حكايات المقاهي: المقهى البلدي في براغ.. من كافكا إلى المهدي الجواهري (5)
جورج الراسي
ليس هناك سجل يروي تاريخ أوروبا كما يرويه تاريخ المقاهي، مقاهي براغ لا تشذ عن القاعدة، لا بل ربما كانت من الأكثر تعبيرا عنه والتصاقا به، وهي تضاهي بذلك مقاهي باريس وفيينا وزوريخ… هذا ما أكده الكاتب George Steiner في كتابه Une certaine idée de l’ Europe
ربما كانت مقاهي أوروبا الشرقية غير معروفة بالقدر الكافي مقارنة مع زميلاتها في غرب أوروبا، لكنها لم تكن أقل حيوية وإشعاعا، تغلي بالأدباء والفنانين والسياسيين، تحتل مقاهي براغ في هذا المجال مكانة مرموقة…
في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت الأسبقية لمقهى يدعى (Arco تحول اليوم إلى مطعم)، طالما ازدحم بكتاب اللغة الألمانية. ولعدة مقاهٍ أخرى أشبه ما تكون بصالونات الاستقبال، كقهوة اللوفر Café Louvre التي تميزت بجدرانها الوردية، وقهوة سافوا Café Savoy ذات القاعات الواسعة، أو قهوة سلافيا Café Slavia التي استلهمت اسمها من اسم الأمة السلافية، والتي قامت على ضفاف نهر Vitava على مقربة من المسرح الوطني، وتحولت مع الوقت إلى وكر لمعارضي النظام الشيوعي…
أما الفترة الواقعة بين عامي 1905 و 1912، في أوائل القرن العشرين، فقد شهدت بناء “البيت البلدي” والمقهى الملحق به، بمبادرة من بلدية براغ ووفق تصاميم وضعها أشهر مهندسين في ذلك الوقت Antonin Balsanek و Osvald Polivka.
ولم يمض وقت طويل حتى أعلن عن ولادة جمهورية تشيكوسلوفاكيا المستقلة من على بلكون قاعة رئيس البلدية. كان ذلك في 28 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1918، وقد نصبت عند مدخل القاعة لوحة من البرونز سميت “روح التاريخ “، لإحياء ولادة الجمهورية.
مقهى على صورة الأمة
لقد أريد لمقهى “البيت البلدي” أن يكون سجلا لتاريخ الأمة السلافية، مستمدا هندسته ورموزه من الفترة الذهبية لبراغ بين عامي 1895 و 1928، حين كان هذا المقهى – البيت يغلي بالحركة الثقافية والاجتماعية، التي عرفتها العاصمة التشيكية على مدى ثلاثين عاما، وعلى وجه التحديد في ميادين الأدب والرسم والهندسةالمعمارية، بالتوازي مع ما كانت تعيشه باريس من نهضة فكرية وفنية.
وكما يستدل على ذلك من اسمه، فإن ذلك المقهى كان جزءا من مجمع “البيت البلدي” الضخم، الذي كان الهدف من وراء بنائه إذكاء الروح الوطنية، وإحياء مشاعر العزة والفخر بتاريخ البلاد.
حتى المكان الذي اختير لتشييد هذا البناء، لم يكن وليد الصدفة. ففي القرون الوسطى، وقبل أن ينقل الملك Vladislas الرابع مركز ملكه إلى “قصر براغ” عام 1484، كان المكان مقرا لملوك الـ Bohêm . ومنذ ذلك التاريخ كانت تبدأ من تلك النقطة مراسم تتويج الملك التي كانت تتخذ من “الطريق الملكي” مسارا لها باتجاه قصر وكاتدرائية Saint – Guy ، التي تقع على الجهة الأخرى لجسر Charles والتي تعتبر أبرز معالم براغ..
لقد أريد لهذا المبنى أن يكون أبرز معالم “الفن الجديد” في أوروبا، قد وقع الخيار على ساحة “الجمهورية” لتكون مقرا له، بين المدينتين القديمة والجديدة قرب ما يعرف ببرج Poudrière الذي يذكر بحصون القرون الوسطى في براغ..
وبالإضافة إلى المقهى الشهير والمطعم المتواجدين في الطابق الأرضي، كان ” البيت البلدي ” يشتمل أيضا على بار وقاعة للرقص في الطابق السفلي، بالإضافة إلى قاعة كبيرة للحفلات الموسيقية وصالونات مبهرة في الطابق العلوي، وقد عرفت تلك المرحلة منافسة سياسية و اجتماعية وثقافية بين التشيك والألمان، إذ كان التشيك يريدون الخروج من عباءة ألمانيا ووصاية فيننا.
من الانقلاب الشيوعي إلى ” ثورة الحرير“.. فكلاف هافل رئيسا
حدثان تاريخيان عاشهما ذلك المقهى:
– الأول، كان الانقلاب الشيوعي عام 194. ومما سمح بالحفاظ عليه، الشهرة العالمية التي حظيت بها قاعة Smetana، حيث كانت تجري الحفلات الموسيقية والسهرات الفنية. وظلت الموسيقى إحدى أبرز قلاع مقاومة الثقافة الوطنية للسيطرة الشيوعية.
– أما الثاني، فكان العودة إلى النظام الديموقراطي بعد سقوط حائط برلين. فخلف جدران ذلك المقهى، وخلال شهري نوفمبر / تشرين الثاني وديسمبر / كانون الأول عام 1989، جرت اللقاءات الرسمية بين الحكومة الشيوعية والمعارضين المنضوين تحت راية “المنتدى المدني” Forum Civique الذي كان على رأسه Vaclav Havel، الشاعر المنشق، الذي انتخب رئيسا للجمهورية في 29 ديسمبر / كانون الأول 1989، دون أن يطلب ذلك…
من الواضح أنه لا ينتمي إلى ثقافتنا…
تجدر الإشارة إلى أن Havel كان قد بدأ نضاله السياسي منذ خمسينيات القرن المنصرم، في مقهى متواضع سبقت الإشارة إليه، هو مقهى Slavia ، الذي كان موئل جميع المنشقين، والذي أريد من اسمه إحياء قيم الأمة السلافية.
بصمات فرانز كافكا
أبرز وجوه براغ في تلك المرحلة الكاتب Franz Kafka، الذي يجري الاحتفال هذه الأيام بالذكرى المئة لوفاته (1883 – 1924 )، وكان يتكلم ويكتب باللغة الألمانية، وقد ركز في أعماله على انتقاد البيروقراطية الشمولية، بخاصة وأنه عايش مجالات قلما يتطرق إليها الكتاب، كقطاع التأمين (حيث عمل)، وقانون العمل… وقد عرف عنه شغفه ببعض الكتاب أمثال غوستاف فلوبير (Gustave Flaubert (1821 – 1880، فيما أعرب كتاب كثيرون عن إعجابهم به، أمثال Jorge Luis Borges و Milan Kundera…
كان Kafka صاحب كتاب “التحول” – La Métamorphose – ينتمي إلى جيل الكتاب الألمان، الذين اتخذوا من أقدم مقاهي براغ Arco، التي سبق ذكرها، والتي تعود إلى أوائل القرن العشرين ( وقد تحولت اليوم إلى مطعم)، مقرا للقاءاتهم وحواراتهم…
ومنذ العام 1994، وحتى عام 1997، شهد “البيت البلدي” أكبر عملية ترميم وتجديد في تاريخ الجمهورية التشيكية..
ولا ننسى أن جمهورية تشيكوسلوفاكيا تحتل موقعا متميزا في الذاكرة العربية، لأنها كانت من أوائل الدول التي أرسلت أولى شحنات الأسلحة إلى الدول العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، و ليتها أكملت معروفها وأرسلت شيئا من إبداعاتها الفكرية والفنية والأدبية..
وظلت براغ حتى وقت قريب، مقصدا للأدباء والمثقفين العرب، ربما لسحر مقاهيها…
تحضرني ذكرى طريفة مع شيخ الشعراء العرب، محمد مهدي الجواهري. فقد كنت أتهادى في شارع الحمرا في بيروت ذات أمسية، حتى أقع عليه وجها لوجه، وكنت قد زرته قبل ذلك في منزله في بغداد، برفقة الصديق الشاعر المرحوم ألفريد سمعان، وأهداني أحد دواوينه.
– أبو فرات ماذا تفعل هنا وحدك، بادرته بالقول…
– باشر مسافر براغ… (كان في بيروت لليلة واحدة في طريقه إلى براغ)…
دعوته لشرب فنجان قهوة في مقهى “الهورس شو”، حيث انزوينا في أحد الأطراف، قبل أن يتكاثر حولنا الحشريون، بخاصة وأنك لا تستطيع ان تخطئ قبعته الشهيرة…
وهنا لا أستطيع أن انسى تلك المفاجأة… فقد أخرج من جيب سترته الداخلي قصاصة من إحدى الصحف، عليها صورة امرأة بالبكيني وبالأبيض والأسود… كم كان سعيدا بها كطفل اشتريت له لعبة يحلم بها…
آه يا أبا فرات لو كنت بيننا اليوم وزرت احد المسابح لكتبت المعلقات…
عرفت بعد ذلك أنه متيم ببراغ، لأنه “يعاقر” أحد مقاهيها حيث تدلله إحدى النادلات…