هكذا تكلم العبد (3)

هكذا تكلم العبد (3)

لحسن أوزين

     كم هو مقرف كلامك أيها الحفيد العزيز. دون خجل، ولا ذرة حياء اغتصبت مني حق التعبير والكلام، وأشرت إلي في عجالة، وأنت تفضحني الآن بين الناس أنا جدتك مسعودة. وتتجرأ على نشر تاريخي القذر، بكوني مجرد أمة، عارية تقريبا، حيث كانت تباع في السوق، أمام الملأ والعامة، كأنني لست إنسانا مثلهم. وتقلب بفحص دقيق كل مناطق جسدي لا استثناء في ذلك، لأني ببساطة لست عورة تبعث على الوقار والحشمة الكاذبة، من عيون هؤلاء الذكور. أوكما لو أني أرض مشاع، في متناول اليد القوية والغنية، يحرثها سيدها متى وأنى يشاء. ها أنت عرفت الآن، من خلال كتبهم التي وثقت، من حيث لا يحتسبون، ولا يدرون، جرائمهم وحقاراتهم، وبهتان إيمانهم الفظيع. ولم أكن في نظرتهم واعتقادهم عورة يصون ويحمي شرف كرامتها رجال العفة والدين ومكارم الأخلاق.

   ما ينبغي أن تعرفه أنني حبشية جميلة وفاتنة يرغب فيها كل رجل رآني، أو لمحني بشكل أو بآخر في بيت سيدي، حين أكون كالعادة أزاول أعمالي المرهقة الكثيرة والمختلفة. لكن ما حز في نفسي ونحر أوردتي، ودمرني بشكل فظيع، ليس الاستغلال الجنسي، والاغتصاب البشع الذي كنت أتعرض له في أي وقت يرغب فيه سيدي، أو أحد أولاده. وليس أن يقدمني متعة لأحد ضيوفه، وليس أيضا عندما باع بعض أطفالي في ذلك اليوم الملعون بكل اللغات. بل عندما اشترى سيفا جديدا وأراد أن يتأكد من حدته وقوته في القتل وقطع الرؤوس. في ذلك اليوم الفظيع والمشؤوم، زلزلت أعماقي، وانفجر جوفي المقهور، بصورة مرعبة وبشعة وأنا لا أقوى على السماح للصراخ، والآهات الحافرة في دواخلي، بالخروج. دخلت في حالة من التبلد وفقدان الذاكرة. حدث هذا عندما طلب من ابني البكر، الذي تجاوز عقده الثاني بقليل، وكان قويا مفتول العضلات، حنكته المحن الشاقة والأعمال المضنية، الثقيلة المتعبة. قلت طلب منه أن يقف أمامه بصورة مستقيمة. لم يكن الولد يعرف الغرض والنوايا الخبيثة لسيده. وفي لحظة صغيرة في الزمن، كومض البرق، رأيت رأس ولدي يطير في السماء ليسقط على مقربة مني. كدت أقول لسيدي “من قتل نفسا بغير الحق فكأنما قتل الناس جميعا”. لكن رعب الخوف، وجنون فظاعة القهر لجم لساني، بشكل مرعب، لم أعرف سر الخوف والقهر الساكن في الأعماق. قلت في نفسي هذه السماء لم تعد معنية بالشفقة والرحمة والعدل لأمثالي. عندها عرفت الحرمان المزدوج من الأرض والسماء. ما أفظع الحياة أن يكون الإنسان وحيدا معزولا مقهورا عرفا وعادة وشرعا، أرضا وسماء.

   بصورة عادية أعاد سيدي سيفه إلى غمده، ومحياه تعلوه الفرحة، والابتسامة المشوبة بالاطمئنان إلى قوة سلاحه الفتاك. تركني أنزف من الداخل، بعد أن أمر العبيد الآخرين بتنظيف المكان. أن يقتل الإنسان أو يعذب أوهن من أن يكون شاهدا هشا ضعيفا أمام جبروت القهر الدموي. دماء القهر والظلم والقتل تحولت الى وحوش شرسة لا تكف عن الركض في عروقنا بين القلب والدماغ، وهي تحصن الذاكرة من عاهة النسيان. هكذا توارثنا تاريخا شفويا، تنضح به أجسادنا. ويسربل طقوس حضرتنا وعاداتنا المفعمة بالعنف الذاتي. كما لو كنا نتنفس قليلا من الاختناقات القهرية المزمنة، أو نتخلص من رعب الفظاعات التي عشناها، أوكنا شهودا ضعفاء لا نقوى على رد الظلم وحماية النفس.

   كم من الدماء والأنقاض والفظائع البشعة والقذرة يا حفيدي تنهض عليه الحضارات. اعلم حفظك القدر من كل مكروه وظلم جبار غاشم، أن تاريخ البشر يستحم بالدماء والصمت المشبوه العطن.

   وأنا أقص عليك هذه الوقائع الأليمة المنسية والمسكوت عنها قصدا، لم تكن نيتي خلق الضغينة في جوفك الحي، ولا جعلك تفكر في الثأر والرغبة في الانتقام، كلما أتيحت لك الفرصة في ذلك. مهما كانت ويلاتك وآلامك اليوم، فهي نعيم وجنة كان من الخيال أن نحلم بتحققها حتى في جنة  عدن. خفف قليلا من غضبك وكن قويا بما فيه الكفاية. فما حدث في الماضي عرفته كل شعوب العالم. فجدلية السيد والعبد متجذرة في التاريخ البشري، بشكل متفاوت في الحدثة والشدة والمدة.

   صحيح بأنه لا مبرر لاستمرارها إلى اليوم في نظرة الناس وعلاقاتهم وأفكارهم ومواقفهم… لكن لا نملك غير الهدوء والرزانة في الإلحاح على العدالة والمساواة والكرامة. كن قويا عاقلا واعيا بما فيه الكفاية، فالعبودية  اليوم طالت الجميع. وقل من يدري ويعرف بأن جهنم العبودية لا تكف عن قول: هل هناك من مزيد”.

  فجأة انزاح ظل جدتي، تلاشى بسرعة، فكنت كمن أصابه الفزع من أحلام اليقظة. فللكتب أسرارها، أعماقها الدفينة. كما لها كهوفها وظلالها المعتمة، وهي تتستر على الفظاعات، بلغة الحلال. دون أن تعي وتدرك أن القليل مما تخطه أقلام الفقهاء والمحدثين والمؤرخين، يشهد ضدها، ويوثق الفظاعات التي كانت تبدو عادية مقبولة بين الناس، في استعباد الإنسان، بوصفه كائنا أو شيئا ما دون البشر.

  منذ صغري حشروني في الزاوية الضيقة. كنت أعتقد أنني بشر مثلهم، لكن منحوني هوية أجهلها ولا أرغب فيها “عزي/العبد الأسود”. قاسيت وأنا على صغر سني من حمل هوية مرعبة، تدمرني باستمرار في نفسيتي. هل أنا حقا عزي؟

  حملت رغما عني هذا الوصم السيئ، هذه الهوية الفظيعة التي اختارها لي البيض، أو من يعتبرون أنفسهم من البيض. وكان رعب الأسئلة يحرقني في طفولتي وشبابي. عندها كفرت بكل ما يؤمن به هؤلاء. وكنت محقا في ذلك حتى أتبين طريقي وأساعد نفسي على الوجود والبقاء، في مجتمع حكم علي بالإلغاء والاقصاء. وحرمني من القيمة والحرمة والحصانة الإنسانية. فلم أجد ضالتي سوى في الكتب بحثا عن الحقائق الأولى التي ورثتني هذا القهر النفسي والاجتماعي. ولم تكن الكتب بردا وسلاما علي، وهي تضعني في الدرك الأسفل من النار. كانت تنقلني من محرقة لأخرى، تعرض بوضوح عرفي وشرعي مسيج بالقداسة الإلهية، مختلف أشكال الذل والقهر والاضطهاد والفظاعات التي تعرض لها أجدادي. ولم يكن ذلك قبولا وتقبلا واعترافا باللامساواة، وبالمنازل التي أنزل الله فيها الناس، في التفاوت في الأرزاق والمكانة والجاه. وإلا لماذا قامت ثورة الزنج؟

   هكذا كنت أدخل في جدال نفسي رهيب، وأنا أطرح القضية والنقيض، دون أن يستقيم بيسر التركيب. أختلق الأصوات، أمنحها حق الاختلاف عني، والتعبير ضدي عن الرؤى المتعددة. وبعد إجهاد نفسي مضن وقهري إلى أبعد الحدود في الألم والعذاب. أخرج من هذه الحرب الجهنمية ذليلا مكسورا، مشبعا بالخيبات والخسارات المشوبة بلعنة الفظيع المقرف الباعث على الغثيان.

   لم أكن أصارع أحد، ولا أسعى في بحثي الى إلحاق الأذى بالآخرين. كان همي أولا أن أتصالح مع نفسي، وأحصن تاريخي الشخصي وهويتي الذاتية، مرمما نرجسيتي. وذلك بما يسمح لي بالتكيف والبقاء والعمل على تغيير الممكن. ولم يكن ذلك كله ليتحقق لولا القناعة بضرورة الاشتغال على ذاتي أولا. صحيح أن الحقد والرعب والضغينة تحرقني باستمرار، لكن معاشرة الكتب وانفتاحي على عذابات آلام الحياة منحني وجهة دون أخرى. في أن أتحرر مما يسكنني من الضغينة والرغبة في الانتقام والثأر. كان يبدو أن السقوط في اللعبة القذرة للوصم السيء “عزي/العبد” يستنزفني ويورطني في معركة خاسرة، وهي ليست معركتي.

   يفاجئني مثل هذا الصحو والصفاء الذهني أحيانا، وأرى ورطتي فيما أعيشه من زوايا أخرى أكثر إيجابية ورحابة. فيتدفق في داخلي شلال فرح عارم على أن تجربة المحنة منحتني رؤية ونظرة وأفقا لعله يجمع يوما بين معرفة الماضي، والاعتراف بالفظيع الذي لحق سلالتي، والكثير من البشر الآخرين. وذلك حتى تتوقف الكراهية والعنصرية واقتلاعها من جذورها.

   ومع ذلك غالبا لا أستطيع القدرة على المحافظة على الصحو، في حياتي اليومية، لأن لعنة الوصم البشعة تطاردني سواء أنا أو غيري من السود. يحدث هذا في التواصل اليومي، في النظرة الدونية التحقيرية من الآخرين، في العلاقات والمواقف الحرجة التي تتطلب التسامح والرقي الإنساني الحضاري. في الدلالات والإيحاءات المرعبة، التي تتحرك برعب رهيب بين كلمات الجمل والعبارات التخاطبية. والغمزات والإشارات الجسدية التي لا تخطئها العين في لمسها ونظرتها لكل الحثيات والخبايا المدسوسة في هذا العفن التواصلي. وأنا في هذا لا أبحث عن مبررات، أو مسوغات تمنحني شرعية الاحتجاج والغضب المقدس لقيمة الإنسان، وهو يرى نفسه عرضة للتمثيل والتنكيل المتجاوز للتعذيب الجسدي. والقارئ لا يستطيع أن يكذبني، كل ما يمكنه أن يقول أن هذه الألقاب القدحية عادية جدا، ولا يقصد منها الانتقاص من قيمة الإنسان. لكنه ينسى أن للكلمات ذاكرة ثقيلة بالآلام والمعاناة، ومفجرة للتاريخ الفظيع الذي عاشه “عزي”. لذلك الجم لسانك، ونظف عقلك من القذارة المزمنة التي أساءت إليك في الوقت الذي أسأت إلي.

  أنتم تعرفون بأني لا أختلق الوقائع والأحداث، فهي مسطورة ومبثوثة، بين صفحات المصادر التاريخية والدينية، وفي كتب النوازل والتراجم والحكايات…، ما أسعى إليه هو أن يتسع صدركم لجلسة واحدة، بحبكة قوية مكثفة  المفاصل، لأن آلام الأوجاع لم تترك شيئا لذلك اللغو السردي الطويل المعقد. و لا أحتاج الى شخصيات غامضة تغرقنا في التفاصيل حيث يقبع الشيطان الفني اللعين، وهو ينصب الفخاخ في نسيج الكلام، هادفا إلى توريط القارئ في اللذة والمتعة.

   لقد اكتسح الألم كل شيء وفاض الواقع وغطى على الخيال. كما لا أريد أن نغرق في تعدد الأصوات لديمقراطية الواجهة، أو أستأثر بالمبنى والمعنى. سأكتب القليل وأترك الكثير، لكل قارئ عابر سبيل هزته حمى البوح الراغب في تحقق الاعتراف بإنسانية صورة عبد حقير مثلي قابعة وراء عيونكم بصمت فاحش، وهي تنظر ولا ترى إنسانا يشمله حق الانسان. قارئ ضاع مثلي بين حفر، المخطوطات، والمظان، والذاكرة الشفوية الموشومة بالخوف والصمت والنسيان، هروبا من هذا الكذب الجارف الذي شوه كل شيء، والصمت السادر الذي يترفع بغطرسة عن الإقرار بجريمة لا تزال آثارها تنفث الكراهية باستمرار في حق رجل أسود مثلي. قارئ ينشد الوصول إلى الحقيقة العارية، وهو يقلب صفحات الكتب مزاولا حفرا عميقا في أدغال استرقاق الانسان، لعله يتبين شعاع أو بصيص ضوء يضيء تجاويف هذا النفق المظلم للكراهية إلى حد خنق رجل أسود على قارعة الطريق. أرجوكم تحملوني ولا تصدقوني دفعة واحدة، هزوا رؤوسكم وتذكروا قصصكم إنها تتقاطع مع قصتي، فأنا لن أطيل عليكم تكفيني جلسة واحدة لرواية قصيرة ويمضي كل واحد إلى حال سبيله.

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي