سيرة “ﭘاكيطا في بلاد الموروس”: عن السجن والحب والحياة… (1-2)
محمد عبد الإله المهمة
في طبعة أنيقة، صدرت ضمن “منشورات بيت الحكمة” في تطوان، الترجمة العربية لسيرة “ﭘاكيطا في بلاد الموروس”، مع بعنوان فرعي: “مورو عجوز متذكرا اسبانيا”، وتعد ثالث إصدار سير- ذاتي للكاتب، بعد منجزيه: “في ظلال لالة شافية”، ثم “ولد السوق” (2008)، لأستاذ الأدب الاسباني، إدريس بويسف الركاب لوكي، (بعد إضافته اسم والدته إلى توقيعه الأدبي).
في سياق مسار سردي ماتع، يعرض المؤلف، قصة عشق جمعت بين مغربي لطيف وإسبانية جملية. هو محب للحياة وهي عاشقة للمسرح. وقع ذلك، إبان زمن الحماية الاسبانية في شمال المغرب، وبالضبط في مدينة تطوان. استغرق عرض أطوار القصة، أربعة فصول، هي على التوالي:
– الفصل الأول: باكيطا ومحمد.
– الفصل الثاني: تعلم العيش في “الباريو مالكا”.
– الفصل الثالث: فرنسا والسجن والأعوام الاسبانية.
– الفصل الرابع: العودة.
يتوسل إدريس الركاب الكتابة، مثلما يتوسل الحفار فأسه، إذ يقوم عمله على الحفر بالقلم تنقيبا في الذاكرة، أكثر من التمحور على صياغة وقائع وأحداث جرت ثم انتفت بعد انتفاء زمنها. يقصر اهتمامه بها باعتبارها تجليا تاريخيا لنمط من العيش وطريقة في الحياة، مشروطة بظروف اجتماعية وسياسية، مر بها (محمد) قبل أن يصبح أبا، وقبل أن يفكر في من ستكون أم أبنائه، ولا في أنه سيرتبط يوما بأندلسية واسعة العينين، بمجرد ما رتبت الصدفة اللقاء بينهما
– (..) يا آنسة، اسمحي لي لأن أقول لك إنك أجمل امرأة التقيتها في حياتي (..).
كذلك الظروف الاجتماعية والسياسية التي مرت بها (ﭘاكيطا) قبل أن تفكر في اليوم الذي ستصبح فيه أما، ولا في كونها ستعترف في يوم ما بوصفها لوالدهم.
– (..) ملامحه وديعة، وتبرز في وجهه عينان واسعتان بلون اللوز، وحاجبان أسودان كالسُبج، يبدوان وكأنهما ُخطا من طرف أعظم الرسامين(..).
* شيء من بداية النهاية
عبر معجم لغوي جميل الحبكة،عرض السارد الحوارات الصريحة، وما تخللها من بوح بأقصى درجات البوح، دونما حاجز أو مركب نقص. فرصة تأثث لإدريس بعدما غادر السجن، وصارت له حياة مستقرة، مثل بقية إخوته، يتأمل (ﭘاكيطا) التي أصبحت جدة.
– (..) كان وجهها مرسوم الحدود، ومحجرا عينيها ضخمتين وداخلهما جفنان يبدو أنهما انكمشا بفعل مرور الزمن. تلك العينان الكبيرتان الجميلتان الزرقاوتان، أصبحتا الآن صغيرتين، كانتا تتراجعان كل مرة أكثر نحو محجريهما، وكأنهما تستعدان للاختفاء. هاتان العينان الزرقاوتان اللتان كانتا رائعتين وكبيرتين، أصبحتا تلمعان فقط بفعل الدموع، تذرفها بشكل متقطع (..)
كأننا به، يستغل كل حيز زمني، يصطاد كل لحظة أواه بها نفس المكان، لإطلاق حبل النقاش الودي معها، كأن وعي الباطن يحثه على تعويض بعض ما خلفته بينهما سنوات حجزه خلف الأسوار.
(1) فصل ﭘاكيطا ومحمد
يستحضر السارد، أحاديث إدريس مع أمه بعدما اكتسب من النضج ما يقتضي منه عدم اختزاله حكاية تعرف مغربي مسلم على اسبانية مسيحية وزواجهما، لأن في الحكاية ما يحلي الغموض عن جانب من الوجود الاسباني بالمغرب. فترة مهمة من تاريخ شمال المغرب، ابتداء من تاريخ إعلان الحماية الاسبانية عليه، بناء على معاهدة في هذا الشأن، جرى التوقيع عليها سنة (1913). حدث تزامن معه ميلاد ﭘاكيطا (بيجانوبيا دي ألكيدا) بإقليم مالكا، قبل أن يقرر الوالد “خوصي لوكي كارمونا” حمل أحلامه وأسرته إلى المغرب.
لأجل المهاجرين الإسبان، أنشأت سلطات الحماية مدينة “الاينسلتشي”، لا يجاورهم بها سوى الموروس المؤيدين للمحتل، بضعة من اليهود الأثرياء في حي “الباريو مالكا”، الذي تطلب تشييده هدم مسافة 1100 متر من سور المدينة التاريخي. مسافة تفصل بين باب الرمز وباب التوت. فبعد الرباط فالقصر الكبير والعرائش، استقر المعلم النجار مع أسرته بهذا الحي، في مجمع “الخينيراليسيمو فرانكو” المطل من أحد جوانبه على جبل درسة. كانت (خوصيفا) أم محافظة، ومتشددة في إبداء الطابع المنغلق لأسبان هذه المرحلة. همها، إعداد بناتها للزواج والتفاخر بذلك وبما علمتهم إياه من أشغال البيت. محافظة أمها لم تمنع ﭘاكيطا من الخروج. ففضلا عن أن عملها بمتجر “لاريخا” لبيع الأحذية مكنها من المساعدة في تكاليف حياة العائلة، فإنه أتاح لها فرص اللقاء مع “خوانيطا” زوجة المورو سلام. بفضل ذلك، تأتت لها و هم بساحة الفدان، لحظة اللقاء مع المورو محمد، والوقوع في حبه من النظرة الأولى.
محمد يتيم ووحيد أمه. جشع (الغماري) زوج أمه الجديد، المسنود بعائلة (الرزيني) الغنية والنافدة في البلد، جعلته يستقل بنفسه قبل أن يبلغ السادسة عشرة من عمره.
شارك محمد الشاب، في فيالق “فرانكو الموراس” بين سنوات 1936 و1939، ولما أصيب في إحدى المعارك أحيل إلى بلده، وعمل ترجمانا بإدارة الأهالي، لإتقانه للغة الاسبانية وحديثه بها بنفس سلاسة الإسبان. في هذه الفترة، ناضل في صفوف الكتائب الاسبانية ومنظمات التوثب الوطني والنقابي. يقول السارد في رسم بعض ملامح شخصيته..
– (..) كان الظلم من الأمور التي تجعله يفقد التحكم في نفسه (..)
(2) ثمرة الغضب
كيف تأتى للاعب كرة القدم بنادي (أتليتيك تطوان) السابق أن يصاب بالإفلاس؟ ويخسر العمل؟ ويضيع منه ما ورثه عن والدته؟
كانت وظيفته من جعل أناقته تحظى بإعجاب الإسبانية الجميلة، وقبولها بعقد قرانه عليها رغم موقف أهلها من الزواج من مورو “متوحش”.
لم يغنم إدريس الشيخ من أحاديثه مع أمه، ومن حفره في سيرتها، الوقوف على سبب إفلاس والده فقط، بل استطاع أن يتصور ومعه القارئ، سر عجز إفلاس مالي، عن إنهاء زيجة بناها عشق مشترك. تضحية طرفين، لم يتخذا من اختلاف ديانتيهما وثقافتيهما معيار مقرر في ارتباطهما المصيري. فهي (باكيطا ) تعترف لأبنها أنها (..) انبهرت بهيئته ومظهره:
– لاحظتُ منذ الوهلة الأولى أنه كان في منتهى الأناقة. قميص نظيف وربطة عنق وبذلة وحذاء من النوع الرفيع (..).
وتعتبر المدة بين 1948 و 1954، مرحلة زمنهما الجميل. لم يكن لمحمد أن يفلس، لو أحسن تدبير موارده، ولو عرف كيف يتحكم بغضبه سواء في مواجهة طمع (الغماري) أو ضد حقد رئيسه في العمل.
بأسلوب استرجاعي مكثف تعرضت (باكيطا) لحالهما في ما يشبه المأساة بقولها:
– (..) أذكر أننا، محمد وأنا، كنا نمشي حفاة إلى موضع رمي الأزبال قرب المطار، للبحث عن أشياء مازالت صالحة للاستعمال وأمكن إعادة بيعها، مثل قطع النحاس أو معادن أخرى، أو أشياء كنا نأخذها إلى المنزل (..)
مقابل إيجابية أمه، كان موقف الشيخ إدريس سلبيا اتجاه والده، فبرأيه (..) كان يشعر بما يشبه الذنب بالتعابير الحادة والقاسية، التي كان يستعملها بخصوص سلوك محمد، أبيه (..)
(3) التفاتة المقيم العام
تهيب (باكيطا) من مجرد ذكر اسم فرانكو. مجرد طمر اسمه يصيبها بالفزع ويريع روحها الشفيفة، فتتصور نفسها في أقصى درجات الألم. حالة نفسية، ليس من المستبعد أن تشمل غيرها من الاسبانيين والاسبانيات، بسبب السياسات التي انتهجتها السلطات العسكرية. لهذا، وكلما وجدت الفرصة مواتية لذلك، رددت حكمتها المأثورة: (.. الفم المغلق لا يدخله الذباب)، بغاية بثها في نفوس أبنائها وبناتها. لن تتحمل أبدا رؤية نفسها في سجن، أو تصورها تقاد نحو ساحة (طوريطا) لإعدامها. تصرح: – (..) لا يمكنني أن أنسى أنه في يوليوز 1963، ألقوا القبض على عدد من رجال (الباريو) شيبا وشبابا، وأخذوهم إلى (طوريطا) ودون تردد أعدموهم رميا بالرصاص (..)
لم يكن الاستسلام من طبيعة باكيطا، لأنها تؤمن بأن (..) الله يضغط، لكنه لا يخنق (..) فما أن شرع إفلاس الزوج يتهدد حياة أبناها بالضياع، حتى بادرت إلى تحدي موكب المقيم العام الاسباني (رافائيل غارسيا فالينيو) حيث اعترضت طريقه، وقدمت له طلب مساعدة. لم لم
خلاصة: أفلس المورو محمد، غير أن ما وقعت فيه عائلته من عوز، لم يكن بداية نهاية، بيت العائلة الذي شيدته معه هذه الاسبانية. إفلاس مالي، نذير صراع قاس، بين تهوره (هو) وتبصر (باكيطا)، أي بين قوة حكمتها واستسلامه أمام نزواته. تضاد نظرتين، تكشْفت في سياقه جملة قضايا تسربلت عبر الحكاية، مثلما تتناثر حبات الرمل بين أصابع قبضة اليد. كان صمودها ثمن تحقيق حلمها، في التحاق إدريس وإخوته وإخوانه بالمدرسة. التحاق ما كان له أن يتحقق لولا المقابل الذي استفاد منه السي الإدريسي.
تعلم العيش في الباريو مالكا
يكشف السارد، سر التحول الذي عرفته عائلة محمد وباكيطا ابتداء من سنة 1959، لما شجع نظام فرنكو مواطنيه على الصعود شمالا من الجنوب نحو إسبانيا. فمن الضاحية، انتقلت العائلة إلى مدينة تطوان، وبدل النوالة، سيقيمون بشقة الجدة (خوصيفا جاماس أرخونا) بحي (الباريو مالكا). صار بالإمكان الإقامة بالغرف النظيفة، أخذ الماء من الصنبور، الإضاءة ليلا بالكهرباء، والأهم من كل ذلك القرب من المدارس. بدت المدينة رحبة فسيحة ، فمارسوا هناك، بعيدا عن أعين محمد وباكيطا، أنواعا من اللعب، واكتشفوا بعض ما يقوم به الأطفال هناك من حماقات، خاصة (في جامع المرزاق)، تعلموا تجنب الوقوع في المحضور (التغزل بالصبيان..)، كما هي حال (المدعو إدريس الأعور)، التي لم يستطع عنها رجوعا. من ناحية أخرى، استطاعوا تدبير أمور حياتهم اليومية بإشراف من أمينة التي لم تتجاوز وقتها ربيعها الخامس عشر، وبرعاية، من إدريس الذي كان وقتها على مشارف سن المراهقة. يقول السارد: (..) كانت أمه مع زوجها في مرتفعات “بوحمد” لا تستطيع أن ترى ما يفعله ابنها، أحسنا كان أم سيئا. ومع ذلك كان يتذكر نصائحها الجيدة وتوصياتها وبالأساس سلوكها، لأن باكيطا كانت امرأة مستقيمة وصادقة في ما تقول وما تفعل (..) وهذا كان هو الشيء الذي تمثله أبناؤها و بناتها بدون وعي وبلا انقطاع ، حقائق انغرست في أفكارهم وتصرفاتهم (..).