ملامح الاختلاف في نصوص “بتوقيت القلب” الشعرية
عبد النبي بزاز*
تتميز مجموعة ” بتوقيت القلب ” الشعرية للشاعر المغربي محمد شاكر بميزات وخاصيات شعرية تتداخل وتتلاحم لتشكيل صور ولوحات تؤسس لأواليات منجز إبداعي ينزاح عما هو مألوف وشائع داخل المتن الشعري الصادر عن رؤى محددة المعالم والآفاق وفق تعابير جمالية ودلالية تشكل ملامحه المعروفة ، وأسسه المتبعة والتي تمتح من معينها جل النصوص الشعرية المغربية ، إن لم نقل العربية .وما يميز المجموعة هو طابع الانزياح في العديد من التجليات التعبيرية والتي تطالعنا من النصوص الأولى كما في النص الأول ” أحيانا … ” حيث نقرأ : ” أمشي شحوب نهار … ” ص5، ففعل المشي اتخذ منحى مغايرا شاذا عن التعبير المألوف في اقترانه بشحوب نهار ، وما يفتحه أمام القارئ من تأويلات دلالية ولغوية تتمثل في علاقة فعل (أمشي ) بمفعول به (شحوب ) ومضاف إليه ( نهار ) ، مع تقدير لمحذوف إما أن يكون حرف جر ( في ) : ( أمشي في شحوب نهار ) ، أو ظرف زمان ( أثناء ) مثلا . وهي صيغة توحي بنهج مختلف لدى الشاعر ، ونقرأ في نفس النص : ” أحيانا ، لا يسكن الكلام أثر مني … ” ص8 ، في تصوير لانفلات الكلام من عقال التحديد والنمطية ، بحثا عن استعمالات تروم الزوغان والتحليق خارج الحدود المعروفة ، والمعالم المرسومة ، حيث يقر الشاعر بأن الكلام ( أحيانا ) وليس دائما لا يرضخ لمحددات ثابتة ( لا يسكن الكلام أثر مني ) ، وأمام تعدد وتنوع هذه الاستعمالات ، وما يطرحه من صعوبات تيسر الإحاطة بها ، سنقتصر على مثال آخر من النماذج العديدة التي تزخر بها الأضمومة في قوله : ” أخشى على وشاية الضوء… ” ص29 ، وهو اختزال تضمنته شبه الجملة المكونة من الجار والمجرور ( على وشاية ) ، بدل ( على نفسي ) ، واقترانه بعبارة مجازية غنية بحمولات جمالية وتعبيرية تتمثل في ( وشاية الضوء ) ، مما يقود للخوض في متاهات تأويلية ترتبط بأسئلة موسومة بالعمق والتشعب : هل يمكن للضوء أن يقوم بفعل الوشاية ؟ وما خلفيات ذلك وأبعاده ؟
بالطبع على المستوى المجازي . وموازاة مع غزارة التعابير النائية عن ربقة المألوف تتجلى نزعة مجازية تحفل بها جل نصوص المجموعة ، حيث تطالعنا منذ النص الأول ” أحيانا … ” : ” أترك للصباح كامل لغوه … ” ص 5، باستخدام لأسلوب مجازي يقرن الصباح كزمن غني بأبعاده الدلالية ، باللغو كمؤشر لغوي كلامي أجوف وعقيم الفائدة ، وفي شكل استعاري كما في نص “في غيابات الليل … ” الذي يقول فيه : ” أطرد خفافيش الوقت … ” ص 11، باستعارة الخفافيش للوقت ، والأسارير المرتبطة بوجه الإنسان للماء : ” إذ تجعدت أسارير الماء . ” ص12، و القشور للخطيئة : ” ثم ترميني بقشور الخطيئة . ” ص 18، والصمت للرصيف : ” تبلل صمت الرصيف … ” ص 22، فتتواصل بزخم من وفرة كمية ، و عمق نوعي : ” فتراك تخيط أسمال خيال … ” ص 45، لتغدو للخيال أسمال بالية ، واستعارة الجبين للصمت : ” أراح الصمت جبينه ، على وسائد الأمداء . ” ص 52، وما يفتحه من تيه في أمداء لا محدودة المعنى ، ومتشعبة الدلالات . هذه الميزة المجازية التي ما تفتأ تمد جسور تكامل وتلاقح مع صور تكتسح ثنايا المجموعة ، وتتغلغل في متنها ، حيث نقرأ في نص ” في الحديقة … “: عساه يبرعم المعنى في بؤس المساء . ” ص 47 ، وما تحفل به الصورة من غنى دلالي وتعبيري في تصويرها عبر صيغة رجاء ( عسى ) بَرْعمة المعنى أي انفتاحه في إهاب زمن ( المساء )المطبوع بضنك وزراية ( بؤس ) ، ولعل ما يوحد التعابير بالصور هو الطابع المجازي والزوغان في استشراف لمجاهل أفق شعري ، والخوض في امتداداتها وتشعباتها ، كما تغتني نصوص المجموعة الشعرية بعنصر الإيقاع كمكون يشكل ، إلى جانب عناصر أخرى ( صور ، وتعابير منزاحة ) شعرا تتجاور فيه أشكال تعبيرية موسومة بالتنوع والتعدد ،بل تتداخل وتتلاحم لرسم معالم نسق إبداعي مختلف ، إيقاع يعتمد على جَرْس خارجي : ” لا شيء يحد من سفري المضاعف ، في الأمس … وفي النفس … أنازل يأسي …” ص 24، من خلال قافية السين ،وروي الدال : ” نسمع أصداء من عبروا جسر النشيد ؛ إلى ضفة الوقت المجيد … خال من الموج العتيد … تأخر عنها عاشق ، ومريد . ” ص 41 ، وداخلي مثل تردد حرف العين في نص ” على كرسي الرجاء الأخير ” : ” وإيقاع كعب عال … تدعو عزلة تربض في ركنها الركين …” ص31 ، وما يخلقه من رنة يخلقها تردد حرف العين ، الشيء الذي يتكرر مع حرف الفاء في نص ” شارع .. ” : ” ويضل الرصيف عن سعيه العفيف . ” ص 73. ولجأ الشاعر إلى عناصر بلاغية ، لإغناء مدونته الشعرية فنيا وجماليا ، كالطباق في العديد من النصوص من قبيل : ” برغبة في الذهاب والإياب . ” ص22 ، في نص ” للشارع بلواه … “، وفي تعابير أخرى مثل : ” ولاوراء ، يعصمني من غيابات الأمام . ” 34 ، وقوله : ” يفرغ الشاعر من صعود وهبوط … ” ص 59، وكلها عناصر تتداخل ، وتتناغم بشكل ناعم وشفاف لخلق نص يمعن في الاختلاف والمغايرة . فتنضاف موضوعات أخرى من قبيل الاستيحاء ، وخصوصا من النص القرآني : ” ولا راع بمآرب العصا ، يهش على ضيف الأحوال . ” ص 7، من سورة ( طه ) حيث يقول الله تعالى : ” قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ” ، في تحوير الغنم واستبدالها ب ( ضيف الأحوال ) ، وفي نص ” لم تعد تشبهنا البلاد ” : ” إنها بقرة صفراء ، فاقع لونها ، تسر الناظرين . ” ص 26، من سورة ( البقرة ) متجاوزا الوصف إلى فعل الذبح بأسلوب مختلف عن الأسلوب القرآني ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) إلى ( ذبحوها من المجيد ،إلى التليد ؛ غير آبهين… ) ص 26، وأيضا في سورة ( مريم ) في قوله عز وجل : ” قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ” ، بصيغة : ” إذ وهن الجناح منك ، واشتعل القلب بالحنين . ” ص 45، وما يرمز إليه الجناح دلالات ، وما يحيل إليه من أبعاد، فضلا عما يختزنه القلب من مشاعر شوق وحنين لوقائع ومشاهد تظل راسخة في الذاكرة والوجدان . ومن التيمات التي أغنت متن الأ ضمومة موضوع الخرافة من خلال أمكنة يجللها الغموض ، وتكتنفها الرهبة يتم ذكرها في سياق مبهم فضفاض كجزر الوقواق : ” عليك الآن ، أن تطوي خرائط الكنز ، وتنسى جزر الوقواق … ” ص 47 ، وهي جزر ذات طابع خرافي أسطوري غير محددة المعالم في الذاكرة والمخيال الشعبي ، وتيمة السحر داخل فضاءات كالزوايا : ” وأشعل الزوايا الكفيلة بالسحر .” 88، بتعبير مجازي متشعب الأبعاد والامتدادات . في إشارة إلى ما تحتضنه الزوايا من ممارسات بحمولات خرافية غيبية كالسحر وما يقترن به من طقوس تنم عن اعتقادات تعكس مظاهر انتشار الجهل ، واستفحال الأمية بين صفوف فئات عريضة من المجتمع ، والجانب التاريخي في ذكر معالم بحمولات حضارية وعمرانية كإيوان كسرى أنو شروان الفارسي بهندسته المعمارية المميزة التي أبدع مهندسون وحرفيون في مجال العمارة والبناء والزخرفة في إرساء لبناتها ، وإشادة صرحها الباذخ ، والشامخ عبر العصور والحقب ، في قوله : ” مهربا حاجة الفقراء ، إلى إيوان كسرى . ” ص 29، وهو ( أي الإيوان) عبارة عن قاعة بقبب ، تحيط بها أسوار، وتزينها خطوط عربية ، وبلاط مزجج ، وتصاميم هندسية غاية في الدقة والإتقان والجمال ،وقد خلع عليها الشاعر صورة توحي بمفارقة الفقر(حاجة الفقراء ) ، والثراء المختزل بشتى صوره وأشكاله في إيوان كسرى في تعبير مشرع على زخم من معاني عدة بصيغة تحمل أكثر من إشارة ودلالة . وانطلاقا من رؤية الشاعر المنفتحة على أجناس أدبية أخرى كالسرد بعناصره من حبكة ، ونهاية ، وخيال: ” تتداعى الحبكة … تشحب النهاية في انخفاض منسوب الخيال . ” ص 88، وما خلعه عليها من َنفَس شعري معبر ودال .
فمجموعة ” بتوقيت القلب ” تزخر بميزات إبداعية متعددة العناصر والموضوعات موسومة بالانفتاح على أشكال أدبية عبر جسور فنية وجمالية بحمولات رمزية ودلالية لخلق أفق شعري يتغيا اختلافا نوعيا بطابع التجريب والتجديد.ونأمل أن نكون ، من خلال هذه المقاربة ، قد أحطنا ببعض جوانبها المتعددة ، ومواضيعها المتنوعة التي تستدعي حيزا أوسع وقراءة أشمل .
شاعر وناقد*