إشكالية تنزيل “المفهوم الجديد للسلطة” بالمغرب

إشكالية تنزيل “المفهوم الجديد للسلطة” بالمغرب

 محمد نوبير 

       تسود اليوم حساسية أصبحت مفرطة بشكل غير مستساغ، تتمثل في عدم تقبل النقد والانتقاد الموجه إلى الأنساق والتشكيلات النخبوية، إلى درجة أضحت فيها هذه التشكيلات متشابهة ومتحدة في بوتقة واحدة وإن تسربلت بمظاهر التعددية إلا أنها تعددية مضللة وخادعة ومفضوحة، والحديث هنا، للأسف، يكاد يشمل المشهد بمجمله وبرمته، بما يحتويه من تسميات وعناوين لأحزاب ونقابات وهيئات مجتمع مدني.

   هي الحساسية المفضوحة نفسها، وقد ابتلي بها خطاب الإدارة الترابية، التي لا تقبل أي انتقاد، إذ تعتبر نفسها تمتلك مشروعية نابعة من “مشروعية الدولة”، بينما هي في حقيقتها ليست إلا إدارة مفتقدة للبعد السياسي، وتتميز بعقلية إدارية متخلفة محنطة وموروثة عن عهود الظلام، لم تدرك حتى مستوى “الدولة الوطنية” بمفهوم القرن الثامن عشر.

   من المعروف أن أول دور أساسي للأحزاب السياسية هو دور محلي، على مستوى الجماعات القروية التي تحتاج لتأطير وتنمية سياسية، ولتوفير خطط ومقترحات تدعم البنية الإدارية الضعيفة، تستجيب لمتطلبات ساكنة تعيش الهشاشة.  وما فك العزلة عن “المغرب غير النافع” سوى بداية العملية الديمقراطية وليس منتهاها…

   إن عقلية السياسي مختلفة تمام الاختلاف عن عقلية الموظف الإداري، ومن أهم خاصياتها احترام التراتبية الإدارية، بدون أي إبداع، وتنفيذ الأوامر، وتفويض المسؤولية القانونية والأخلاقية للسلم الإداري. بعكس من ذالك، نجد العقل السياسي هو عقل لا يمكن إلا أن يكون حرا يتحمل كامل المسؤولية المعنوية والأخلاقية لكل ما يقوم به، وعليه أن يحسب عواقب وانعكاسات قراراته على المدى البعيد قبل القريب، وينظر إلى كل مواطن كيف ما كان مستواه، (الثقافي والتعليمي والاجتماعي والاقتصادي)، كونه لبنة أساسية في النسيج الوطني وفي تماسك الجدار الذي يشكل الجبهة الداخلية الوطنية، خصوصا مع ظهور وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أصبح كل مواطن فاعلا سياسيا، وأصبحت مقاربة الجدار متجاوزة أمام مرونة الانتماء والعلاقات الاجتماعية الواسعة، عبر العديد من الشبكات، بحيث أضعف بشكل كبير الضبط الاجتماعي الذي كان يشكله الانتماء لتراب بلد ما، طائفة، جماعة أو مجموعة ما. وأصبح المواطن هو تلك اللبنة التي يمكنها أن تغادر الجدار بسهولة، وتسبب في انهياره بدون سابق إنذار.

   إن فشل الإدارة الترابية في تفعيل “المفهوم الجديد للسلطة” واضح وضوح الشمس. وربما تراجعت وزارة الداخلية حتى عما كانت عليه في العهد السابق، لما كان يفكر وينظر ويخطط لها أساتذة جامعيون كبار، من أمثال موريس دوفرجيه، وميشيل روسي، وكثيرون غيرهم، جلهم فكروا في اللامركزية واللاتمركز وتنمية الجماعات المحلية، وإن كان ذلك بعقلية أمنية

   المفهوم الجديد للسلطة يمكن اعتباره مقاربة تغيير راديكالية، كانت ستحول المواطن من خادم للسلطة إلى مركز الاهتمام، بحيث تغذو أول أولويات الإدارة هي خدمة المواطن، وتصبح مصالحه ورضاه هي بوصلتها. لكن للأسف كان التحالف المصالحي والشبكات المستفيدة، أو ما سماه الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي بـ “الحزب السري”، أقوى من إرادة التغيير التي حملها العهد الجديد في بدايته. وكانت الخطوة الأولى للمركب المصالحي هي تدمير حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحزب المفترض أنه حمل هموم وآمال الجماهير والطبقات المستضعفة في قلب مشروعه المجتمعي والسياسي.

   كما يجب ربط فشل المشروع الجديد بـ”ثقافة الغنيمة” و”الخطفة” و”اللهطة”، الموروثة عن نمط إنتاج الجني والرعي القبلي، والتي تكرسها البنية الحالية للإدارة الترابية المتحالفة مع الأعيان وكبار الملاكين والمشعوذين ومروجي الخرافات بكل أنواعهم، وبباقي المكونات النقابية والسياسية والاجتماعية...

   هذا “المركب” يسعى للمحافظة على امتيازات مكوناته اللاتاريخية، معيقا تقدم المغرب، محدثا شرخا عميقا في الجبهة الداخلية، ومدمرا لحس المواطنة والانتماء. والأساسي بالنسبة له هو تكريس الوضع والمحافظة عليه كما هو، أمام عالم يتقدم بسرعة ويواجه أخطارا جديدة ومتجددة لا تخطر بالبال ولم تكن في الحسبان.

   إن من أهم ما يميز هذه البنية هي إشكالية المتعاونين (collaborateur)، الذين لم تعرف لهم سابقة إلا خلال الاحتلال النازي في فرنسا. من أهم مميزاتهم أنهم ليسوا موظفين ولا ينتمون إلى “قانون إطار” خاص بهم، وبجانب عملهم الاستخباري يمكنهم القيام بالكثير من الأعمال الحرة، بكل أنواعها، كالوساطة مع الإدارة، والسمسرة في العقار وفي كل المواد، وأصبح دورهم وتأثيرهم يتعاظم، خصوصا أن جل أجهزة الاستخبارات تعتمد عليهم. هكذا راكم بعضهم ثروات كبيرة، خصوصا في العالم القروي، وأصبحوا في قلب “الحزب السري”، وفي إدارة العمليات الانتخابية…

   الحصيلة المرة، أنه بعد سبعين سنة من الاستقلال، جل مدننا تراجعت عما كانت عليه مع المستعمر، فهي بدون مراحيض عمومية، وعاجزة عن جمع أزبالها، وكثير من مناطقنا الجبلية معزولة بالثلوج، وقرانا بطرق غير معبدة، ملوثة بروث الحيوانات وبالأزبال والأتربة، بدون أشجار، من دون أطباء، ومن دون أطباء بيطريين. بأسواق لا تحترم شروط الصحة والنظافة، وتفتقر إلى بنيات تحتية ثقافية ورياضية حقيقية. أما التراث الثقافي التاريخي المادي والرمزي المحلي، فهو عرضة للإهمال وللضياع، بل حتى بعض البنيات التحتية المهمة، الموروثة عن عهد الاستعمار، تم إهمالها وبقيت عرضة للضياع والاندثار، مثل الإرشاد الفلاحي (البيزانا paysanat)، ومنشآت صحية تاريخية، مثل مشفى بنصميم ومشفى بن احمد

   ختاما، فإن من العوامل التنظيمية لفشل تنزيل “المفهوم الجديد للسلطة”، يمكن ذكر غياب مقاربة الجودة، ذلك أنه لا يتم التأكد من فعالية ونجاعة الخدمات المقدمة من طرف كافة الإدارات العمومية، المركزية والمحلية، وذلك بالقياس الملموس والدوري لمستوى رضا المواطنين، بواسطة استطلاعات الرأي، وغير ذلك من الوسائل التقنية. كان يمكن للانتخابات الجماعية أن تلعب هذا الدور، لو كانت لرؤساء الجماعات سلطة حقيقية مستقلة وصفة ضبطية، كما هو جارٍ به العمل في كثير من الدول الديمقراطية، بدل وصاية الإدارة الترابية، التي تلقي دائما باللائمة وبالفشل على المجالس المنتخبة، رغم أنها تساهم في “انتخابهم” بشتى الوسائل التقنية وغيرها وهم في الأخير جزء من ذلك “المركب المصالحي”.

Visited 70 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد نوبير

إطار مكون في الهندسة الصناعية