ربيع براغ ومرض روسيا
د.خالد العزي
لمناسبة ثورة “ربيع براغ” التي حصلت بتاريخ 21 اب/ أغسطس عام 1968، نستذكر غزو حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا، المعروف رسميًا بعملية الدانوب لقمع الثورة الصاعدة، شارك فيها من طرف 5 دولٍ تابعة للحلف (الاتحاد السوفياتي وبولندا وبلغاريا وألمانيا الشرقية والمجر، حيث هاجم نحو 250 ألف جندي من حلف وارسو، تشيكوسلوفاكيا في تلك الليلة، بينما رفضت رومانيا والبانيا المشاركة.
لم تشارك قوات ألمانيا الشرقية، باستثناء عددٍ صغير من الاختصاصيين، في الغزو، لأنها تلقت أوامرًا من موسكو منعتها من عبور الحدود التشيكوسلوفاكية قبل ساعات من الغزو. حيث قُتل 137 تشيكوسلوفاكي مدني، وأُصيب 500 شخصٍ بجروح خطيرة خلال الاحتلال.
طبعا موسكو أرادت الغطاء الاشتراكي لعملية الدانوب التي تولت قيادة الحملة بولندا، بينما كان الاتحاد السوفياتي هو راس الحربة، وبالطبع ثورة تشيكوسلوفاكيا كانت المسمار الذي دق في نعش روسيا المريضة تاريخيا من الثورات والتي تسميها المؤامرات الخارجية.
ربيع براغ هو فترة قصيرة من التحرر عاشها التشيكوسلوفاكيون أثناء تنصيب ألكسندو دوبتشيك سكرتيرا أول للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، حيث منح حرية أكبر للصحافة لم يكن الحزب الشيوعي يسمح بها وسعى لإصلاحات اقتصادية وسياسية.
ولم تطل تلك الفترة لإخماد قوات الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو لثورة التشيكوسلوفاكيييين الراغبين في “حكم اشتراكي بوجه إنساني”، لكن القمع وضع براغ تحت حكم الدبابات لتبقى مرغمة على البقاء تحت سيطرة الحكم الشيوعي حتى الثورة المخملية عام 1989.
لقد دخلت الدبابات السوفياتية الى تشيكوسلوفاكيا لقمع الثورة الشعبية حيث خرج الناس للاعتراض لكن الدبابات السوفياتية داست على حلم الناس لتعلن بانها اعادت الوضع الى طبيعته العادية، لقد أوقف الغزو والقتل الروسي نتيجة ما عرف بوقتها إصلاحات الربيع التحررية التي أطلقها الكسندر دوبتشيك الذي خطف وتم نقله الى موسكو وتم ابلاغه رسالة واضحة بان روسيا مستعدة لمحو كل مدن تشيكوسلوفاكيا إذا لم يتم الذهاب نحو قمع الثورة بإصلاحات شكلية تعزز سلطة الجناح السلطوي للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي. والتي تعرفت في وقتها بسياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية في تلك الفترة بعقيدة بريجنيف.
لكن افضل شخص استطاع رسم صورة لما حدث للثورة هو الروائي التشيكي – الفرنسي ميلان كونديرا ( ميلان كونديرا الذي توفي الروائي عن 94 عاما قبل الاحتفال بذكرى 55 عاما لقمع الثورة مقبل جهاز القمع الروسي ).
لقد نشر كتابه “غراميات مرحة” (1968)، وهو نص على تقييم مرير للأوهام السياسية للجيل لانقلاب براغ الذي مكّن الشيوعيين في عام 1948 من الوصول إلى السلطة.
وذهب إلى المنفى في فرنسا مع زوجته فيرا، مقدمة البرامج النجمية على التلفزيون التشيكي.ففي فرنسا، نشر “وداع الفالس”، “كتاب الضحك والنسيان” … في عام 1984، ما يعتبره البعض تحفته، “خفة الكائن التي لاتحتمل”، و “الحياة هي في مكان اخر”.
منح في نصوص رواياته هذه بُعدًا عميقًا للازمة إضافة لكونه عالج مسألة طمس الهوية الأوربية لبلدان أوروبا الوسطى والشرقية وتوقف فيه عند الانتفاضات الشعبية من اجل الحرية التي شهدتها براغ عام 1968 مؤكدا على دور الهوية الثقافية الأوروبية لهذه البلدان في مواجهة الاتحاد السوفياتي سابقا الذي بسط سيطرته على هذه البلدان بعد الحرب العالمية الثانية.
وبالنسبة اليه فإن تشبث شعوب هذه البلدان بالثقافة الأوربية كان دوما بمثابة زورق نجاة من الهيمنة الثقافية الروسية التي حاولت طمس معالم وملامح هذه الثقافة بكل السبل وهذا ما يحصل في أوكرانيا، كما أن هوية شعب أو حضارة ما تنعكس وتتلخص في مجموع الابداعات الروحية التي نطلق عليها عادة اصطلاح “ثقافة”. وإذا ما تعرضت هذه الهوية إلى خطر فتّاك فستلاحظ أن الحياة الثقافية تتكثف وتقاوم وتصير الثقافة هي القيمة الحية التي يجتمع حولها الشعب ويجمع عليها. ولهذا فإن الذاكرة الثقافية والابداع المعاصر لعبا دورا عظيما وحاسما في كل الانتفاضات والثورات في أوروبا الوسطى أكثر مما لعبته في الثورات الشعبية الأوروبية.
ومن أقواله: “كيف نعيش في عالم لا نتفق معه؟ كيف نعيش مع الناس عندما لا نجعل من آلامهم وأفراحهم آلاما وأفراحا لنا؟ عندما نعرف أننا لسنا ممن ينتمون إلى عالمهم”؟ .
لقد وصف المقاومة التشيكية وصفا دقيقا وكذلك ممارسات جيش الاحتلال الروسي وماذا كان يفعل في قمع المعترضين لاسقاط الثورة ومنع خروج براغ من يد الاتحاد السوفياتي حتى لو أباد شعبها وربما رسالة براغ نفذتها روسيا في الشيشان وتنفذها في أوكرانيا.
ويذكر إنه بعد قمع الثورة بثلاثة سنوات، قام بريجنسكي بنشر كتاباً بعنوانه:”بين عصرين – أميركا والعصر التكنتروني” (1970)، تحدث فيه صراحة عن قرب انهيار الاتحاد السوفياتي (قبل حصول ذلك بعقدين)، بحكم إخفاقه في ثلاث مسائل: توق الناس إلى الحرية، والمسألة القومية، والتقدم التقني، ولعدم قدرته على مواجهة تحدي النموذج الذي تمثله الولايات المتحدة، في هذه المسائل، وهو الأمر الذي حصل بطريقة مفاجئة وسلمية، إذ إن القيادة الشيوعية وقتها، برئاسة الأمين العام غورباتشوف، هي التي فككت، بيديها الاتحاد السوفياتي، والنظام الاشتراكي. وربما كتاباته كانت لصيقة في داخل الشعب الذي ينتظر لحظة التحرير من قبضة الاحتلال السوفياتي، حيث استطاع الشعب التشيكي في العام 1989 من اعادة رسم أحلامه مجددًا بالانتفاضة المخملية لينهي الحكم الدكتاتوري، وفي عام 1991 خرجت الدبابات السوفياتي مهزومة مما جعل الشعب التشيكي القول بأنه انتصر على القمع والدبابات لم تستطيع دكتاتورية موسكو وقمعها قمع الاحلام، لانها هي الجرأة على المحبة للحرية، ولان الثوار الحقيقين مستعدين لتقديم التضحيات من اجل قناعاتهم السياسية، وهذا القليل من نضال الشعوب من اجل الحرية، وكما يقول كونديرا بان ماحدث في بوهيميه وبراغ وبراتسلافا هو القليل لكثير مما يجرى مع شعوب في العالم حتى الان.
ولا بد من القول بان هذه الدولة تشيكوسلوفاكيا انقسمت في العام 1993 الى دولتين دولة التشيك والسلوفاك حضاريا وحبيًا دون إراقة الدماء كما حدث بعد تحطم دول السوفياتي ودول أوروبا الشرقية لقد ذهب قادة الدولتين الى ابعد من انهاء عصر الدكتاتورية والقمع وبنوا مستقبلهم الواعد في الاتحاد الأوروبي مع بعضهم البعض.