غاستون باشلار: ومضة تستعيد حياة خالق للكتب (3/2)

غاستون باشلار: ومضة تستعيد حياة خالق للكتب (3/2)

 ترجمة: سعيد بوخليط              

     يمكن بفضل الصورة الشعرية، الإمساك بلحظة تتوخى معها اللغة أن تصبح مكتوبة. يلزم حين تمثُّل متعة الكتابة، الاستسلام لها جسدا وروحا، يدا و عملا، من ثمَّة كتب جورج ساند الذي اختبر جيدا سياقا من هذا القبيل: ”لايستحق الفكر شيئا حين الكتابة؛ يحسُّ الفكر والكلام بالتضايق”. تعتبر الكتابة بطريقة ما، بُعْدا يشرف على الكلام.

   الصورة الأدبية نتوء جليّ يعلو اللغة المتكلِّمة، لغة استسلمت إلى استرقاق الدلالة. نتوء؟ أكثر من ذلك: ترسِّخ القيمة الشعرية التجاوزات التي بوسعها التجلي باعتبارها مجرد تدفُّقات لما هو نَزَوِي. عندما نعيش هذا الترسيخ للصورة الأدبية عبر القيمة الشعرية، وما إن تصبح الصورة الأدبية، نتيجة رهانها صورة شعرية، يسود الاقتناع بأنَّ الصورة سلطة للغة. بالتالي، لم تعد السلطة الشعرية قط ضمن استمرارية سلطة الدلالة .إنَّها كامنة فوق ارتجاجات الدال والمدلول، التي تلزِم المحلِّل النفسي، بحكم مهنته تدبُّر أمر تفكيك الألغاز، وقياسها.

   أحيانا، تعنِّف الصورة الشعرية الدلالة .وقد أبرز السورياليون حقا أمثلة توضح هذا العنف. تتجلى هنا ضرورة جدلية قصد بعث حرية التخيُّل .لكن حاليا وقد اكتسبت القصيدة حقها بخصوص النزوع العمودي، سنستلهم الحرية بمجرد انتشاء هوائي للغة.

   لانحقق فعلا التواصل مع صورة شعرية سوى إذا احتفلنا بهذه الصورة كتمجيد نفسيّ خاص، ثم تحوُّل على مستوى كائن الكلام.

   إذن، يقتضي الوضع من فلسفة للسلطة الشعرية الإيحاء بارتقاء ثنائي للكائن – فوق حقيقة الأشياء المألوفة- فوق الحقيقة النفسية لما تعيشه الحياة العادية.

   النقد سهل، ضد نتوءات من هذا القبيل نفسية وميتافيزيقية. حاليا، أستحضر بين طيات هذا التقديم العام لكتابي، اعتراضات ضخمة؛ ثم أتناول بين طيات أقسامه على مستوى الأمثلة ذاتها اعتراضات ثاقبة أكثر.

   سيواجهني من الوهلة الأولى اعتراض مفاده أنِّي أستعرض بالنسبة للغة سلطة شعرية تتخلَّص من التزامات اللغة اليومية، لذلك أبتعد مرتين خارج الوجود: خارج وجود العالم، وكذا وجود التجربة الحياتية الخاصة.

   فلاسفة الوجود، فلاسفة ”الكينونة” فعلا، يقتنعون بسهولة جدا باستمرار الوجود داخل مختلف أشكال الوجود .يمسكون بهذا الوجود حتى في خضم ضبابيته. تغدو ثابتة تلك الأشكال، بمجرد تبلوره الأولي .كما أنَّ حقيقة عالمهم، بمثابة ضمانة مباشرة عن وجودهم في العالم. عندئذ، يمثِّل كل تعبير منطوق، مجرد صدى رنين طبيعي للوجود، تحديدا وجودهم.

   يتكلَّم فلاسفة الوجود عن العالم وكذا وجودهم من خلال نفس اللغة .ويعتبر الوجود دائما، بصيغة المفرد أو الجمع، ضمانة للكلام. يعكس وجود الكلام شكلا للوجود. لايحظى الكلام قط بالاستقلالية، لأنه باستمرار مجرد أداة. في أفضل الأحوال، حضارة للصراخ.

   دائما، الكلام ”يظهر”، داخل كينونة الكلام، الكائن قبل وجوده. بالتالي كينونة تعبيره مجرد وجود مُفَوَّضٍ، أو فقط ”نمط” للكائن المتكلِّم.

   حقيقة، يتجلى بالحركة جواب ديناميكية الأقوال الملتهِبة – الصور الشعرية الناشئة عند بؤرة الكلام- ثم الانفجار، حيال مناصري اللغة المستقرَّة. إذا أمكن بعد ذلك، إثارة الانتباه بخصوص الصورة الشعرية التي تنطوي على اشتعال مفرط للحياة، فيض من الكلمات، سيتأكَّد لحظتها تفصيليا قيام دليل حين الحديث عن لغة ساخنة، بؤرة كبيرة لكلمات جامحة تلتهم الكائن، في إطار طموح شبه مجنون صوب الارتقاء غاية وجود إضافي، أكثر من الوجود.

   أتوخى في هذا التمهيد، تناول مختلف الخطوات التي اهتدت بي كي أنجز ثانية كتابا جديدا حول صور النار. يعكس ذلك واجب صدق فلسفي مادمت قد ارتأيتُ تغيير منهجية أبحاثي عن الخيال. أحيانا، يعني تغيير المنهجية، أن أمنح ذاتي حظّا إضافيا حتى أتعلَّم.

   أحاول التركيز بين صفحات العمل الحالي، على تأملاتي حول الإشكالية النوعية للغة الشعرية.

   سأقدِّم تعليقا سريعا بخصوص أقسام الكتاب.

   تتجه المهمة الأولى، عبر مضاعفة الأمثلة، قصد تبيان معالم سلطة لغوية تشيدها لغة الصور والشعراء، تضمر قوة تجعلها متسامية عن كل نزعة تعليمية. سأحاول اختبار هذا الدليل، لاسيما في الفصل الأول من الكتاب حيث وسمتُ ثلاثة فصول بالعناوين التالية: ”طائر العنقاء”، ”بروميثيوس”، ”أمبادوقليس”.

   إذا اكتفى القارئ بالفصل الأول، ينتابه اقتناع مفاده استحالة احتفاظ الأساطير بزخم حيٍّ ضمن شعرية زمننا، ولم تحظ قط باعتقاد معين، أو تكشف عن تجربة بذاتها، ولا يمكننا بخصوصها العثور على أساس معلوم تستسيغه المقاربة النفسية للحياة اليومية.

   منذ الآن، يجسِّد طائر العنقاء تبعا لكل قوة المصطلح، كائن اللغة الشعرية. إنه فقط ذاك، بل مطلق ذلك. كائن كتب. يولد باستمرار، ينبعث ثانية شعريا، دائما حسب ترصيع جديد. تنطوي شعرية النار، على كمٍّ هائل من طيور العنقاء. عندما نقرأ بمثابرة شعراء النار، نتيقَّن كي نرى بغتة ظهور طائر النار المرموق.

   حين تأمُّل الأساطير والخرافات، التي دُرِست علميا من طرف المختصين في المجال، بوسعنا دائما التساؤل عن مدى استثمار فائدة أبحاثهم من طرف قيمة شعرية ركَّزت اهتمامها على هذه الصورة الأسطورية. لذلك، يظل علماء الآثار، شعراء إلى حدٍّ ما.

   أيضا، يعمل البروميثيوسيون (نسبة إلى بروميثيوس) بين طيات شعرية النار، من خلال الأدب على تحقيق تجديد لانهائي للتاريخ القديم .يخلق الشعراء ثانية المبدع. يصعب تحقيق الموضوعية حين السعي إلى القيام بتحليل نفسي لشخصية البطل. يدفعنا ذلك نحو إبراز ماهو فوق- إنساني مثل بريق للنفسية الغنائية.

   الجدير ملاحظته مدى ندرة تآلف هذه الاندفاعات الموحية بما هو فوق- إنساني التي تتجلى مع البروميثوسية، كي يتأتى لها بلورة عمل غنائي كبير. تتوخى الأفكار، حسب منظور البروميثوسية، استباق الصور. تبتغي النار اختبار وجودها من خلال فعاليتها. تتجلى البروميثوسية مثل عقلانية. مع ذلك، لا تفقد أبدا الصور الكبيرة هيمنتها الأولى.

   يلزم دائما تفسير كيف أنَّ إنسانا، مافوق- إنساني، نصف إله، ابن زيوس أمكنه سرقة النار حينما ذهب للبحث عنها من عَجَلة الشمس. جملة أفكار تختزل حتما هذا التاريخ المذهل: يسرق بروميثيوس النار من السماء بغية منحها إلى البشر. وحده تأويل حالم بالصور، ووضع الصورة المحورية ضمن محيط تأملها الشارد، بوسعه تقريب زوايا تاريخ غير واقعي. نحتاج إلى فيض من الحلم كي ندوِّر مثقابا داخل قالب بهدف أن يصير الثقب الأسود شمسا صغيرة، عَجَلة الشمس. هكذا، تُسرق النار من بوتقة حيث يتلألأ ضياء.

   نار أو ضياء، عمل أو ذكاء، قطبان يتطور بينهما المجال الهائل للبروميثوسية. مجال رحب للغاية بحيث لن تعثر قط شعرية بروميثيوس على وحدتها.

   سأحاول تدبير أمر تبيان عقدة صور وأفكار إبداع النار.

   قد يبدو الفصل الثالث، من الوهلة الأولى، دليلا على الوحدة.

   وحده شخص عاش الوضع، فيلسوف تناول ذلك، يتم استلهامه هنا باعتباره صورة مركزية. لكن صورة أمبادوقليس حول بركان إتنا عظيمة للغاية، يضفي البركان كثيرا من السموِّ على موت الإنسان، قياسا لـ”متفرقات ”للفلسفة، فأضحى موت الفيلسوف أمبادوقليس، واحدا من القصائد الكبيرة للموت.

إذا استرشدتُ، في دراساتي حول الصور، بخطاطة الأفكار، سأحاول جعل أمبادوقليس نقيضا لبروميثيوس. هكذا، يغدو فيلسوف اللاشيء والعدم ورمزا لموت العالم. يصبح أمبادوقليس بروميثيوس الدخان.

   بيد أنه كل شيء يتسم بالايجابية ضمن سيادة الشعرية. لا يمتلك العدم صورا. وحدها الصور الشعرية بوسعها تخليد اللحظة المدمِّرة. تصادف جمالية التدمير في صورة أمبادوقليس، صورة شعرية أساسية: التدمير بين طيات الجمال، بهدف الجمال. تمثِّل جمالية الفعل الأسمى علَّة أساسية للفعل.

   أحاول أساسا بتخصيص عدَّة صفحات لأمبادوقليس مثلما درسه الشاعر هولدرلين، إظهار ضعف القيمة الدرامية مسبقا عندما نقارن المأساة مع التأليه التراجيدي، وكذا الترنيمة النهائية. لقد طمس التحليل النفسي المأساة من خلال شعرية الترنيمة. ”التفسيرات” النفسية بمثابة خسارات للزمان. فقط، شعرية للنار، تستوحي موت أمبادوقليس عند جبل إتنا.

   اقترحتُ في كتابي الأخير”شعرية التأمل الشارد”، جدلية بين تحديدات الأنيموس والأنيما، قصد إنجاز دراسة حول التأمل الشارد .لكني درستُ خاصة، وفق استرخاء مفرط تأملات شاردة مرتبطة بالأنيما .أتعهد خلال الصفحات الأخيرة من الكتاب، كي أهيِّئ عملا آخر ينصبُّ على التأملات الشاردة المرتبطة بالأنيموس.

   لقد كتبتُ الفصول الثلاثة تحت رمزية  طائر العنقاء، بروميثيوس، وكذا أمبادوقليس، ودبَّجتُ فقراتها تحديدا في إطار الأنيموس.

   طائر العنقاء، بروميثيوس، أمبادوقليس، كائنات مهيمِنة. يستعصي تلمُّس قيمتها سوى حين التوجُّه صوب إرادة القوة، ضمن مثالية مطلقة لأنيموس، يرفض  ليونة الأنيما.

   لكن ما يضاعف أكثر خاصية أنيموس هذه الفصول الثلاثة، باعثه إرادتي الشخصية على مستوى تعقُّب الدليل بلا كلل. أريد اختبار الأطروحة التي استحضرتها مرارا خلال صفحات سابقة: القصيدة سيادة للغة.

   يجب على الشعرية الاشتغال بهدف توطيد تلك السيادة، وجعلها مستقلة عن إرغامات تماسك الأفكار،ثم إكراهات الدلالة.

   غير أنَّه، في خضم البرهنة، يتقلَّص مجال حياتنا. نعيش مثل أنيموس خالص وحازم. بالتالي، لن أحيا في وئام مع الذات، حين التخلي عن التأملات الشاردة حول الأنيما وكذا تأملات مختلطة تتبادل بهجتها الأنيموس والأنيما، لحظة إتمامي فصول هذا العمل، الأخير بالتأكيد، الممكن صياغة معطياته حول الخيال الأدبي.

   وضعتُ في الجزء الثاني من هذه الدراسة تحت عنوان ”نار حيّة ”، تتمة فصول صغيرة طبعها الاسترخاء، كي أتناول مرة أخرى تأملات شاردة تكلمت عنها ضمن فقرات مؤلفات سابقة:

   ”إشارة تنتهي معها صياغة هذه المقدمة. لقد صادفت ثانية بين طيات ملف جانبي، تحت عنوان ”نار حيّة”، تصميما، استعاد مرارا تأكيده مصطلح ”حيّة” .ثم ها هي النسخة الأخيرة لهذا التأكيد:

   لقد وضعتُ مختلف الفصول في القسم الثاني من هذه الدراسة تحت عنوان عام ”نار حيّة” .خصصتُ الفصل الأخير قصد تبرير هذا العنوان. تبرير جوهري ما دامت كلمة ”حيّة” واضحة لكن بشكل خاطئ.

   تمثِّل إحدى الأفكار الملازمة للظاهراتية التطبيقية، تصميم ”تجارب اختبرناها”، كوعي أولي .يعكس ما نحياه في ذاته وبذاته، نتأمله، امتياز وعي واضح. لكن هذا التحديد غالبا لوعي بخصوص المعاش يقول أشياء كثيرة وفق كلمة واحدة. تضخِّم بعمق كلمة ”حيّ” تجربة يلزمها مثل  باقي التجارب أن تُصقل حسب تحليلات متواصلة.

   تحت مِداد ريشة فيلسوف معاصر، فكلمة ”حيّ”عموما بمثابة كلمة تُطالب. إنها تُوظَّف  ضد فلاسفة آخرين يتمُّ تقييمهم سريعا إلى حد ما بكونهم لايلامسون ”المعاش” و”الحيّ”، وقد اكتفوا بلعبة التجريدات السهلة؛ ويهجرون” الوجود” كي يهتموا بـ “الفكر”. بالتالي، لاتبدو المسألة بسيطة، مادمتُ أوظِّف كلمة ”حيّ” المشحونة بدلالة وجودية، ويلزمني تفسير ذلك، بدءا من التقديم الحالي.

   كيف نعتقد، حقا، الإمساك بالحياة، كلّ الحياة،الحياة في عمقها، ضمن حادثة عابرة، وكذا نسبية زخم اختيار نفسي استثنائي.يراعي الحيّ سمة العابر في حالة تعذر أن يعيشه ثانية .ثم انعدام إدراج ضمن هذا الحيّ أكبر تجليات التمرُّد مثلما يعبر عنها المعاش المتخيّل؟

   المعاش الإنساني، حقيقة الكائن البشري، معطى كي تتخيّل. ينبغي إثبات بأنَّ شعرية للحياة تعيش الحياة بأن تحياها مرة ثانية، تضخيمها، انتشالها من الطبيعة، ثم بؤس ورتابة هذه الطبيعة، بالانتقال من الواقعة إلى القيمة، وكذا أسمى فعل للقصيدة، عبر التحوُّل من قيمة للذات صوب أخرى تهمُّ أرواحا متجانسة قادرة على التقييم في إطار الشعري.

   علاوة على ذلك، من بوسعه أن يعيش حياته، الطبيعية وفق اتساع مداها وكذا تنوّعها؟ هذه الحياة الطبيعية، تعيش داخلنا ثم بدوننا. إذا عشناها فعليا، لانفصح عن تأثير ذلك جيدا. ثم إذا أوضحناها باقتدار كاف، فلم نحياها قط. الحياة داخلنا ليست موضوعا بوسعنا تناوله خلال أيّ لحظة. إنها ليست وحدة وجود، يمكننا تحديدها ضمن وجود- هنا.

المصدر:

Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu(1988).pp24-57.      

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي