التاء المتحركة.. أو الهجرة بصيغة المؤنث
محمد اليوسفي
في لسان العرب، لا تأتي تاء التأنيث إلا ساكنة، على نحو: صبرت، انتظرت واستسلمت. في المقابل ترد الحركة ملازمة دائما للمذكر والذكورة. وكأن اللغة بدورها تمسك بالأنثى وتمنعها من الرحيل.
وإذا جاز هذا في اللغة، ففي عوالم الهجرة الأمر مختلف. فنراها أيضا قد غادرت وهاجرت ثم أعالت. السكون يتحول إذن إلى حركة..
لا يتحدث كثيرا عن هجرة النساء، إذ لا يجوز أن تسافر المرأة من دون محرم.. الهجرة المؤنثة مسكوت عنها وملعونة.. لا تطرقها السوسيولوحيا إلا قليلا ولم يُفْتِ فيها الدين. غير أنها بلغة الاقتصاد والسياسة مباحة ومطلوبة..
تهاجر التاء المتحركة محملة بالطقوس والقيم، حاملة للرموز والدلالات..ناقلة للمعنى. ولما كانت الهجرة إعادة صياغة للمجال، فليس غير النساء من يعيد كتابة المجال، ليس غيرهن من ينقل المدلولات وينحتها؟
الهجرة المؤنثة حكايات إنسانية ينقصها السارد… تفاصيل تحتاج للبوح… للحديث بصيغة المؤنث… نساء مغربيات اقتحمن تجربة الهجرة بصمت.. يحملن معهن جروحا في الذاكرة وحنينا للوطن.. وشوقا لدفء أم حاضنة. تختلف التفاصيل وتبقى الحكاية واحدة: هجرة النساء، قصة أخرى للوجع…
هي ثلاث مشاهد وثلاث حكايات لهجرة التاء المتحركة… تاء تقاوم السكون بصمت وصبر وجلد.
المشهد الأول: أمينة “الكاش” بنت سيدي بنور
خبرت الهجرة داخل المغرب وهي فتاة صغيرة، طفلة من “سيدي بنور”، حرمت من الدراسة ومن اللعب كي تعمل خادمة لإحدى الأسر الثرية في مدينة الدار البيضاء… تشتغل و”تشقى” نهارا لتغتصب وينهش لحمها ليلا: “لا حنين لا رحيم” تحكي أمينة… بعد أن طردتها مشغلتها وهي حامل، انتقلت من “دار لدار”، تحمل في حضنها وليدها وهموم والديها.. من رحم معاناتها تنفتح أمامها طريق أخرى للهجرة.. هذه المرة خارج المغرب.. بعد أن ساق إليها القدر زوجا لا يسأل عن التفاصيل الصغيرة من حياتها.
أمينة اليوم تقيم بفرنسا، تشتغل في مهنة النظافة، المهنة التي تتقنها.. لها حساب بنكي وسيارة، وبيت يأويها… ولا زالت أمينة إلى اليوم رغم كل معاناتها، تشتغل وتكدح لتعيل أمها وإخوتها في سيدي بنور..
المشهد الثاني: سهام “البوكوصة” بنت كازا
فتاة شقراء فاتنة من حي سيدي مومن بالدار البيضاء، قادها “الشات” إلى رجل سويسري يتجاوز السبعين سنة.. أحب جسدها الجميل وعشقت حسابه البنكي وأوراق الإقامة…
– إذا وصلنا مطار جنيف أخبرني من فضلك كيف أخرج من المطار.. ” ما نعستش هاد الليلة، ما عمرني ركبت فطيارة” ثم نامت..
أنا الذي لا يخشى السفر في الطائرة، لا أعرف أين ستحط أقدار هذه الجميلة؟!
خارج المطار، كان شيخ ينتظرها.. ركبت معه سيارة المرسيدس ثم غادرا.
المشهد الثالث: إلهام “الإماراتية”: بنت فاس
حطت طائرة قادمة من دبي في مطار الدار البيضاء، على متنها فتيات بلباس خليجي أسود، كأنهن عائدات للتو من مناسك العمرة.. أو كأنهن بعثة دبلوماسية مكتملة.. في بهو المطار تتجمع عائلات لا يتوقف صخبها.. أسر تنتظر بناتها المظفرات.. ثم يكبر الصراخ وتتطاير القبل.. وتخرج إلهام مسرعة إلى أحضان أسرتها… وقبل أن يكتمل العناق تمد يدها إلى حقيبتها لتوزع على الجميع ما تحمله من هدايا..
هن نساء من واقع الهجرة، نساء حقيقيات من لحم ودم، يحملن تاريخا للقهر والمعاناة، نساء تشتغل وتكدح لتعيل أسرا وعائلات في المغرب، نساء لا يراهن أحد و لا ينصت إليهن أبدا.
Visited 300 times, 1 visit(s) today