من حرم الأرمن من كاراباخ ولماذا وماذا يعني ذلك بالنسبة لروسيا؟

من حرم الأرمن من كاراباخ ولماذا وماذا يعني ذلك بالنسبة لروسيا؟

د. زياد منصور

انتهت حرب كاراباخ الثالثة (إذا كان هذا ما يمكن تسميته بالتصعيد الأخير الذي حدث في المنطقة المذكورة في 19 أيلول الجاري)، والذي استمر لـ 24 ساعة بالضبط.  عمليًّا كانت النتيجة الحالية متوقعة . فجيش ناغورني كاراباخ، الذي كان في مواجهة الجيش الأذربيجاني وجها لوجه، والذي كان متفوقا عدَّة مرات في القوة والموارد، لم يكن أمامه ولا  فرصة واحدة للصمود.

في الجانب الآخر لم تشارك القوات المسلحة الأرمنية بأي شكل من الأشكال هذه المرة في القتال وهذا يطرح تساؤلات كبرى.  أمَّا بالنسبة لقوات حفظ السلام الروسية فهي كانت لا تملك تفويضًا يسمح لهم بالتدخل إلا إذا كانت تحت خطر داهم ، فمهمتها رصد وتسجيل الانتهاكات وحماية المدنيِّين، وهو ما تمكنوا من إنجازه فعليًّا. رغم كل ما سبق فإن  هذا لا يمكنه أن يؤثر على نتيجة المواجهة بأي شكل من الأشكال.

في الواقع كانت النتيجة الفعلية لهذه الحرب هي توقف وجود جمهورية ناغورني كاراباخ ككيان.  في نفس الوقت لنلاحظ إنَّ اتفاقات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها من خلال وساطة قوات حفظ السلام الروسية كانت تعني ضمناً انسحاب “الوحدات المتبقية والأفراد العسكريين من القوات المسلحة لجمهورية أرمينيا” من أراضي جمهورية ناغورني كاراباخ، التي تعترف يريفان رسمياً بانتمائها إلى أذربيجان، وتقضي بحل التشكيلات المسلحة لـ “جيش دفاع ناغورني كاراباخ” ونزع سلاحها بالكامل، وسحب المعدات الثقيلة والأسلحة من أراضي المنطقة بهدف التخلص منها بسرعة.  إنَّ هذا يعني في جوهره وقف وجود كيان الدولة غير المعترف به والذي كان موجودًا منذ ما يزيد على ثلاثين عامًا ونيِّف ، وإعادة الدمج النهائي للمنطقة في أذربيجان.

وعلى الرغم من تأكيدات باكو بأنه لن يكون هناك تطهير عرقي، وأن الأرمن الذين يعيشون في المنطقة سوف يصبحون مواطنين كاملي العضوية وسيتم دمجهم سلمياً في المجتمع الأذربيجاني، فمن الصعب أن يصدق أي أرمني ذلك. فالكراهية بين الشعبين الأرمني والأذربيجاني، التي تمت زراعتها بتؤدة على مدى الثلاثين سنة الماضية، قوية للغاية. فضلاً عن ذلك فإن إعادة إدماج كاراباخ تعني ضمناً عودة الأذربيجانيين المطرودين من هناك، بما في ذلك الأجيال الجديدة التي ولدت بالفعل في المنفى. إن كيفية الانسجام مع سكان كاراباخ الذين ولدوا هناك بعد الحرب الأولى وعاشوا على الأراضي التي تركها الأذربيجانيون أمر غير مفهوم على الإطلاق. يبدو من المستحيل تمامًا حل المشكلة بما يرضي الجانبين.

يفهم الأرمن المحليون ذلك جيدًا وقد بدأوا بالفعل في مغادرة المنطقة – فقد انتشرت صور مطار ستيباناكيرت المكتظ بالناس، حيث يحاول الآلاف من الأشخاص المغادرة، بعد أن تمكنوا من حمل الحد الأدنى من الأشياء والفرار من هناك.

يتضمن اتفاق وقف إطلاق النار على أهمية عقد سلسلة من الاجتماعات بين ممثلي السكان الأرمن المحليين وممثلي السلطات المركزية في أذربيجان، حيث من المقرر مناقشة القضايا التي أثارها الجانب الأذربيجاني بشأن إعادة الإدماج، وضمان حقوق وأمن أرمن ناغورني. – كاراباخ، فضلا عن قضايا ضمان سبل العيش لسكانها في إطار دستور أذربيجان. ليس من الواضح تمامًا من سيمثل الجانب الأرمني هناك، ولكن ليس هناك شك في أنهم فقط أولئك الذين لا يستطيعون المغادرة بسبب العمر أو وضعهم الصحي، وبالتالي هم من سيبقى يعيش هناك.

إنَّ هذا الأمر هو حقا أمر مهم للغاية. ومع ذلك، فإن أرمينيا لم تخسر قره باغ  (كارباخ) بالأمس ، بل هي خسرتها في خريف 2020، بعد أن خسرت الحرب.  للتذكير فقط فقد تم التوقيع على اتفاقيات ثلاثية في ذلك الوقت، والتي تم تخريب وتعطيل تنفيذها من قبل الجانب الأرمني بكل الطرق الممكنة. علاوة على ذلك، في قمة قادة أذربيجان وأرمينيا في براغ في 7 تشرين الأول 2022، بوساطة فرنسا والاتحاد الأوروبي، وقَّعت يريفان على اتفاق يعترف بناجورني كاراباخ كمنطقة داخل حدود أذربيجان. ونتيجة لذلك، لجأت باكو إلى الحل العنيف للمسألة التي أصبحت تعتبرها شأنًا داخليًّا، ولديها الأسس القانونية الكاملة لذلك.

 ولنذهب ابعد من ذلك ، فلقد بدأت عملية خسارة كاراباخ من قبل أرمينيا حتى قبل ذلك، وامتد الأمر على مدى عقود بسبب إحجام يريفان عن اتخاذ أي إجراء لحل القضية.

ففي حرب كاراباخ الأولى 1992-1994. انتصرت أرمينيا، حيث تمكنت من الاستحواذ ليس فقط على أراضي المنظمة التي لم تكن تخضع لسلطتها السابقة، ولكن أيضا تمكنت من الاستيلاء على سبع مناطق أخرى من أذربيجان، والتي كانت تشكل ما يسمى. “حزام كاراباخ الأمني”.

من وجهة نظر عسكرية، ظهر  كل شيء وكأنه لا تشوبه شائبة، ولكن في الواقع تحول النصر العسكري إلى هزيمة سياسية. ومن الناحية القانونية، تحولت أرمينيا إلى دولة “معتدية”، علاوة على ذلك، أصبح احتلال الأراضي الأذربيجانية سببا في حصارها، الذي حرمها في الواقع من فرصها في التنمية الاقتصادية، على الرغم من أن البلاد لا تملك مواردها الخاصة. في الوقت نفسه، كانت أذربيجان، الغنية بالنفط والغاز ولديها عدد أكبر من السكان، وليست تحت الحصار والمدعومة من تركيا، تتطور بنشاط، رغم خسارتها للحرب. في الواقع، منذ الأيام الأولى بعد إرساء الاستقرار السياسي في البلاد، كانت باكو تستعد للانتقام، من خلال تضخيم عضلاتها الاقتصادية وتخزين الأسلحة.

في المقابل ، ماذا كانت تفعل يريفان طوال هذه السنوات؟ لقد كانت تعيش على أمجاد انتصارها. تبين أن “جماعة  كاراباخ” التي وصلت إلى السلطة  كانت غير قادرة تمامًا على التفاوض، معتقدة على ما يبدو أن الوضع الراهن يمكن الحفاظ عليه لعقود من الزمن، وإذا حدث أي شيء، فإن روسيا ستساعد، لذلك  فليس من الضرورة العمل على حل المشاكل العالقة والمثيرة للجدل.  ولماذا  ذلك وقد تحقق الانتصار الفعلي في الحرب !

بالمناسبة، كان  لا يزال حينها  من الممكن حل مسألة وضع كاراباخ من خلال حل وسط، لأن باكو كانت على استعداد  لمناقشتها مقابل حل مسألة الممر إلى ناخيتشيفان ونقل سبع مناطق، وهو ما رفضته القيادة الأرمينية. كل ذلك بحجة أن القرار لا يعود لنا ، بل من يريد التفاوض فليتفاوض مع  ستيباناكيرت (قيادة ناغورني كاراباخ الأرمنية).

لم تعترف يريفان نفسها باستقلال الجمهورية التي كانت تدعمها بالكامل طوال هذه السنوات. بالمناسبة، كان الرئيس الروسي مرارا وتكرارا يذكر الأطراف بضرورة البحث عن حل سياسي وضرورة التفاوض ، كما أنَّ الأرمن كان يعتقدون لسبب ما أن بوتين سيرسل جيشه للقتال من أجل “كاراباخ”. بطبيعة الحال، من الصعب الحكم على الكيفية التي كان سينتهي بها اعتراف أرمينيا بحكومة ناغورني كارباخ في حينه، فلو فعلت ذلك فإنَّ هذا كان سيعطيها بلا شك الحق ولأساس ليس فقط للدفاع عن كاراباخ نفسها، بل وأيضاً لمطالبة حلفائها بذلك.

هناك مبدأ يقول وهو أنه عند إثارتك للصراع، يجب أن تكون مستعدًا للقتال. ومع ذلك، فإن السلطات الأرمينية لم تكن ترغب فقط في التوصل إلى اتفاق (حتى تلك المناطق السبع نفسها يبدو أنها وعدت بإعادتها، وكان يتم تأجيل ذلك  في كل مرة)، كل ذلك مهد الطريق لحرب جديدة، ولكن أيضًا لم ترغب في ذلك، بل لم تكن تعد العدة لذلك.  من الواضح أنهم كانوا يعتمدون في قتالهم الجديد ، وفي حال اندلاع الصراع  على موسكو التي ستكون جاهزة لذلك من وجهة نظرهم . وفي الوقت نفسه، مارسوا لعبة متعددة الاتجاهات، حيث قاموا بالمناورة بين روسيا والغرب.

كانت النقطة التي قصمت ظهر البعير ، والتي تم في خلالها وضع حد لهذه المناورة من خلال “الثورة الملونة” لعام 2018، وإزاحة “الكاراباخيين” من السلطة ووصول نيكول باشينيان الموالي للغرب تمامًا، والذي مهد منذ البداية الأرضية لإعادة التوجيه الجيوسياسي للبلاد، والعمل بل  والضغط الفعلي على روسيا لإبعادها من منطقة القوقاز. اتضح أن الأمر كان مناسبًا جدًا لباكو، لأنها لم تكن تنوي القتال من خلال إثارة الحرب. لكن الضخ من أجل الحرب  في عام 2020، والتقاعس والأفعال الأرمنية الباهتة ، جعل من الحرب أمرًا حتميًّا  في عام 2023.

ماذا عن روسيا؟

من ناحية، تمكنت مرة أخرى من إطفاء الصراع، وفي مرحلة مبكرة، لكن الثمن بقي مخفيا خلف الكواليس، لأنه من الواضح أن الغرب كان يراهن على جر روسيا إلى الصراع لفتح “جبهة ثانية”. “. وهذا نجاح لروسيا. ومع ذلك، فمن المحرج مدى السرعة التي وافقت بها باكو (وأنقرة خلفها) على وقف إطلاق النار، واللعب جنباً إلى جنب مع موسكو – كان بإمكانهم “تطهير كاراباخ” بالقوة في غضون أيام قليلة على الأكثر. يمكن الافتراض أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيرغب في الحصول على شيء من روسيا من خلال الاستفادة من الوضع. ولديه ما يكفي من الأسباب لعدم الرضا: من “صفقة الحبوب” إلى مغازلة موسكو مع إيران وقطر فيما يتعلق بإنشاء مركز للغاز، وهو ما يعتبره الكثيرون في تركيا منافساً للمركز التركي. وفي هذه الحالة، كان من الممكن أن يطلب من روسيا شيئاً مقابل ممارسة نفوذه على باكو.

والنقطة الثانية المثيرة للقلق هي مصير قوات حفظ السلام. حيث يسري التفويض حتى عام 2025 مع إمكانية التمديد، لكن من الواضح بالفعل أن أذربيجان وأرمينيا لن تمدده لأنه غير ضروري. في الواقع، كان السؤال هو ما إذا كانت قوات حفظ السلام ستغادر الآن نتيجة للاستفزاز، أو ستبقى لمدة عامين آخرين.

إن انسحاب قوات حفظ السلام الروسية من كاراباخ سيعني إضعافًا كبيرًا لموقف موسكو في المنطقة. علاوة على ذلك، أصبح مصير القاعدة العسكرية الروسية في جيومري موضع تساؤل الآن. في الآونة الأخيرة، في أرمينيا، وبتحريض من رئيس الوزراء وفريقه، تم إطلاق حملة إعلامية تحت شعار: “روسيا غير قادرة على ضمان أمن حلفائها”. على خلفية الأحداث في كاراباخ، تتزايد الهستيريا المناهضة لروسيا: تجري احتجاجات أمام السفارة الروسية، وتتهم وسائل الإعلام الموالية للحكومة وقنوات تلفزيونية محلية موسكو علناً بـ “الخيانة”، و”التآمر مع الأتراك”، “استسلام آرتساخ” والمطالبة بسحب القاعدة الروسية وخروج البلاد من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

ولم تعلن  الجهات الرسمية ذلك بعد، لكنها بشكل غير مباشر واستنادًا إلى حملة إعلامية منظمة هدفها  تكوين مثل هذه الاستنتاجات لدى المواطن العادي. يجب أن يكون مفهوما أنه بعد “التطهير” النهائي لكاراباخ (خاصة وأن باشينيان سيكون لديه حافز إضافي لـ “تحويل اللوم” على خلفية تدفق اللاجئين الذين سيقدمون له مطالبات قانونية)، قد تقرر يريفان القيام بتغيير جذري في قراراتها، من خلال  إثارة الموضوع والمطالبة بإغلاق القاعدة الروسية، بحيث تمَّ قد تم إعداد الأرض لذلك.

ختامًا ، يمكننا القول أنه من خلال تسهيل وقف إطلاق النار، تمكنت موسكو من تجنب الانجرار إلى حرب لم تكن ضرورية لها على الإطلاق (خاصة خلال العملية العسكرية في أوكرانيا ) وربحت بعض  الوقت لتأخير مسألة انسحابها من منطقة القوقاز. ولكن إلى متى؟ وهل ستتمكن من استغلال هذه الفترة، خاصة وأن هناك الكثير من اللاعبين المهتمين بطرد روسيا من المنطقة، وهم مصممون على الضغط أكثر لأجل هذا الهدف.

ملاحظة: لم تتناول المقالة الأبعاد الجيوبوليتيكية  للحرب على الممرات الدائرة في المنطقة والتي تشعر فيها بعض الأطراف الإقليمية أن خسارتها ستكون فظيعة، ومن المحتمل في هذا السياق نشوب حروب أخرى بين إيران وأفغانستان، وعودة الـازم إلى مناطق حدودية بين العراق وإيران، واستفحال الأزمة الكردية، والتسريع في التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل على خلفية هذا الصراع عمليًّا نحن في قلب المعركة والنار). 

 

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي