الكاتب الاحتفالي المجدد والمتجدد
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في هذه الأيام، وانا مضرب عن القراءة والكتابة وعن الفرح ايضا، بفعل زلزال اصاب الحجر. وأصاب البشر، اتاني صوت احتفالي من مدينة احتفالية اسمها تطوان، ووجدت هذا الصوت يقول لي (اقرأ) ولم استطع أن أقول له ما انا بقارئ، وقال لي أيضا، خذ القلم واكتب، ولم يكن ممكنا أن أقول له (ما انا بكاتب) ولما وجدني حزينا ومهموما، قال لي افرح، فأنت المواطن الاحتفالي الذي لا يليق به الا الفرح الصادق، واعلم ان الخير امام، وأن الأجمل والأكمل موجودان في الآتي من الأيام ومن الأعوام، واحذر ان تصدق من يكلمك عن شيء يسمى نهاية الطريق، أو يسمى موت الإنسان او يسمى موت الفن او يسمى موت الفكر او موت العبقرية، او موت الكتابة او موت القراءة، وفي الوقت الذي ظننت فيه، في هذه الأيام البالية، بانه لا جديد تحت الشمس، حمل الي البريد الجديد السعيد والمفيد، وبعد أن توهمت بأنه لا جدبد اليوم، وبانه لا جديد غدا، جاءني الجديد من مدينة تطوان، وكان هذا الجديد مسرحية احتفالية غنية بالمعاني والدلالات والاشارات، مسرحية بحجم وعمق وغنى الحياة وغنى الوجود، مسرحية تؤمن بالإنسان والإنسانية، وتؤمن بالحياة والحيوية، وتؤمن بالمدينة والمدنية، وتؤمن بالجمال والجمالية، وتؤمن بالحرية والعبقرية، ووجدتها كتابة صادقة، في عالم توهمت لايام بأنه عالم غير صادق، ووجدتها كلمات وعبارات حارقة بلطف، ووجدتها صورا ومشاهد ممتعة جماليا، ومقنعة فكريا، وهي كتابة تقرأ الوجود والموجود والواقع والوقائع قراءة عاشقة، وهي كتابة تحرض على العيش والحياة، وتحرض على التأمل، وتحرض على الفرح، وتحرض على الإبداع، وتحرض على المخاطرة في الحق ومن اجل الحق والحقيقة، ووجدت لهذه الاحتفالية اسما يناسبها ويليق بها، والذي هو اسم (الطريق او تيرينا لم تمت) ولقد وجدتني في الاحتفالية المسرحية امام إبداع ادبي وفكري وفني جديد ومجدد، ابداع عبر عن نفسه وعن عالمه وعن لحظته بكل لغات المسرح، ولقد انكتب جماليا ببمداد المسرح وبروح المسرح وبمنطق المسرح وبعلم وفقه المسرح، وكما جاء على ظهر الغلاف، فإن الأمر يتعلق ب( مونودراما احتفالية) من توقيع المعلم والعراف والساحر والمؤرخ والمهندس الوجودي الاستاذ رضوان احدادو.
شيخوخة امرأة لا تعني شيخوخة العالم
والأمر هنا يتعلق بثنائية مسرحية، وليس بمسرحية واحدة، ثنائية ابداعية تتألف من حركتين أو من سفرتين، أو من عمرين، أو من نفسين، وذلك في نفس الطريق الاحتفالي الطويل، وفي نفس مساره الفكري والجمالي والاخلاقي الإنسانيووالكوني، والمسرحية الأولى عنوانها ( تيرينا والملاك الصغير) ولقد سبق أن كتبت عنها في كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) والذي صدر عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة سنة 2020 وعن هذا الكاتب والمؤرخ والحكيم المسرحي قلت (هو في حياته اليومية لا يفعل شيئا سوى أن يعيش هذه الكتابة، وأن يطرق بابها أو أبوابها، وعندما يسائل الواقع والتاريخ فيها، فإنه لابد أن تستجيب هذه الكتابة، وأن تنطق بكل اللغات الحية، الكائنة والممكنة معا، وأن تأتي إبداعا جديدا ومجددا، يشبه الجسد الذي خرج منه، ويكون عادة في قامة هذا الكاتب المبدع، ويكون بلون معاناته الصادقة والحقيقية، وأن تكون في قيمته الرمزية والاجتماعية أيضا، وأن تكون مركبة كما هو هذا الواقع المركب، وأن تكون مفتوحة كما هي هذه الحياة المفتوحة على كل الممكنات والاحتمالات والمفاجآت، وأن تكون زئبقية وماكرة كما هو هذا التاريخ المنفلت والمستعصي على التحليل والتأويل دائما، وأن تكون هذه الكتابة غنية بالألوان وبالأشكال، وأن تكون حافلة بالأضواء والظلال، تماما كما هي هذه الطبيعة الممتلئة والغنية على الدوام، وأن تكون يومية بأحداثها ووقائعها، وأن تكون أبدية بقضاياها وبمبادئها الإنسانية الخالدة، وأن تكون متحركة بفعل تلك الطاقة النفسية والفكرية والوجدانية والروحية التي تقيم فيها، والتي هي أساسا طاقة متجددة لا تنفد ولا تنضب).
في المسرحية الأولى يحضر الطريق أيضا، ولكن يغيب الرفيق، مما يجعل هذا الطريق مخيفا وموحشا، وتحضر فيه تلك المرأة التي أصبحت في هذه التجربة الجديدة جدة، ولو انها فكرت في الموت فهي لم تمت، وليس من حقها ان تموت وهي فكرة رمزية، وندرك بأن ( هذه المرأة الواحدة والوحيدة يمكن أن تختزل شريحة كبيرة من النساء) ومع هذه المرأة يحضر (إحساس حقيقي بالوحدة، وهناك شعور بالغربة، وهناك غياب فعلي للآخرين، وهناك جسد أنثوي يعاني شيخوخته وحده، ويواجه موته وحده، وتتكشف له حقيقة كثير من الأوهام، ويفقد لذة الوجود وشهوة الحياة، ويحاول الانتحار ولكن نور الحق يلمع في آخر لحظة، و(يتسرب من فتحة الباب خيط نور وضاء وتسمع الآية الكريمة … و( لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).
ويدوي صوت الحقيقة من خلال صوت المؤذن، وتجد المرأة العجوز نفسها أمام ذلك النور وهذا الصوت مضطرة لأن تستجيب لنداء الحياة ولنداء واهب الحياة ورب كل الأحياء).
ويمكن ان نتساءل، لماذا تيرينا تحديدا، وليس فاطمة أو عائشة أو نعيمة؟ ولماذا هذا السفر إلى الأسماء الأخرى، في الجغرافيات الأخرى وفي الثقافات الأخرى وفي اللغات الأخرى؟ وهل يتعلق الأمر بالحنين إلى المغرب الأندلسي الذي كان، والذي مازال حيا في التاريخ الحي وفي النفوس والارواح الحية؟ أي الحنين إلى تلك الأندلس المغربية والعربية والإنسانية والكونية؟ أي ذلك الوطن الاحتفالي المفتوح على كل الديانات وعلى كل المعتقدات وعلى كل الثقافات وعلى كل الحساسيات الدينية والجمالية والاخلاقية ( حيث يحاور المسجد الكنيسة، وحيث يجاور الأذان صوت الأجراس، وحيث تلتقي القيم الفكرية والدينية والجمالية والأخلاقية عند نفس النقطة، وحيث تفترق أيضا انطلاقا من نفس النقطة).
وفي المسرحية الأولى تحضر الأشياء التالية ( حبل غليظ مكوم) و ( ساعة جدارية ملقاة على الأرض) و (جهاز هاتف معطل) و (ورود ذابلة) و(بقية مرآة عتيقة) وفي المسرحية نجد هذا الحبل موجودا ايضا، ليكون لوجوه معنى الاستمرار ومعنى الربط بين الأجساد والأرواح والأفكار..
هذه المونودراما الاحتفالية صدرت عن منشورات باب الحكمة بمدينة تطوان، ضمن سلسلة هامش، والتي يشرف عليها المسرحي الشامل ومؤسس مختبر بيكيت لفنون العرض المعاصرة د، يوسف الريحاني.
ورضوان احدادو هو كاتب مشاء في الطريق، وهو يعلم أنه ما وضعت كل هذه الطرق المتعددة والمتنوعة الاتجاهات إلا من اجل ان نمشي فيها، ولأنه احتفالي، فهو مؤمن بالحضور، ومؤمن بأن الغياب خيانة وجودية، ولهذا نجده في هذه الاحتفالية المسرحية يواصل الكتابة الاحتفالية ويواصل السير في نفس الطريق الاحتفالي، ويواصل الحياة والفرح والدعوة إلى (اقتراف) الحياة والفرح.
رضوان احدادو والكتابة بالأشياء
نحن هنا في هذه الاحتفالية المسرحيةامام لغات وابجديات حية متعددة، وهي لغات وابجديات مسرحية غنية بالدلالات وبالايحاءات وبالمعاني، ومن بين هذه اللغات لغة الأشياء، والتي لها ابجديتها الخاصة، ولها ظلالها وموسيقاها الجوانية الساحرة والمبهرة.
ونحن هنا اساسا في مسرح، موجودون جميعا في مسرح الوجود، وهذا المسرح هو عالم أخر، عالم تنطق فيه الأجساد، وتنطق الكلمات، وتنطق الأزياء، وتنطق الأضواء، وتنطق الظلال، وينطق الصمت، وينطق الفراغ..
في هذا العالم الاحتفالي إذن، والمقترح من قبل ساحر احتفالي، هناك أمام الجمهور بيت، والمفروض في هذا البيت أن يكون له وجود بين عالمين اثنين غير منفصلين، عالم الحقيقة وعالم الخيال، وعالم الحكي المسرحي الاحتفالي وعالم الجمهور المسرحي المحتفل، وأن يكون بينهما ستار يفصل بينهما، ولكنه في هذه الاحتفالية المسرحية لا وجود له، مما يدل على اننا في عالم واحد، هو عالمنا كلنا، وأننا نعيش داخله زمنا واحدا نقتسم لحظاته وساعاته ومناخه وطقسه، وفي هذا البيت اشياء تنطق لغتها الخاصة، وهذه الأشياء تجمع يين القدامة والحداثة، مما يدل على اننا سنعيش فيها ومعها كيمياء الحالات وكيمياء المواقف وكيمياء المكان وكيمياءالزمان، وهذه الأشياء هي:
(تماثيل لوجه امرأة متقاربة القسمات مغطاة بقماش شفاف)
(طاولة مهترئة بكرسي لولبي حديث)
(فوق الطاولة مزهرية بورود)
(جهاز تلفون عتيق مثبت على الجدار )
(هاتف محمول على الطاولة)
(مرآة مستطيلة) يحدد طولها وعرضها بشكل دقيق وكانه روائي او مؤرخ او اعلامي
هذه المرأة (نصفها الأعلى لامع والأسفل باهت)
و(ساعة كبيرة بعقربين مثبتين على رقم 12) مما يدل على اننا في وسط النهار او في وسط الليل او في وسط الزمن او في وسط التاريخ أو في وسط الجغرافيا او في وسط الحضارة
(دولاب بدفتين) وليس بدفة واحدة (دفة حديثة ودفة قديمة)
وهذه الأشياء موجودة بين حدين اثنين، حد الظهور بفعل الضوء، وحد الظلام في حال غياب الإضاءة، وهذه الإضاءة تنتقل (بتركيز على المحتويات فتتفاعل (معها)عندما يسلط الضوء على رأس من الرؤوس يشع الضوء من العينين).
رضوان حدادو وروح الكتابة الاحتفالية
يتساءل المفكر الاحتفالي دائما، هل هناك كتابة احتفالية واحدة، صالحة لكل الاحتفاليين، في كل زمان و مكان، وفي كل الحالات والمقامات، وفي كل الشروط والسياقات المختلفة؟
وهل هذا الكاتب المسرحي، والذي يعيش أعمارا متعددة، ويواجه تحديات وجودية وفكرية كثيرة جدا، والذي هو اساسا كيمياء حالات وانفعالات وتفاعلات، هذا الكاتب المتعدد والمتجدد، في الزمان والمكان، هل يمكن أن تكون له كتابة واحدة فقط، وأن لا يكتب في كل أعماره المتعددة الا مسرحية واحدة؟
وبالتأكيد، فإن هذه الاحتفالية المسرحية الجديدة تؤكد مرحلة اخري جديدة في أعمار هذا الكاتب المجدد والمتجدد، ولعل اهم ما يميزها هو روحها الصوفي وهو درجتها المتقدمة في سلم العرفان الصوفي.
يقول الكاتب الاحتفالي، والذي قد يكون رضوان احدادو او محمد الوادي او محمد فراح او عبد الرحمان الوادي او محمد البلتولي او محمد السلاوي رحمه الله، بأنه لا يكتب وحده، وهو في هذا الواقع المركب لا يعيش وحده، وهو في هذه الحياة كائن حي يحيا الحياة، ويعرف جيدا بان اللحظة التاريخية الحية تكتب معه، ويعرف ان المناخ الفكري العام يكتب معه، ويعرف ان طبيعة علاقته بذاته وبمحيطه وبشروطه الموضوعية تكتب معه، ويعرف ان حالته الوجدانية المتجددة تكتب معه، وبالتاكيد، فنحن الذين نكتب اليوم، غير اولئك الكتاب الذين كنا، في ذلك السياق الذي كان، فهذا الواقع قد تغير، وتجدد، ونحن ايضا تغيرنا وتجددنا، ولقد ذهبت كثير من الأصباغ، ولكن بقي الجوهر، ونحن اليوم نطل على هذا الواقع من زوايا اخرى مختلفة، ونحن بهذا أقرب إلى روح الواقع وإلى روح الوقائع وإلى روح التاريخ وإلى روح الحياة وروح الوجود، وفي بداية الطريق هذا الاحتفالي الطويل، تحدثنا يوما عن الواقعية الاحتفالية، وكان حديثنا عنها حديثا عاما، ولكننا اليوم نتحدث عن واقعية أخرى في الكتابة، والتي يمكن أن ان نسميها الواقعية الصوفية في الكتابة الاحتفالية، والتي نجد لها حضور ا ظاهرا في هذه الاحتفالية المسرحية، بحزئيها، الأول والثاني. ونجد لها وجود في مسرحيات اخرى كثيرة.
ولاأننا في هذه الكتابة، لا نكرر أنفسنا، فإننا نواصل فعل الكتابة، ولو شعرنا بأننا قد قلنا وكتبنا كل شيء، واننا قد ادركنا النموذج النهائي في الكتابة، لكنا قد قدمنا استقالتنا لسلطان الكتابة، واخذنا تقاعدنا المبكر، واسترحنا وارحنا.
وفي هذه الكتابة الجديدةتحضر اليوم مسرحيتان موضوعهما واحد، والذي هو السفر الوجودي وهو الطريق الوجودي، ويتعلقع الامر يتعلق بمسرحية (يا مسافر وحدك) لعبد الكريم برشيد والتي صدرت عن اديسوفت بالدار البيضاء، وكتب لها التقديم د، محمد الوادي، والتي قام باخراجها المخرج المسرحي الاحتفالي عبد المجيد فنيس، والثانية هي مسرحية (الطريق او تيرينا لم تمت) للكاتب المسرحي الاحتفالي رضوان احدادو، وفي كل الكتابات الاحتفالية يحضر الطريق، ويحضر القطار، وتحضر العربة، وتحضر السفينة، ويحضر الانتقال داخل المكان والزمان وخارجها أيضا.
هي كتابة أخرى إذن، كتابة اقترحتها شروط تاريخية اخرى، وهي مسرحية احتفالية تؤسس نفسها بشكل متجدد، وهي أساسا حياة وحيوية، وهي فعل حيوي تراجع به ومن خلاله هذه الاحتفالية نفسها، وذلك من أجل أن تبدع افكارا جديدة، من غير أن تتخلى عن الأفكار ( القديمة) طبعا، خصوصا منها الأفكار المبدئية والمحورية والتي لا تشيخ ولا تموت، مثلها مثل الجدة تيرينا التي لم تمت.
الاحتفال بين حد الصناعة وحد التصنع
في هذه الكتابة الجديدة يحضر روح الواقع قبل قشوره، ويحضر محركه الخفي قبل محركاته البرانية الظاهرة، وتحضر فيه معالم الطريق قبل التأكيد على ملامح السائرين في هذا الطريق،
وهذه المسرحية الاحتفالية، وكما هي الحياة عند ارسطو، هي كوميديا لمن يفكر، وهي تراجيديا لمن يشعر، وعندما نفكر، نشعر بكل تاكيد، ولكن بعقلانية، وندرك أن القادم أجمل، ونعرف إن كل نقمة قد يكون في طيها نعمة، وأن ما لا نعرفه أكثر وأكثر مما نعرفه، وفي المعنى نستحضر قوله تعالى (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحو بما اتاكم) لأن ما فاتنا ليس بالضرورة يدعو إلى الأسى، وان ما عندنا لا يمكن ان يدعو إلى الفرح، وهذا هو ما يجعل الكتابة الاحتفالية ليست كوميديا خاصة، وليست تراجيدا بشكل كلي، وفي كل شيء يوجد شيء يخالفه ويكمله، من حيث ندري او لا ندري..
وهذه الكتابة الاحتفالية لها فلسفتها، ولها شريعتها، ولها منطقهاالداخلي الخاص، وبالنسبة للاحتفالي فقد يحدث ان نضحك ضحكا كالبكاء، وان نبكي بكاء ضاحكا، وقد يحدث ان نضحك اليوم ضحكا رماديا، وذلك خوفا مما قد يأتي به غدر الغد الآتي
والسفر والترحال لهما في الاحتفالية نموذجان اثنان، الأول هو السندباد في رحلاته البحرية والحلاج في رحلاته الوجدانية والروحية، ويظهر هذا بجلاء في مسرحية (سالف لونجة) فالأول له طريق معلوم في البحر، والثاني له طريق يمتد في المطلق من الزمان والمكان.
وبحسب الاحتفالي، فان التعييد الاحتفالي الحقيقي لا يعني الضوضاء والصخب، ولايعني الغناء والرقص بالضرورة، ولا يعني الأزياء والأقنعة والأصباغ الصارخة على الوجوه، وقد يكفي التعبير عنه بايقاد شمعة فقط، او بحركة بسيطة موقعة، اوبكلمات وعبارات لها روح ولهاةجرس موسيقى ولها اضواء وظلال ولها دلالة ومعنى.
وكما يقول العرب، فان الزيادة في الشيء نقصان، وكل شيء يزيد عن حده ينقلب الى ضده، واقامة الاحتفال الكبير من اجل الفرح الصغير هو بلاغة زائدة لامعنى لها، والصناعة المسرحية عندما تبلغ مستوى التصنع، تفقد مبرر وجودها، وتصبح مجرد بريكولاج مسرحي.
وكثير من المخرجين يقيمون احتفالات باذخة لنصوص بمضامين فكرية فقيرة جدا، يقول د، يوسف الريحاني في التذييل الجميل الذي كتبه لهذه المسرحيةالاحتفالية ( إن الفهم الخاطئ والمغلوط للاحتفال هو من عمق من هذا الضجيج والتشويش الذي بدأ يكتسح الخشبات اليوم بحيث تحولت هذه الأخيرة إلى هجنة من الألوان المتنافرة وتخمة من التشكيلات الحركية التي لا تخدم قضية التمثيل الفني في المسرح، والمشكل أن كل ذلك يقترف باسم الاحتفالية).
وفي معنى المونودراما، والتي تمثلها اليوم مسرحية (الطريق ) يقول الاحتفالي ما يلي:
هي (محاولة للقبض على روح المسرح، ومن خلال ذلك، البحث عن جوهر الحياة والأحياء، والبحث عن جوهر الحقيقة التي ضاعت في زحام هذه القرى وهذه المدن.
إن الأساس في الموندراما هو الحكي دائما، وهل الإنسان إلا هذا الجسد الحي الذي يحكي ويحاكي؟
والمونودراما هي البساطة، وهي الاختزال أيضا، وهي الثوابت التي لا يمكن أن تقفز عليها حركات التجديد والتجريب في كل تاريخ المسرح القديم والحديث).
وبالنسبة للاحتفالي أيضا فإن ( المونودراما هي درجة الصفر في سلم تاريخ المسرح الإنساني، والذي هو أساسا درجات بعضها فوق بعض، أو أدنى من بعض، أو أعلى من بعض، أو أعمق من بعض، والذي هو تجارب مرحلية صغرى داخل التجربة الإنسانية الكبرى) وهي فن وعلم وفكر البوح الصادق، وهي التمثيل الفني الذي يفضح التمثيل المجتمعي، وهي صرخة الفرد المنفي والمقصي في وجه العالم.
ويقول د، يوسف الريحاني ايضا (ان الاحتفالية لا تعني بالضرورة الاطناب، بقدر ما هي خبرة جماعية تنزع عن الوعي اغترابه، وهذا لا يمكن أن تحقق بالبهرجة الفارغة، لقد سبق لهانس غادامر إلى أن أشار أن “المناسبة الاحتفالية تكون دائما شيئا متساميا ينتشل المشاركين من وجودهم اليومي، ويسمو بهم إلى نوع من التشارك الملي، وبالتالي فان المناسبة الاحتفالية تمتلك نوعا من الزمانية الخاصة بها” وهذه الزمنية الخاصة هي التجلي الخالص للصورة المطلقة التي قوامها التكثيف والاختزال والحد الأدنى)
وهذه الكتابة الاحتفالية لاتكتب استجابة لرأي عام او لذوق عام أو لموضة عابرة او لحساسية ظرفية او لسلطة سياسية متحكمة، وهي لا تغازل الواقع والوقائع، وهي تمشي في الأمام ولا تمشي في الخلف مع المتخلفين، ولهذا نجد الاحتفالي فيها يقول ما يلي:
اعمل عملا تافها، في موضوع تافه، وقدمه في زمن تافه، لجمهور تافه، في ظروف تاريخية تافهة وفي سياقات جمالية واخلاقية تافهة وكن متأكدا بأن عملك التافه سيحقق النجاح المبهر والكبير والخطير.
Visited 35 times, 1 visit(s) today