الاغتراب في الجسد عند أبي العلاء المعري
خالد بريش
مع صعود حركة اليسار في منتصف القرن الماضي في أرجاء العالم، طُرحت على بساط البحث مجموعة من القضايا الفكرية، أفرزت كمًّا من المصطلحات السياسية والاجتماعية كان منها مُصْطلح «الاغتراب»، الذي شكل عامل جذبٍ لكثيرٍ من المثقفين والباحثين، فأدخلوه في كتاباتهم وبحوثهم، وتوسعوا في استخداماته حتى شمل مجال علم النفس والاجتماع والفلسفة والاقتصاد… في الوقت الذي لا يوجد لهذا المصطلح تعريفٌ واضحٌ، ومن الصَّعْب تحديد معانيه بسبب كثرة تعريفاته وتفسيراته، فكان مُصْطلحًا فَضْفاضًا كبقية المُصْطلحات التي ما إن يتناولها بعض كبار المفكرين، حتى تُصبح تقليعةً لدى المُثقفين…
وقد قام الأديب الشاعر الدكتور علي العلوي بدراسة موضوع الاغتراب، ولكن من وجهة نظر خاصة، وذلك في كتابه الجديد الصادر مؤخرًا في المغرب عن مكتبة سلمى الثقافية، بعنوان «الاغتراب في الجسد، قراءة في شعر أبي العلاء المعري»، وهو كتابٌ جديدٌ في موضوعه ومَنْحاه، ويُعْتبرُ سَفَرًا جديدًا في شخصية أبي العلاء وتركيبتها النفسية، وكذلك في شعره من جانبٍ شديد الخصوصية. ويؤكد الباحث العلوي من خلال كتابه هذا، أن المعري ما زال نَبْعًا لا تنضب ينابيع البحوث حوله كشاعرٍ فيلسوفٍ متفردٍ في مناحٍ كثيرة، وأنه وأمثاله من كبار المُبْدعين الشعراء، ما زالوا بَحْرًا زاخِرًا باللؤلؤ، ينتظر الغواصين الباحثين المهرة، الذين يُجيدون السِّباحَة والإبْحار في عباب أشعارهم وكتاباتهم، لاكتشاف المناحي الكثيرة التي تحتاج إلى كشف اللثام عنها، وتبيانها للقراء…
الكتاب
تناول الكتاب موضوعًا فلسفيًّا أدبيًّا، بأُسلوبٍ منهجيٍّ، ويقع في أربعة فصولٍ مُقسَّمَةٍ بشكلٍ مُتوازنٍ، يُعضِّضُ بعضُها بَعْضًا ويُكمله، لتكون هذه الفصول الأربعة في خدمة السُّؤال المِحْوَري الذي هو موضوع الدراسة:
*كيف يكون الاغتراب في الجسد في شعر أبي العلاء المعري…؟
يُوغل الباحث علي العلوي في الفصل الأول في كتب التاريخ، لِيُقدِّم للقرَّاء مُلخَّصًا عن وضع الخلافة العباسية حينها، وكذلك أوضاع بلاد الشام وحكم الحَمَدانِيِّين لمنطقة حلب والموصل، وذلك بإيجازٍ وتكثيفٍ، يؤدي دورًا مُهمًّا لفهم طبيعة العصر، والواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه أبو العلاء المعري، ويضع القراء كذلك أمام حقائق تاريخيةٍ، تُعيدُ ترتيب ما لديهم من معلوماتٍ حول مُجْرَيات الأحْداث في إطارها التاريخي، كأن يُخْبِرنا أن أبا العلاء كان في خِضَمِّ بعض الأحْداثِ والحُروب التي عَصَفَت بالمَعَرَّة وما جاورها من المناطق. وعندما حاصر صالح بن مِرْداس المَعَرَّة في عام 418 ﻫ./ 1027 م.، وقصفها بالمنجنيق حَبَسَ أبو العلاء نفسه في داره، ولم يخرج منها إلا بعدما حضر إليه وجوه أهل المَعَرَّة ورجالاتها، وطلبوا منه أن يشفع لهم عند صالح، فخرج أبو العلاء إليه بعد إلحاحِهِم عليه، فاستقبله صالح، وأحسن وفادته، وقبل شفاعته في قومه، فقال أبو العلاء يومها في ذلك (ص 32) قصيدة مطلعها:
بُعُثْتُ شَفيعًا إلــــــى صالِحٍ
وَذاكَ مِنَ القَوْمِ رَأْيٌ فَسَــد
فَيَسْمَعُ مِنِّي سَجْعَ الحَمَامِ
وَأَسْمَعُ مِنْهُ زَئيرَ الأَسَـــــــــد
يبْحر الدكتور علي العلوي في عوالم غربة الجسد عند المعري، من خلال عرضه لأشعاره التي تخُصُّ الموضوع، ومن ثم يقوم بشرح مفرداتها، وتفنيد الآراء اللغوية الواردة فيها. ومن المعروف أن المعري كانت له نظرة تشاؤمية إلى الحياة تنطبق على علاقة الروح في الجسم، هذه العلاقة الجدلية التي ليست على ما يرام بالنسبة له، لكون الروح تسكن جسدا نَجِسًا، يصفه بأحقر الصفات، وينظر إليه بدونيةٍ مُطْلقةٍ… بينما النفس نورانية كُنْهًا ومادَّةً، أتت إليه من عوالم السماء، فقال واصِفًا هذه العلاقة (ص 95):
جِسْــمِيَ أَنْجَاسٌ فَمَا سَرَّني
أنِّي بِمِسْكِ القَوْلِ ضُمِّخْتُ
مِنْ وَسَخٍ صَاغَ الفَتَى رَبُّهُ
فَـــــــــــلا يَقُولَنَّ تَوَسَّخْتُ
وهو في هذا الرأي يتفق مع مجموعةٍ من الفلاسفة، يأتي في مقدمتهم الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، الذي خَصَّصَ واحدةً من أجمل قصائد العربية، ليتحدث فيها عن هذه العلاقة بين الروح والجسم، وتعلقها به، وأطوار ذلك، ومن ثم مغادرتها له إلى عالمها الذي أتت منه، مطلعها «هبطت إليك من المكان الأرفع »…
المنهجية
يخرج كتاب الباحث الدكتور علي العلوي عن نَمَطيات التكرار في العبارات والمواضيع التي تحفل بها البحوث الأدبية في عصرنا هذا، ونستطيع اعتباره أنْموذَجًا من حيث المنهجية العلمية البحثية، كونه يقدم بحثا مُتماسِكًا، جاعلا بينه وبين موضوع بحثه مسافة، حيث لم يسمح لمشاعره الإنسانية في التدخل في مسارات بحثه، ولا في خياراته اللغوية ومفرداته التي يستخدمها. فنجد أنه يذكر ما للمعري وما عليه في كل فقرة يتناوله فيها… وقد أشار في مقدمته إلى أنه اتبع منهجية التفكيك للأسئلة الكبيرة، وتحويلها إلى أسئلة صغيرة، ومن ثم الإجابة عليها، وهو ما سَهَّل عليه الوصول إلى عمق الموضوع، مما أثرى البحث من كل نواحيه، وسهل على القارئ أيضًا مُتابعته من دون مَللٍ في موضوعٍ فلسفيٍّ شائِكٍ، يأخذ صفة الدراسة الأدبية التحليلية والفلسفية…
وقد استند الدكتور علي العلوي في بحثه هذا على مجموعةٍ من المراجع اللغوية والتاريخية والفلسفية، مُعْطيًا كلَّ فكرة وردت في الكتاب حقَّها من البحث والتدقيق والتمحيص، من دون إسهابٍ يُسبب للقراء الملل، أو إيجاز يحدث لديهم إبْهامًا، مقارنًا بين آراء المعري الواردة في شعره، وآراء غيره من الفلاسفة والمتصوفة، مثل المتصوف المعروف محمد بن عبد الجبار النِّفَّري (ت. 354 ﻫ./ 965 م.)، الذي كان له أثره الكبير على آراء المتصوفة، فأورد رأيه في الجسم الذي اعتبره المعري نَجِسًا، بينما اعتبره النِّفَّري مُجَرَّد أداةٍ، وثوب ابْتِلاءٍ لاختبار الروح… وإن كان من وصفٍ من المُمْكن أن نصف فيه هذا الجهد البحثي القيم فهو « التكاملية »، أي أن الباحث تناول كافة الجوانب الخاصة بالموضوع فِكْريًّا وفَلسفِيَّا ولُغوِيًّا وإنْسانِيًّا وأدبِيًّا…
المجال اللغوي في البحث
لم يقم الباحث العلوي بتمحيص القضايا الفكرية والفلسفية في شعر أبي العلاء والمتعلقة بموضوعه فقط، بل تخطى ذلك، وتناول لغة المعري في أشعاره، فحللها من حيث معانيها ومؤدَّاها ومضامينها وتراكيبها قوةً وضَعْفًا… وناقش غالبية الألفاظ الواردة في موضوع الروح والجَسد عنده، وشرح كذلك معانيها عند أكثر من لغوي، ناسِبًا كل قولٍ إلى قائله بمنهجيةٍ دقيقةٍ. ومن ذلك على سبيل المثال، شرحه في (ص 104)، لمعنى مفردات مثل البُرْد، ورَيْب المَنون… وهذه منهجية قرَّبت إلى أذهان القراء ما تضمنته الألفاظ من معانٍ مُخْتلفةٍ قد تكون خافيةً عليه أصلًا.
شخصية المعري
ذهب الدكتور علي العلوي بعيدا في تحليله لشخصية المعري، متناولا بعض تناقضاته في شعره وآرائه، واصفًا إياه بـ «المِزاجيَّة»، في الطباع والآراء، وذلك لما كان يعيشه من عدم توازن، وتخبط على المستوى الشَّخْصي، فقال (ص 99): «هذه التناقضات تفصح عن شخصية مزاجية متقلبة في قبولها أو رفضها الآراء بين الفينة والأخرى، وتتراوح ما بين الرضا والسخط على المواقف المتخذة من بعض الأشياء والقضايا… ».
وقد دافع عن المعري، رادًّا على عميد الأدب العربي طه حسين في أبي العلاء عندما أشار إلى أن عجز المعري عن اللعب مع الناس بالنرد والشطرنج، واللذة في كسب العيش، شَكَّل دافعًا قوٍيًّا له لكي يتلاعب بالألفاظ، وذلك كصفة تشد الأنظار إليه، وتميزه عن غيره، فاعتبر الدكتور العلوي أن ذلك لا أساس له من الصحة، لأن كتاب «اللزوميات»، لا يمكن أن يكون من باب المُتَع الأدبية، والتلاعب بالألفاظ والمفردات في شيء، كونه حوى قضايا فلسفية وعقلية مَحْضَةٍ. هذا في الوقت الذي اعتبر فيه أن طه حسين، يجب أن يكون أدرى من غيره بأحاسيس المعري، وما قدمه من نتاجٍ أدبيٍّ، لكونهما يشتركان مع بعضهما في فقدهما لحاسة النظر…