رواية “النّاءُون” أو”البَعِيدُون” للرّاحل بهاء الدّين الطّود.. في البّحث عن الهُنيْهَات الرّغيدة في شَرْخ العُمْر ورَيَعَانه
د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي
المشمول برحمة الله الراحل مؤخراً الروائي بهاء الدين الطود كان قد أهداني خلال احد لقاءاتنا فى مدريد، روايته ” البعيدون” الصادرة عن دار الهلال المصرية 1990، انغمستُ فى قراءتها دون انتظار، وأنا في الأنفاق المعتمة، تحت أشعّة الأضواء الخافتة لمقصورة المترو المدريدي الذي كان يسحق السّككَ الحديديةَ التحت أرضيّة سحقاً عنيفاً وهو يتسابق، ويتلاحق والزمنَ فى سرعة مذهلة، عندئذٍ أحسستُ بالعَجلة المفرطة التي يمرّ بها الزّمن فى حياتنا الهنيّة، وفي بحبوحة هنيهاتنا الجذلة التي تتحدّث عنها الرّواية بألمعية، وبإسهاب فى معظم فصولها، إكتشفتُ منذ الأسطر الأولى أنّ ما تحتويه هذه الرواية بين دفتيها هو ليس رزمة قراطيس منمّقة داخل أغلفة مزكشة وحسب، بل شعرتُ وكأنني أركب زورقاً من ورقٍ صقيل يرحل بي على ثبج أمواج الزّمن وأنوائه ،وأهواله، ويتيه بي فى أغوار ” الأنا ” ودهاليزها ، ويغوص فى أعماق ” الآخر” لإستكناه خبايا النفوس الحائرة الملتاعة، وإكتشاف عوالم جديدة مسحورة ، وتفجير،مشاعر جيّاشة، وأحاسيس دفينة عميقة الغور.
”البعيدون” أو الناؤون رحلة اِغتراب، وإبحار ومعاناة على إمتداد الزّمن، والمسافات على متن قارب لازوردي شراعه ظلال الكلمات، وبوصلته أطياف الذكريات، هذه الرّواية تشدّك إليها بقوّة منذ الوهلة الأولى، ولا تنفلت منها إلاّ وأنت تتنفّس الصّعداء مع البطل فى آخر صفحة منها، حيث يصل الكاتب بالقارئ إلى برّ الأمان بعد رحلة شاقة مضنية ومُسلّية في آن، وبعد نقلة مفاجئة ماتعة إلى عالم مسحور، مشحون،ومشجون، ومترع بفيض من الذكريات، والمسامرات، والمغامرات، والمعايشات، من طرف الكاتب فى كلٍّ من حاضرة أبي القاسم المجريطي مدريد، وعاصمة الأراضي المنخفضة أمستردام، و مدينة الضباب لندن، فى فترات متفاوتة ومتباعدة من عمره عندما كان لمّا يزل ْ ينعم بشرخ شبابه وريعانه.
من مجريط إلى عاصمة الضباب
مطعم جامعي بمدينة مدريد هو المكان الذي تنطلق منه أحداث هذه الرواية، حيث تابع الكاتب دراسته فيها فى شبابه، وسرعان ما يرخي الكاتب ليراعه العنان لينطلق فى عملية سرد مسترسل فى تلقائية وعفوية ليحكي لنا قصته هو فى المقام الأوّل، ثم قصّة صديق عزيز عليه يُسمى إدريس فى المقام الثاني، تعرّف عليه فى العاصمة الإسبانية، ثم سافرهذا الصديق فى ظروف غامضة إلى مدينة لندن بعد أن فارق خليلته الاسبانية ”بيلار” بمدريد، وفى عاصمة الضّباب يلتقي به من جديد، وفى سرعة فائقة تطوي الرّواية فيها رحلة ثلاثين سنة من الزّمان، حيث يسلّم إدريس “الرّاوي” رزمة قراطيس بها بعض المذكرات الشخصية، ويرجوه ألاّ يقرأها إلاّ بعد مرور أسبوعين على الأقل، أيّ حتى يتأكّد له أنه أصبح بعيداّ عنه، وعندما يفتح البطل هذه الرّزمة – مثلما حدث لطه حسين بالضبط عندما استلم حقيبة صديقه “أديب” من المرأة الفرنسية التي كانت تؤجّر له الغرفة التي كان يقطن فيها – إذا به أمام أدب رفيع، وحكايات مثيرة، وأخبار طريفة، وأسرار وغرائب، ومناقشات وحواريات، حول الحياة والفلسفة، والوجود، والدّين، والتاريخ والفن، والموسيقى، والأدب، تدور بين إدريس وببين العديد من من الشخصيات التي يلتقي بها خلال مهبّ عمره فى بلاد المهجر في غياهب المنافي من طلبة، وأساتذة، وأصدقاء وخلاّن، وخليلات، وكذلك بينه وبين الرّاوي نفسه، وأخيراً بينه وبين ” إستير” الفتاة اليهودية الحسناء، التي تعرّف عليها إدريس فى ظروف غامضة لدى أستاذ إنجليزي متخصّص فى علوم الاستشراق، يُدعى مستر جاكوب كورت خال إستير، ويفاجأ البطل بأنّ هذا الشخص هو يهودي حيث كان يعمل فى إحدى المجلاّت الإستشراقية. (هذا التصادف أو التشابه فى الوقائع بين” أديب” و”البعيدون” أو الأباعد أو الناؤون لا شكّ أنه – كما لا يخفى عن القارئ اللبيب- إنّما هو من باب توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافرفى سرديات أدبنا القديم ).!
في مقهى غرناطة بالقصر الكبير
وفى نقلة زمانية مباغتة يجد القارئ نفسَه فجأةً مع الرّاوي فى مدينة القصر الكبير (شمالي المغرب) وهو جالس فى مقهى تُسمّى ” غرناطة” مع صديق له يُدعى بوغالب، وأمطرت السّماء فى ذلك اليوم بشكل لم يسبق له نظير، وكأنها أنزلت كلّ ما فى عنانها من مُزن مُثقل بالمياه التي ملأت هذه المدينة الصغيرة الآمنة، وبين لمعان البّرق الخاطف،وهدير الرّعد المدوّي، واِنجراف بِرك الغَمْر التي تكوّنت فى مختلف جنبات المدينة من جرّاء السّيل العارم المنهمر يدنو “إدريس” – الذي كان يرتدي أسمالاً بالية ممزّقة من صديقه القديم ” الرّاوي” ويطلب منه سيجارة وبعد أن يناوله إيّاها ويدسّ علبة السجاير فى جيبه، يطلب إدريس منه مساعدته فى الحصول على جواز سفر “ليعود إلى لندن حيث ترك هناك إبنته التي أخذوها منه”..! ثم يهرول راكضاً بشكلٍ مفاجئ تحت سيل الأمطار الغزيرة (وكأنّ ذعراً أصابه..) يقتفي الرّاوي وصديقُه الذي كان جالساً معه فى المقهى أثره باحثيْن عنه بدون جدوى، إذ ضاع بين الجموع الغفيرة من الناس، وإنهمار المياه، وكثافة الضباب، وانتشار الوحل، وعندما يأويان إلى مقهى أخرى تسمّى (بلاطا) يخبرنا الكاتب أنّ ”رائحة غريبة كانت تنبعث من هذه المقهى“ تشبه رائحة البخور المنبعثة من حجرة ميت، وهي ذات الرائحة التي فاحت من حجرة بضريح كان إدريس مُسجى بها فوق حصير ،بعد أن عثر على جثمانه بين مخلفات جرفتها مياه باب الواد”. ( ص 170 من الرواية).
هذا بإختصار شديد هو مضمون هذه الرواية، إلاّ أنّ قيمتها لا تكمن فى مضمونها الدرامي المتمثل فى إدريس ونهايته المأساوية المفجعة، بل إن قيمتها تكمن فى السّرد المسترسل المتواصل والمتواتر التركيبي للرواية منذ لحظة ”انطلاقها ” فى مطعم كلينيكو بمدريد إلى لحظة “نهايتها” بمقهى بلاطا بمدينة القصر الكبير المغربية.
كومة آهات وتأوّهات
ماذا نحن واجدون فى هذه الرواية، وماذا تخفي فى جعبتها..؟ ما كنهها..؟ وما أبعادها..؟ ومَنْ هو إدريس..؟! هل هو شخصية حقيقية واقعية؟ أم هو من نسج خيال الكاتب؟ هل هو ظلّه؟ نفسه؟ شخصيته المزدوجة؟ أناه؟ انعكاسه فى مرآة الحياة والواقع؟ أم ماذا؟ ففي فنون التراجم الذاتية التي تكتب فى قالب قصصي فغالباً ما ما يلجأ العديد من الكتّاب إلى خلق شخصيات ثانوية مزدوجة تحمل أسماء مستعارة تقوم مقامهم فى الإفصاح عن خبايا النفس، وتطلّعاتها، وطموحاتها، ومعاناتها، وتباريحها، بل إنهم يلجأون أحياناً إلى تضمين هذه الشخصيات إسقاطات، وأفكاراً، ومبادئ، وفلسفات، وقناعات يؤمن أو يشعر بها الكاتب فى الأصل، ولقد إعترف الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير للذين كانوا محيطين به لحظة إحتضاره: ”أنّ مدام بوفاري كانت هي نفسه..”! والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح فى هذه الرّواية هو ما هي صلة إدريس بالكاتب؟ وما مدى نصيبه من الواقع أو الخيال..؟
هذه الرّواية (وهي باكورة الأعمال الرّوائية للكاتب تلتها روايته الجديدة الواعدة ” أبو حيّان فى طنجة”) اِنثالت على شفتيْ كاتبها وكأنّها نفس الأتيّ المنهمر الذي هطل فى باب الواد بمدينة القصر الكبير، إنطلق فى كتابتها على سجيّته غير عابئ بالبناء، والطرح، والتناوش، والصّراع، والحبكة ثم الإنفراج،إنها بالشكل التي كُتبت به التعبير التلقائي المباشر عن مشاعر محتدمة، وأحاسيس متفجرة، وإفصاحات مترفة، وآهات مرهفة، تعتمل بداخل نفسية البطل، وهو يصنع لنفسه زورقاً من ورق، ويدعو القارئ للإبحار برفقته ليمخر معه عُباب بحر زاخر، لاهثاً وراء السّطور على اِمتداد الزمن، والمكان، والفضاءات، والمسافات لتفرز لنا هذه الرحلة فى يمّ الحياة فى آخر المطاف كومة آهات وتأوّهات، وصرخات، تطفو على ثبج بحره السّاكن، الهادئ حيناً والهادر المزبد حيناً آخر، وفى الأفق البعيد يبدو للكاتب وللقارئ معاً بصيص من نور خافت تتراءى أمامهما فيه بقايا سنين من نزق الشباب، وطيش ريعانه، وهوَس أيامه، وسمَر لياليه بما فيها وبها وعليها من متع الحياة، وبريقها، ولمعانها، وكذلك مدلهمّاتها وحوالكها، وعذاباتها، ومعاناتها، ومكابدتها، سنوات ولّت، وآلت، وإنقضت، ومضت، واِنصرمت، وتوالت، وتساقطت أوراق خريف زمانها الواحدة تلو الأخرى من شجرة العمر الوارفة التي لم يعد يعلوها الاخضرار.
الإحساس بالغربة والشّعور بثقل الزّمن
وعلى الرّغم ممّا يبدو للقارئ فى هذه الرواية من فتق ورتق فى هندامها الدرامي، وبنيتها الفنيّة، إلاّ أنّ ” لحمتها” مع ذلك تؤلف فى النهاية نسيجاً مترابطاً، حتى وإن كان ينسل ثوبه حيناً فى عين القارئ، ويشكّل بناءً متكاملاً متشابكاً، حتى ولو تهاوت لبناته فى بعض المواقف، إلاّ أنه – مع ذلك- سرعان ما يجد نفسه مرتدياً عباءة الكاتب الفضفاضة يدخلها طواعية، وبدون شعور منه،يتحرّك فيها وبها على سجيته وهواه كما يشاء فإذا به – وبدون شعور منه – يتقمّص شخصية البطل المتداخلة المتناوئة، المتناوشه فإذا به يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويسعد لسعادته طوراً، ويأسى لتعاسته أطواراً أخرى، وهكذا يغدو يرى ما يراه، ويشعر بما يشعر، ويعيش ما يعيشه، وفى آخر المطاف يقف بالقارئ محدّقاً فى النهاية فى مرآة شاشة عمره، حيث لا يرى فيها صورة الكاتب، بقدر ما يرى فيها صورته هو..! ولعلّ القارئ بحكم معايشاته، وتفاعله، وارتمائه فى خضمّ القضايا، والمزايا، والسّجايا، والرّزايا التي تطرحها، وتثيرها الرّواية يجد نفسه مشاركاً فيها بدون شعور منه، محاوراً هو الآخر، ومسامراً، ومشاحناً، ومشاكشاً، ومجاوراً، ومسايراً لابطالها، وشخوصها، فى كل لحظة وحين، وسرعان ما يكتشف بعد طبخ ونفخ، وجهد وكدّ، أنه لعلّ أهمّ عنصر يميّزهذه الرواية هو إحساس الكاتب العارم المتفجّر بالغربة، وشعوره المفرط بثقل الزّمن وجبروته عليه، وبسط فرضيته، وقدره، وسلطته، وسطوته، وتغييره وتبديله، ومفاجآته، ومباغتاته، وأخيراً اندحاره، ونكده، وضنكه. إنّ الكاتب يأسى ويتأسّى عن تلك اللحظات المشرقة، والهنيهات المضيئة التي طبعت تلك الأيام الخوالي التي مرّت مرّ البرق فى عزّ عمره وشبابه التي يأسف عنها ولها فى مستهلّ روايته متحسّراًقائلاُ: ”جميلة كانت تلك الأيام”..! فكأنّ الأيام التي تلتها أو جاءت بعدها لم تعد كما كانت عليه فى شرخ الشباب وريعانه بعد أن فقدت بريقها، ولمعانها، وشعاعها، وإشعاعها، إنه يصف لنا هوسَ الشباب، ونزقَه، وشرخَه، وطيشَه، وحريتَه، وحماستَه، واندفاعَه، وتسيّبَه، وقوّتَه، وعنفوانَه، وصخبَه، ولجبَه، ودأبَه فى عبارة رائعة عندما يقول: ”كنّا نحسّ أنّ لنا أجنحة نرتفع بها إلى ما فوق السّحاب، فنلمس كلَّ ما يستعصي على ساكني الأرض، كنّا لا نتوقّف، نسير، ونسير فى كلّ اتجاه، كلّ ليلة لا تكتمل إلا بطريقة مختلفة عمّا سبقتها” هذا الإحساس العارم بفداحة الفقد والضياع، فقد تلك الأيام الحلوة التي تمرّ راكضة هاربة، وهذه الليالي الحالمة التي تمضي وتنقضي بين ”روائح العطور والسيّدات الجميلات بقاماتهنّ المديدات، وأناقة لباسهنّ الكاشف لمفاتنهنّ البيضاء” مثل هذه المعايشات الرغيدة نراها فى الرّواية وهي تنفلت من بين يديّ الكاتب كما ينفلت الماء بين أنامله..! ..
رحم الله صديقنا الأبرّ، وأخانا العزيز بهاء الدين الذي تقاسمنا وإيّاه قبل أن تخطفه منّا يدُ المنون أياماً سعيدة ولحظات رغيدة في طنجة العالية، وفى حاضرة مدريد، وهما المدينتان اللتان كانتا مرتعاً لصباه المُبكّر، ومربعاً لشبابه النضر، واللتان تغلغل حبّه لهما وإعجابه بهما في أعمق أعاميقه *.
* الروائي الرّاحل بهاء الدين الطود الذي غادرنا الى دار البقاء بتاريخ: 17/10/2023 صاحب رواية “البعيدون”، من مواليد مدينة القصر الكبير بالمغرب، امتهن المحاماة بمدينة طنجة، ودرس الصحافة في مدريد بإسبانيا، والقانون في الرباط وباريس. وقد صدرت روايته “البعيدون” عن دار الهلال المصرية سنة 1990 برعاية الناقد المصري الراحل جابر عصفور، ثمّ رأت روايته الثانية “أبو حيان التوحيدي في طنجة” النور عام 2010.
– تحريراً في 25 أكتوبر 2023 في” أجدير” الحَصين – (الحسيمة).