مجرد رسائل
لحسن أوزين
مضى شهران أو أكثر لم أفتح فيهما البريد الالكتروني. وكانت المفاجأة سارة رسالتين، الاولى من ولدي نزار، أما الثانية فهي من ابنتي سلوى.
مساء 14 يناير…؟
تحية الصمود والتصدي
ها أنت قد نجحت في مهمتك الثورية أيها المناضل، المشاكس العنيد. لقد دمرتني بما فيه الكفاية، حيث أفلحت في الإجهاز على إنسان من لحمك ودمك، وأنت تفكر في أن تجعلني مخلوقا جديدا كل الجدة، ومختلفا إلى حد التناقض عن هذا الوسط العفن. تفكيرك الرسولي جعلك من حيث لا تدري مجرما أكثر بشاعة مما هو سائد من هذه النتانة والهمجية وتسلط البربرية المستحدثة. أفسدتك روعة الافكار الإنسانية المزروعة في كتب الأنوار المتفاوتة الايمان بضرورة التقدم على صراط العقل. هذه الكتب التي أخذت بلب عقلك تحت وطأة قهر الواقع المر، دون أن تعرف كيف تمارسها على الارض. استسهلت عملية تنشئة إنسان في هذا الواقع الملتبس الصعب. واعتقدت بشكل سحري خرافي بأن الافكار الجميلة في خلق واقع أكثر إنسانية تعفينا الكتب بمصطلحاتها ومفاهيمها وأفكارها شر معاناة محرقة ومشقة انتاجها من حساب العمر، ليس فقط بملح الطعام، بل أيضا بسخاء الدم على ايقاع ألم القلب وصرخات الدماغ، كما لو كان مهددا بهزات صفائحه فيما يشبه تشنج زلزلة الصرع. هكذا اذن دخلتَ تجربة الحلم بالمستقبل الإنساني الواعد بالحرية والمساواة والديمقراطية وفي يدك إنسان وليس حذاء يمكن اصلاحه أو الاستغناء عنه برميه في أقرب مزبلة، فيما لو فشلت تجربة المخاطرة أو المغامرة في الفعل والإبداع. لكن لم تنتبه أن الامر لا يتعلق بعيادة الأحذية، بل ببناء الإنسان، وأي تجريب استنساخي يعد جريمة ضد الإنسانية. أعترف بأنك كنت تهيئني بشجاعة نكران الذات لتجاوزك، كما لو كنت تحفر قبرك بيديك تفاديا لجريمة قتل الأب، لكنك لم تعرف كيف تسرب وسواس الألوهة الى أعماقك فأفسد عملية الخلق؟ وأي ذنب ارتكبت في حقك لكي تُسود العالم في وجهي، في بسيطه ومركبه، وأنت لا تكف كطاحونة دون كيشوت عن وقف سيل انتقاداتك اللاذعة لكل شيء، وفي أي وضعية كنت فيها جنبك، في المأكل والمشرب والملبس، و في حياة الناس، في ما يبدو في الشارع و حول طبيعة وممارسات المؤسسات والمرافق وما هو مكتوب في الجرائد، وعلى شاشة التلفاز. لا تترك شيئا بدون انتقاد حاد ممزوج بتعليقات ساخرة. هكذا كنت تتبجح بإنتاج المعرفة والوعي من خلال نقد الايديولوجية. لكن للأسف اذا كان الاخرون يشهدون بنبلك وسمو فعلك الإنساني، فأنا لا أراك إلا غرابا منحوسا أعمى بصيرتي وحال بيني وبين رؤية الوجه الاخر الجميل للحياة والواقع الحي. وبدل أن أكون ثوريا، كما كنت تهذي في هلوسات رفضك لكل شيء، ورطتني في مستنقع اختلالات واضطرابات خطيرة، كما لو كنت تفتح باب جهنم في وجهي، فإما أن أكون عدميا أو ارهابيا. و انطلاقا من المحنة أدركت أنه غالبا ما أخطأ الناس في فهم وتفسير الاصول النفسية والاجتماعية والثقافية لهذين الاختيارين البعيدين كليا عن المعتقدات الدينية والسياسية، فهما وجهان لعملة واحدة: النكران القاطع الحاد للواقع، أو الرفض التشاؤمي الاعمى له. وعند هذه الحافة الحرجة لمعانقة الموت أنقذني التحليل النفسي من أهوال الغضب القاتم الحزين الأعمى. كم نحن مرضى ونكابر.
هل كان يكفي أن تجعلني أكره العالم حولي بسوئه، ونمط حياته البشعة في سحق الإنسان باسم السلطة والثروة والمال؟ هل كانت كل الادوات من أسلحة الشك والنقد والرفض والتمرد كافية في نظرك لطفل ثم شاب مثلي لكي يواجه دون خوف أو تردد كل هذا الارهاب متعدد الأشكال فيما هو اجتماعي، اقتصادي، سياسي و ثقافي؟
لنقل ببساطة لقد جعلت مني أداة ناسفة لخدمة هلوسات أفكارك ومبادئك وأحلامك الثورية، أو ما تسميه باختصار قذر حب الإنسان. لكن قل لي بربك كيف سمح لك ضميرك أن تجعل مني كبش فداء لهدم المعبد المقدس لاستباحة دم الإنسان؟ أريد أن أقول ما الذي يميزك عن الذي يغيب حياة الإنسان بالوأد أو النقاب؟ أعتقد أنه ليس من حقك اطلاقا أن تتعسف على طفولتي التي لم أعشها كأقراني بكل صخب جنون الأخطاء، وبما يكفي من هدر اتباع العقل في سبيل إبداع التشيطن الخلاق، عوض هذا الاكراه اليقظ الجاثم على القلب في رفض التورط في تكريس السائد. أنا لا أشك في نبل أفكارك وبما تؤمن به من قيم إنسانية. وأعترف أيضا بأنك كنت في حالة انسجام تام بين ما تعتقده وتعيشه كأفعال وتصرفات، بمعنى ليس هناك أي تناقض بين القول والفعل. لكن لم تولد بهذه الرؤية للحياة، وبهذا النمط في التفكير والتصرف والسلوك، لقد دفعت الثمن من لحمك الحي لتكون جديرا بهذه القيمة. لكن للأسف لم تستفد ما هو أساسي في هذه السيرورة المؤلمة، أي أن تبتعد عن القوالب والافكار الجاهزة، وتتجنب ما أمكن ذلك المعايير والقيم الثابتة وحتمية النظرة، فلا شيء معطى وناجز ونهائي في الحياة. لقد قذفت بي مرة واحدة وسط هذا الواقع الهائج الوقح الذي يتجاوزني وأنا على صغري سني، وقلت لي من خلال تجربة حصاد عمرك هكذا نفهم المحجوب والمستور والمسكوت عنه، وما يخبئه أعداء الإنسان في عقولنا وقلوبنا من كراهية وعدوانية العنف القاتل، ليس للإنسان فقط بل للحياة. لقد كنتَ جاهزا والحياة سيرورة لا ترحم فدفعتُ الثمن لأني كنت أسبح ضد التيار الجارف وحيدا دون سند أو مرجعية تضبط اختلالات توازني النفسي الاجتماعي والثقافي. لقد عذبتني لأنك كنت نمطيا الى أبعد الحدود المقرفة، ولذلك كان صعبا علي أن أعيش نضجي النفسي والعاطفي والفكري. والاخطر من هذا كله أنني كنت غريبا وسط الاصدقاء، خاصة في علاقتي مع الجنس الاخر الذي يتطلب البساطة في الحب والعشق، بينما كنتُ مجنونا قبل الاوان، أبحث عن أشياء في متخيل الذاكرة، التقطتها أنت برغبة القراءة المقهورة، من حديث الكتب عن الكتب، دون ان تأخذ معطيات تعقد الحياة بعين الاعتبار.
أنا لا أريد أن أثقل عليك بهذا الحساب العسير، وإنما أحاول أن أفهم كيف أن الافكار الجميلة لا تصنع واقعا جميلا بمحض الحلم و الرغبة والارادة، بصورة أقرب الى الخلق من العدم، كن فيكون، بل لابد من الكثير من الآهات والألم العميق. وربما احتاج المسار الى تحمل الضربات التي قد تكون قاتلة فيما يشبه الاغتيال. لقد خسرت أشياء كثيرة في حياتي خاصة تجربة روعة الأخطاء، لأنك أوهمتني بأنني أمتلك الحقيقة، أو على الاقل أداتها القادرة على التحليل والنقد ورؤية ما لا يبصره الاخرون. هل تفهم الان لماذا أشعر بالخراب في الاعماق لأنك جعلتني أرفض التصورات الموروثة ومعتقدات الخرافة والخلاص، دون أن تمنحني وأنا على صغر سني سندا مرجعيا يحميني عندما تتزلزل الاعماق أمام قسوة الإنسان، وبشاعة الحياة التي لا ترحم. الان أفهم لماذا لم تسايرك أمي في هذا الايقاع الرهيب لمتخيل عشق سحر الافكار، دون أن تعرف أيها البطريركي النجس بأن الصفاء الطاهر في الإنسان بهتان رهيب. باختصار أقول لك اذا لم تكن قادرا على خيانة نفسك، انطلاقا من المرأة التي تحبها، والفكرة التي تعبدها بصورة حية في ملموس الحياة، وليس كما تفعل بالوفاء في خيالاتك العرجاء، فأنت لست أكثر من دجال رهيب.
أنتظر رسائلك بشوق عارم
أشد على يديك بحرارة مع مودتي وتقديري
نزار
***
صباح 18 فبراير
لا أعرف بأية لغة سأخاطبك ما دامت لغتنا اليومية مطوقة بالكثير من التراكيب والاستعارات والايحاءات والشحنات الدلالية القامعة لمساواة النوع الإنساني. أستغرب هذه القدرة الخارقة للتسلط والحقد والكراهية الذكورية للاستبداد الابوي، إلى حد العنصرية الطائفية في حق النساء، التي تختفي في ثنايا اللغة. بمعنى أنني شعرت بشقوق جهنمية في اللسان وأنا أريد بكل تلقائية أن أعبر عن شعور صادق بقوة معاني الحب الإنساني التي بذرتها في قلبي بعيدا عن امتيازك الابوي. لكم هي هذه اللغة ضيقة ومنقبة كما لو كانت تخشى سفور الشمس و وتبرج الحياة. فكيف لها أن تكون مأوى الوجود؟
أهكذا العدوانية والكراهية والطائفية العنصرية، ليست قاسية وفاشية في بعدها الرمزي فقط، بل أيضا حين تحاصر بطغيان كبير العين الثقافية في أسر العبودية خوفا من حرية الكلام.
هذا هو الشعور المتوتر الذي تملكني وأنا أريد أن أخاطبك بلغة لا تحتمل كل هذه التمثلات والتصورات والمعتقدات التي اندفعت بقوة كحمم اللاڤا من بركان اعتقدته ميتا في متحف الذاكرة. أعني هنا أنني كنت أرغب في استعمال هذا التعبير: أبي العزيز، الذي بدا لي شفافا وبريئا ولا يستدعي كل هذا التهجم والهجوم اللامرئي من ثقافة دون التاريخ، ضد حقي في حرية الكلام. ها أنت ترى بان هذا المأوى مظلم وخانق لا يتسع للسكن فيه، فكيف له أن يكون وعاء للعالم؟ لذلك نحتاج الى الكثير من الزلازل المجتمعية حتى تخرج الاثقال العفنة من قبور الوجدان والذاكرة. وها أنت ترى أيضا بأن كل شيء في حياتنا يهدد بالاستبعاد والاقصاء والقهر، وقد صار الامر أكثر خطورة، اذ لم يعد يكفي ذلك، فاليد على الزناد لإطلاق النار على كل من تجرأ على فتح كوة في برقع هذا الكهف المظلم للوجود البشري.
ما كنت قادرة على الصمود في وجه هذه الزوبعة لولا تنشئتي على أنني ذاتا حرة مستقلة من النوع الإنساني قبل أن أكون امرأة. لو لم أتعلم كيف أكون مسؤولة في وجودي وتفكيري وفعلي المجتمعي الإنساني لما أدركت القيمة التي تجعل من الإنسان إنسانا، حرية وكرامة وقدرة على التفكير والحياة بشكل مستقل. أبي العزيز.. إن أجمل شيء تعلمته منك هو قهر الخوف والرفض، خاصة عندما يتعلق الامر بالأوامر والنواهي التي تشوه الذات ليسهل خنوعها وخضوعها واستلابها بشكل نهائي فيما يشبه العبودية المختارة. شكرا لك على أنك ساعدتني على رؤية هذا الاختيار، أو بالأحرى الاختيارات الممكنة، أعرف بأنها صعبة وتتطلب الكثير من الجهد والصبر والقدرة على دفع الثمن، كما أعرف أيضا بأن البطريركي ليس رجلا، بل هو أخطر من ذلك، حيث هو عنف رمزي، وهندسة اجتماعية و نمط تفكير ونظام ثقافي ورؤية للعالم تصالح بين المقدس الخبيث: المرأة، والمقدس الطاهر: همجية شهوة الرجل، بلغة الحرام التي يهيمن فيها دين الرجال. لكن ما قيمة عبودية الحياة حين تقبل النساء دعارة الزواج بآلية الاسترقاق وتشويه الذات؟
كان بودي أن أناقشك في هذ التهديد بفقدان الذاكرة رعبا وإرهابا، حيث لا تختلف تصريحات رجال الدين وفتوى الرحمة التمييزية و التفجيرات في حق المدنيين العزل عن حركة التنكر وراء النقاب التي ما وجدنا عليها أمهاتنا. وهذا التهديد يجري على قدم وساق كما لو كنا نتعرض للتعذيب بألية الوهم بالغرق.
ومع ذلك علينا أن نتشبث بالحلم والحب والحياة كما تقول دائما.
أتمنى أن تنتظم حواراتنا.. أحبك..