضوا حرباً دفاعية باسلة ذوداً عن سمعة الوطن، وصوْناً لكرامته وعزّته وعُلاه تغمّدهم الله تعالى بواسع رحمته، وأنزل عليهم شآبيب غفرانه ورضوانه، وأسكنهم فسيح فراديسه وجنانه، ولقد سجّل أبطال هذه المعركة الكبرى بحروف من ذهب واحدة من أكبر وأعظم المعارك المجيدة، التي ما إنفكّ يذكرها ويتغنّى بها أحرار العالم فى مختلف أنحاء وأصقاع المعمور إلى اليوم كواحدة من أشهر، وأكبر المعارك التحرّرية العتيدة التي عرفها تاريخ المغرب المعاصر ضد المُستعمر الاسباني الدخيل الغاشم، ولقد أذاقت هذه المعركة الجيوشَ الاسبانية النظاميّة العرمرمة، وجنودَها الذين تخرّجوا من أرقى المعاهد العسكرية، وتمّ تكوينهم في أعلى الاكاديميات والحربية الإسبانية المتخصّصة هزائمَ مُنكرة، لم تعرفها إسبانيا قطّ فى تاريخها العسكري الطويل منذ ضياعها لكوبا فى الكرايب، وهي التي كانت تُنعت إلى جانب أنجلترا من البلدان التي لا تغيب عنهما الشمس، ولقد أصبحت هذه المعركة تُعرف عندهم فى سجلاّتهم التاريخية، ويومياتهم العسكرية، وتقاريرهم الحربية الرّسمية، وحديثهم اليومي المتواتر بـ(كارثة أنوال)..!
وكان الكاتب والصحفي المغربي المُحنّك الصديق محمد بوندي (المتخصّص في شؤون العلاقات الإسبانية المغربية) قد نشر مؤخراً بهذه المناسبة في إحدى الجرائد الإسبانية الموسومة بـ(صحافيّون) (بيريوديستاس) مقالاً ضافياً وعرضاً رصيناً وافياً وتحليلاً موثّقاً عن هذه المعركة التاريخية، حيث اِستهلّ مقاله القيّم قائلاً بالحرف الواحد “إنّ إسبانيا خلال هذه المعركة التي دارت رحاها يوميْ الواحد والعشرين والثاني والعشرين من شهر يوليو من عام 1921 مُنيت بأكبر هزيمة عسكرية فى القرن العشرين، والتي ظلّت مسجّلة فى الذاكرة الجماعية للإسبان باِسم (كارثة حرب الريف) فى منطقة الحماية الإسبانية بشمال المغرب“. ويضيف الكاتب محمد بوندي: ”إنّ الوجه الأكثر قساوة، وضراوة لهذا النزاع يعود لعام 1919 عندما فقد الجيش الإسباني المبادرة فى ساحة الوغى. وتوصف هذه الحرب فى كتب التاريخ، وفى اليوميّات والتقارير الصحافيّة الإسبانية بأنّها الاِختبار الأكثر جديّة، والأكثر إيلاماً، والأكثر فتكاً الذي تحمّله الإسبان عن مضض منذ ضياع كوبا”.
استذكاراً، واستحضاراً وتخليداً لهذه المعركة التاريخية المجيدة التي قدّم فيها وخلالها المجاهدون الصّناديد، والشّهداء الأبطال رحمهم الله تعالى النّفسَ والنّفيسَ، من أجل صَوْن كرامتهم، وشهامتهم، وشرفهم، ونخوتهم ببسالة، وإقدام، وشهامة، وشجاعة منقطعة النّظير ضدّ المستعمِر الدخيل، والتي سَمَتْ بهم، وبأهل الرّيف، وبسائرالمغاربة الأحرار قاطبةً من أقصى البلاد إلى أقصاها إلى أعلى مراتب العزّة والسّؤدد، وأسمى منازل المجد، والكرامة، وبوّأتهم أرقى منازل الرّفعة والخلود، وعلى الرّغم من بُعد الزمن، ونأي المكان والمزار، والبُعد عن الأهل والدّيار، وبهذه المناسبة التي أمست مفخرة كبرى في تاريخ المغرب المعاصر، واستجابةً للعديد من الأصدقاء الأصفياء، والصديقات الكريمات فاضت القريحة، وجاد العقلُ، والقلبُ، والرّوحُ، والوجدانُ، والِلسانُ، والجَنانُ، بهذه الإفصاحات التلقائية، والإجهاشات الإستكناهية، أو بهذا الدّفق أو التداعي التلقائي العفوي، فقلت عن هذه الملحمة التي نستذكرها ونستحضرها ونحتفي بها كلّ عام بكلّ فخر :
تَعَالىَ بناءُ المجدِ بالكوكبِ الذرِّ
ونورُ شموسِ اللّه أشعّ مع الفَجْرِ
تَعَالىَ حِمَى الإيمانِ والعدلِ والهُدَى
وقوّةُ بأسٍ دونها قوّة الذرِّ
أبطالٌ بـ”أنوال” جاشتْ نفُوسُهم
فأصبحوا نورَ التّرب والمسكَ للقبرِ
فهامت عقولٌ كانت بالأمس رشدَها
وزاغتْ عيونٌ دمعُها لجّةُ البَّحرِ
أشاوسُ طابت لكم الشّهادةُ والعُلاَ
وإسمُكم على كلِّ لسانٍ به يَسْرِى
لقد هبّ الرّيفيّون عن بكرة أبيهمُ
وحلّت على الأعداءِ قاصِمَةُ الظّهرِ
وَكَالطّيرِ مقصُوصِ الجناحيْنِ فإرْتَمَى
على الصّخرِ منهوكاً تحطّمَ بالكسْرِ
كأنّ لدَى إستشهادكُمْ يا نخوةَ أَرْضِنَا
جُسُومٌ بلا رأسٍ أيادٍ على البَّترِ
أبناءُ الأماجدِ والأفاضلِ والحِجَى
أحفادُ المَكَارِم والميامين والفخرِ
كلُّ العشائر والمداشرِ تحتفى
بشهامتكم من نَصْرٍ إلى نصرِ
فخرَ الأمازيغ والصّناديدِ والنُّهَى
مجدَ المعالي والنّدَى وغُرّة الدّهرِ
أساسُ جهادكمْ فرقانٌ وشهادةٌ
وذِكْرُكُمُ للّه فى السِرِّ وفى الجَّهْرِ
شجاعتكمْ فى القلوبِ لنا تميمةٌ
ودَفْقٌ من حيث أدْرِى وَلاَ أدْرِىِ
“أَجْديرُ” قد ألقىَ إليكم بسَمْعِهِ
وذِكْرُكمْ فى كلِّ روضٍ به يَجريِ
من العُجْبِ أنْ يُرَوَّعَ الرُّومِيُّ ويَنْثني (*)
تحت أَقْدَامِكم وإِقْدَامِكم سَاعَةَ الظّفرِ
طلائعُ الرّيفِ تهفو إليكمْ بقلبها
وذكراكمُ فى كلِّ جَناَن عاطرةِ الذّكرِ
حُشْدٌ على الحقِّ صُنَّاعُ المَجْدِ والفِدَا
مع كلِّ طلعةِ شمسٍ أو قمَرٍ أو بَدْرِ
أنوالُ يا مَعْقِلَ البطولات بأسرها
أدواحُكِ الفيحاءُ دائمةُ النّضر .
ففى مثل هذا اليوم، وفى مثل هذا التاريخ المشهود، طُوِيتْ صفحةٌ رائعة من صفحات تاريخ المغرب المعاصر ممثّلةً فى الحرب التحرّرية أو الملحمة الرّيفيّة الماجدة التي لم تُطْو أصداؤها ،وأبعادها،وأمجادها، إلى يومنا هذا المشهود، وبهذه المناسبة نتضرّع إلى المولى جلّ وَعَلاَ ليشملَ كافةَ مجاهدينا الأشاوسَ الأبرار، وشهداءَنا الميامينَ الأخيار برحمته الواسعة، ومن بينهم أذكر فى هذا المقام (جدَّنا الأبرّ من والدنا المُنعّم تغمّدهما اللهُ تعالى بواسع رحمته) المجاهد الصّنديد “مُوحْ نَ سِّي أحمد الورياغلي الأجديري الرّيفي خطّابي” شهيد هذه المعركة الخالدة، إلى جانب العديد من الشّهداء الآخرين الأبرار، والأبطال الأخيار تغمّدهم المولى جلّ وعلا جميعاً بواسع رحمته، وأمطر عليهم شآبيبَ رضوانه وغفرانه، وأسكنهم فسيح فراديسه وجنانه، وذلك فى يوم الأربعاء 21 من شهر يوليو 1921، وهو تاريخ وقوع هذه المعركة الفاصلة الخالدة في تاريخ المغرب الحديث.
***
(*)الرُّوميّ” أو ذَارُوميِ، هو الاسمُ أو النّعتُ الذي كان يطلقه أهلُ الرّيف على الإسبان، أو على الأجنبيّ بشكل عام، وواضحٌ أنّ هذا الاسم يعود للرّوم منذ وجود الإمبراطورية الرومانية قبل الفتح الإسلامي بشمال إفريقيا، وجَمْعُه ”إِيرُومِييّن”.