التزوير في التاريخ الروسي والحرب العالمية (1-4)

التزوير في التاريخ الروسي والحرب العالمية (1-4)

مقولة أن الشتاء هو سبب انتصار الروس وأن إنزال النورماندي هو سبب هزيمة ألمانيا وانتصار الحلفاء

تخرصات تاريخية وبدع تضليلية ببعد أيديولوجي ماكر 

د. زياد منصور

       لا شك في أن انتصار السوفيات في الحرب الوطنية العظمى على النازية 1941-1945، وتحرير أوروبا من هتلر وأتباعه، أصبح انتصارًا لا شك فيه للجيش الأحمر والشعب السوفييتي، وهزيمة للقوات المسلحة لألمانيا وإيطاليا واليابان، وكذلك أنصارهم وحلفاؤهم، بل هو نجاح للقوى الموحدة لمعارضي أفكار العنصرية والإبادة الجماعية للبشرية على أساس عرقي وقومي.

    إن الاعتراف بالدور القيادي الذي لعبه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في الانتصار على الفاشية والثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوفييتي ثمناً لذلك، أدى إلى توحيد الناس من خلفيات وتجارب حياتية ووجهات نظر مختلفة لعقود من الزمن.

    ولكن منذ أواخر الثمانينيات، بدأت تُسمع أصوات تزعم أن النصر في الحرب الوطنية العظمى كان مكلفًا للغاية. وأن ستالين نفسه خطط لضرب ألمانيا، لكن هتلر سبقه إلى ذلك؛ وأنه دون المساعدة الغربية لم يكن الاتحاد السوفياتي ليتمكن من هزيمة العدو؛ أخيرًا، يتم الدفع بمقولة أن المهزومين في الحرب وخاصة الألمان واليابانيين، يعيشون حياة أفضل من المنتصرين.

تزوير التاريخ:

    ومن الضروري الاعتماد على الحقائق والتمييز بوضوح بين أفكار المؤرخين والدعاة، وكذلك كل من يهتم بتاريخ الحرب الوطنية العظمى حول مختلف جوانب أحداث تلك السنوات، من الرغبة في تشويه سمعة هذه الأحداث، إلى منحها أبعادًا مختلفة تمامًا، على سبيل المثال: “لا معنى لهذه الخسائر البشرية الفادحة التي لا توازي الخسائر المادية، بل لا مبرر لها “، “لقد سحق الألمان الجنود السوفيات في أكثر من موقعة، مما يعني أن الجيش السوفيتي كان سيئًا” وغيرها من عمليات التضليل المشابهة.

    ولعله من الملِّح بشكل خاص تسليط الضوء على التشويه المتعمد للأحداث، حيث يهدف الفاعلون إلى تحقيق مكاسب أيديولوجية أو مادية من خلال مثل هذه الأفعال. يُعرف هذا التصرف بالمعنى الحرفي بتزوير الحقائق، وفي سياقنا هنا، نتحدث عن تزييف التاريخ، أي إعادة كتابة الماضي لتناسب الأهداف السياسية أو الشخصية للمزور.”

    عند الحديث عن تزوير تاريخ الحرب الوطنية العظمى، ينبغي للمرء أن يفهم بوضوح:

من يخلق هذه المعلومات المزيفة ولمصلحة من؟

ما هي المحطات الرئيسية من تاريخ الحرب التي يتم تزويرها؟

ما هي الأهداف التي يسعى إليها مطورو المواد المصممة لتشويه التاريخ؟

ما الذي يمكن فعله لمواجهة محاولات التزوير.

في مجتمع المعلومات الحديث يتحدثون أيضًا عن شن حرب معلومات. يعد تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى مثالاً على إنشاء أجندة معلوماتية تعتمد على حجج وحقائق غير موثوقة. غالبًا ما تكون مبتدعة ومختلقة ومصطنعة بطبيعتها، حيث يلعب المؤرخون الغربيون دورًا مهمًا في ذلك.

بداية تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى:

    يُعتقد تقليديًا أن تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى بدأ خلال الحرب الباردة. ولكن على عكس هذا التوجه السائد، يمكننا تتبع أصول التزوير إلى الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي وإنجلترا والولايات المتحدة حلفاء في التحالف المناهض لهتلر. مع دخول القوات السوفياتية إلى أراضي أوروبا الوسطى والشرقية في النصف الثاني من عام 1944، أصبحت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى أكثر تعقيدًا.

    أصدر رئيس الوزراء ونستون تشرشل تعليماته للجيش بوضع خطط لنزاع مسلح بين الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة ضد قوات الجيش الأحمر. كان الهدف من الصراع هو طرد الأخيرة بالقوة من بولندا وتنظيم الدفاع عن الجزر البريطانية بعد انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا الغربية. هذه العملية كانت تسمى بكود رمزي “ما لا يمكن تصوره”. وأوضح تشرشل خطته بالقول إن «روسيا السوفياتية أصبحت تشكل تهديداً قاتلا للعالم الحر». كان من المفترض أن تقف الوحدات العسكرية المكونة من أسرى الحرب الألمان السابقين إلى جانب البريطانيين. فعليًّا فإن تقارير الجيش البريطاني التي خلصت إلى استنتاجات مفادها بأنَّه لا يوجد ضمانات للنصر على الاتحاد السوفياتي هو الذي أوقف الاستعدادات للحرب العالمية الثالثة.

    يمكن للأسباب نفسها أن تفسر الإجراءات اللاحقة التي اتخذتها الدول والمنظمات الأخرى. من الأسهل بكثير جعل الاتحاد السوفياتي عدوًا وتبرير الأعمال العسكرية ضده، إذا قمت أولاً بتشويه صورته وتشويه سمعته في إطار “قراءة جديدة” لنتائج الحرب العالمية الثانية. ولا شك أن هذا النهج يستمر حتى يومنا هذا، عندما حل الاتحاد الروسي محل الاتحاد السوفياتي، وعندما يتم استخدام صورة الاتحاد السوفياتي والشخصيات السوفياتية لتشويه سمعة النظام السياسي والقادة الحاليين لروسيا الحديثة.

    تجدر الإشارة إلى أن تزوير أحداث 1939-1945. له تاريخ طويل وتظهر بشكل دوري أمثلة جديدة على عمليات تشويه الماضي. وهذا ملحوظ بشكل خاص في الذكرى السنوية الكبرى للحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى. بالإضافة إلى ذلك، يصبح المزورون أكثر نشاطًا خلال أحداث سياسية معينة. على سبيل المثال، زاد عدد المنشورات المتعلقة بسياسة الاحتلال التي يتبعها الاتحاد السوفياتي بشكل حاد خلال ربيع القرم عام 2014، ويستمر اليوم بشأن احتفالات إنزال الحلفاء في النورماندي عام 2024، وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا.

    ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الماضي، يمكننا أن نرى أن أصول تزوير العديد من الحقائق التاريخية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى، وكذلك بالفترة بأكملها من التاريخ السوفياتي، تعود إلى عصر البيريسترويكا والتسعينيات في السنوات اللاحقة. ولا تزال العديد من الأساطير قائمة، منها مثلاً: التأكيد على أن الثورة البولشفية قامت ونُفِّذت بأموال ألمانية حصراً، إلى التصريحات التي تقول إن ستالين هو الذي قرر الهجوم أولاً، وقد تمكن هتلر من استباقه … إلخ..

الاتجاهات الرئيسية لتزوير أحداث 1939-1945:

    يمكن تحديد عدة مجالات رئيسية لتزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى، ومن بينها:

 – مشاركة الجيش الأحمر في العمليات العسكرية على الأراضي البولندية في سبتمبر- أيلول 1939.

– أحداث 1939-1940 في دول البلطيق.

– المساواة بين النظامين السوفياتي والنازي، واعتبارهما نظامان توتاليتاريين بأنهما شموليان بنفس القدر ومقارنتهما بالديمقراطيات الغربية.

– استعدادات ستالين لحرب وقائية ضد هتلر.

– التقليل من شأن قوات ألمانيا النازية وحلفائها التي حاربها الجيش الأحمر.

– استخدام مفارز قتل المتخاذلين في القتال (المفارز العقابية)، ووصفها أنها السبب الوحيد في ثبات الجنود السوفيات في مواقعهم وتنظيم الهجمات.

– المبالغة في خسائر الجيش الأحمر وتعطش القيادة السوفياتية للدماء تجاه جنودها.

– المبالغة في دعم المحتلين من قبل المواطنين السوفيات في الأراضي التي استولى عليها الأعداء، فضلاً عن عدد قوات الشرطة والوحدات الوطنية التي دعمت ألمانيا.

– رفض الاعتراف بالتشكيلات الأوكرانية والبلطيقية وغيرها من التشكيلات القومية على أنها نازية، وقادتها وملهميها الأيديولوجيين (على سبيل المثال، ستيبان بانديرا) كمجرمي حرب.

– التقليل من دور الثوار والأنصار السوفيات في القتال ضد المحتلين. المبالغة في دور الحركات القومية مثل منظمة القوميين الأوكران، والحركة الأوكرانية القومية OUN-UPA.

– الإيحاء بأن انتصارات ونجاحات الجيش الأحمر وهزائم خصومه تعود إلى الظروف المناخية: الصقيع وتساقط الثلوج وعدم القدرة على السير.

– الإيحاء والترويج لفكرة أن نجاحات الجيش الأحمر وهزائم أعدائه تعود إلى حجم مساعدة الحلفاء (الإعارة والتأجير-ليز لاند).

– إسناد الدور الحاسم في انتصار الحرب العالمية الثانية في أوروبا إلى الجبهة الثانية.

– إسناد الدور الحاسم في انتصار الحرب العالمية الثانية على نطاق عالمي إلى مسرحي الأحداث في المحيط الهادئ وشمال أفريقيا، وليس في شرق ووسط أوروبا والاتحاد السوفياتي.

أمثلة على تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى:

    أصبحت أحداث 1939-1940 أرضًا خصبة للتزييف، في أوروبا الشرقية ودول البلطيق، مما أدى إلى ضم أوكرانيا الغربية، وغرب بيلاروسيا، وبيسارابيا، وبوكوفينا، وجمهوريات البلطيق إلى الاتحاد السوفياتي. على سبيل المثال، قام مؤلفو كتب التاريخ المدرسية في لاتفيا في القرن العشرين، والتي نُشرت بعد عام 1991، بتقييم إدخال القوات المسلحة للاتحاد السوفييتي إلى أراضي لاتفيا في صيف عام 1940 باعتباره احتلالًا لها، وما تلا ذلك من ضم لاتفيا إلى الاتحاد السوفياتي باعتبارها احتلالًا لها. الضم (القبض).

    تقول الكتب المدرسية في عدد من البلدان في أوروبا الوسطى والشرقية، وكذلك دول البلطيق، أن ألمانيا والاتحاد السوفياتي يتحملان المسؤولية بالتساوي عن اندلاع الحرب العالمية الثانية. وتستند هذه التصريحات إلى الرغبة في التقليل من دور الاتحاد السوفياتي في أحداث 1941-1945، وكذلك دور روسيا الحديثة باعتبارها وريثة الاتحاد السوفياتي.

    في 3 يوليو- تموز 2009، اعتمد البرلمان الأوروبي قرارًا “بشأن إعادة توحيد أوروبا المقسمة”، والذي تم فيه اقتراح يوم 23 غشت- أب، وهو يوم التوقيع على معاهدة عدم الاعتداء بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا (ميثاق مولوتوف-ريبنتروب). ليكون يوم ذكرى ضحايا النازية والستالينية. استجابت بولندا لهذا القرار، وهي تكافح بنشاط لإزالة دور الاتحاد السوفياتي من أي انتصار على هتلر ونظامه. على سبيل المثال، في 23 سبتمبر- أيلول 2009، تبنى مجلس النواب البولندي (السييم) قراراً وصف فيه تحرير الأراضي التي احتلها بولندا في غرب أوكرانيا وغرب بيلاروسيا على يد الجيش الأحمر في سبتمبر- أيلول 1939 باعتباره عدواناً على بولندا. وهكذا، ولأول مرة على المستوى الرسمي، تم إعلان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية كمعتد وغاز، مما أدى إلى إطلاق العنان للحرب العالمية الثانية مع ألمانيا. فالشيوعية والفاشية والستالينية والهتلرية وضعت هنا على نفس المستوى، وقد تحقق انتصار الشعب السوفياتي على النازيين، بحسب واضعي القرار، رغم صلافة النظام الستاليني.

    ولم تدين الدول الأوروبية قرار وارسو الرسمي. علاوة على ذلك، في 19 سبتمبر- أيلول 2019، اعتمد البرلمان الأوروبي قرارًا «بشأن أهمية الحفاظ على الذاكرة التاريخية لمستقبل أوروبا»، والذي بموجبه يتحمل الاتحاد السوفياتي مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا -هتلر. وهذا يتجاهل سياسة ما قبل الحرب التي انتهجتها إنجلترا وفرنسا، والتي دفعت ألمانيا شرقاً على أمل أن يصبح من الممكن، بمساعدة اتفاقية ميونيخ، رشوة النازيين وتحريض الاتحاد السوفياتي ضد الرايخ الثالث.

    انتشر تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى على نطاق واسع في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. فالوقائع الدامغة بشأن منظمة  القوميين الأوكران المعروفة بقتل اليهود والبولنديين والروس أفضت إلى تشويه ساقط، بحيث تم تصوير حركة القوميين الأوكران OUN-UPA على أنها حركة تحرير وطني كانت تهدف إلى إنشاء دولة أوكرانية مستقلة، وكذلك تم التكتم واخفاء الحقائق التي تفيد بأن كتيبة ناخيتيغال OUN Nachtigal كانت جزءًا من وحدات أبفير  Abwehr (المخابرات العسكرية الألمانية والاستخبارات المضادة 1920-1945)، وفرقة غاليسيا كانت جزءًا من قوات الأمن الخاصة، بل ذهب الأمر إلى حد تمجيدها كمثال للنضال ضد الاتحاد السوفياتي. إن هذا التمجيد للخونة والمتعاونين يتجاوز حدود أوكرانيا. على سبيل المثال، في كل عام في يوم ذكرى الفيلق اللاتفي في 16 مارس- آذار، تجري مواكب الفيلق السابق وأنصارهم الشباب في عواصم دول البلطيق. وفي وقت من الأوقات، استبعد المجلس الأعلى لجورجيا يوم النصر – 9 ماي- أيار – من قائمة العطلات الرسمية.

    أحد أكثر مجالات التزوير شيوعًا في الماضي والآن هو مراجعة مساهمة الشعب السوفياتي في الانتصار على ألمانيا النازية واليابان العسكرية. على سبيل المثال، فإن المؤرخين الغربيين، الذين يسلطون الضوء على مختلف المعارك الحاسمة ونقاط التحول في الحرب العالمية الثانية، يفضلون مسارح العمليات العسكرية في المحيط الهادئ وشمال إفريقيا، ويتم إعطاء الجبهة السوفياتية الألمانية مكانًا ثانويًا في تصميماتهم.

    في السنوات الأخيرة، أصبح من الشائع تمجيد مساهمة الولايات المتحدة في الحرب والتقليل من شأن إنجازات الدول الأخرى. على سبيل المثال، عبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن هذا النهج على النحو التالي: “لقد تم تحقيق النصر على جبهات الحرب العالمية الثانية إلى حد كبير بفضل الصناعة الأمريكية والموارد الأمريكية والقوى العاملة الأمريكية”؛ “لقد تم تنظيم الحرب العالمية الثانية من خلال انتصار القوات وهيئة الأركان والمقر والقيادة العليا، وجميع العناصر المكونة للجيش الأمريكي”؛ وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دخلت الحرب متأخرة، إلا أن مساهمتها في النصر كانت حاسمة. وبدون جنودها وإنتاجهم الهائل من القنابل والسفن والطائرات، لكان الحلفاء قد هُزِموا بالتأكيد حسب قوله.

    في عام 1953، قال الرئيس الأمريكي هنري ترومان، ردا على طلب من المؤرخين الأمريكيين حول دور الاتحاد السوفياتي في الانتصار على اليابان، إن “الروس لم يقدموا أي مساهمة عسكرية في ذلك”. ومن وجهة نظره، فإن القصف الذرّي على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في 6وغشت-9 أب 1945 هو الذي أجبر الحكومة اليابانية على الاستسلام.

    ومن الواضح أن السلطات الروسية تدرك الخطر الذي يجلبه تزوير التاريخ. تحدد استراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي (التي تمت الموافقة عليها بموجب مرسوم رئيس الاتحاد الروسي بتاريخ 2 يوليو- تموز 2021 رقم 400) -مشكلة تلاعب بعض الدول بالوعي العام وتزييف التاريخ لأغراض جيوسياسية. في عام 2014، تم إجراء تغييرات على القانون الجنائي للاتحاد الروسي، الذي يجرم مثل هذا الفعل باعتباره “إعادة تأهيل النازية” (المادة 354.1) – “إنكار الحقائق التي أثبتها حكم المحكمة العسكرية الدولية للمحاكمة والمعاقبة لمجرمي الحرب الرئيسيين.”

    ومع ذلك، من أجل مقاومة معالجة الوعي من قبل المزيِّفين، من المهم جدًا أن تكون هناك كفاءات معلوماتية معينة، ولا سيما القدرة على التمييز بين الحقائق والبيانات العلمية الموثوقة ومبرراتها الأيديولوجية، فضلاً عن القدرة على الإدراك النقدي للإصدارات المختلفة من المعلومات التاريخية.

تزوير التاريخ الروسي كعنصر من عناصر الدعاية المناهضة لروسيا

    غالبًا ما تكون محاولات تزوير التاريخ جزءًا من الدعاية المناهضة لروسيا في البلدان القريبة والبعيدة في الخارج. وهي، كقاعدة عامة، مرتبطة بالمصالح السياسية والمادية الحالية لبعض القوى المعنية، وهي مصممة للمساعدة في إثبات المطالبات الإقليمية المادية ضد الاتحاد الروسي تحت ستار التعويض عن الضرر المزعوم الذي حدث في فترة ما.

    إن مواجهة هذه المحاولات أمر مهم من وجهة نظر مصالح الدولة الروسية وحماية الذاكرة الاجتماعية للروس. وقد صرح بذلك قادة الدولة الروسية مراراً وتكراراً. كان رد الدولة الروسية على هذا التحدي هو إنشاء لجنة برئاسة رئيس الاتحاد الروسي لمواجهة محاولات تزوير التاريخ على حساب مصالح روسيا.

سياسة الدولة للاتحاد الروسي لمواجهة محاولات تزوير تاريخ روسيا:

    تم تحديد المهام والاتجاهات الرئيسية لسياسة الدولة للاتحاد الروسي لمواجهة محاولات تزوير تاريخ روسيا في مرسوم رئيس الاتحاد الروسي دميتري ميدفيديف بتاريخ 15 ماي- أيار2009 رقم 549 “بشأن اللجنة التابعة لرئيس الاتحاد الروسي لمواجهة محاولات تزوير التاريخ على حساب مصالح روسيا”.

    حدد مرسوم رئيس الاتحاد الروسي مهام اللجنة باعتبارها هيئة حكومية مكلفة بتنسيق أنشطة الدولة والمؤسسات العامة في مجال مكافحة محاولات تزوير التاريخ. وتشمل هذه المهام على وجه الخصوص ما يلي:

أ) تعميم وتحليل المعلومات المتعلقة بتزوير الحقائق والأحداث التاريخية التي تهدف إلى التقليل من المكانة الدولية للاتحاد الروسي، وإعداد التقارير ذات الصلة إلى رئيس الاتحاد الروسي؛

ب) وضع استراتيجية لمواجهة محاولات تزوير الحقائق والأحداث التاريخية من أجل الإضرار بمصالح روسيا؛

ج) إعداد مقترحات لرئيس الاتحاد الروسي بشأن تنفيذ التدابير الرامية إلى مكافحة محاولات تزوير الحقائق والأحداث التاريخية التي تضر بمصالح روسيا؛

د) النظر في المقترحات وتنسيق أنشطة الهيئات الحكومية الفيدرالية والهيئات الحكومية للكيانات المكونة للاتحاد الروسي والمنظمات، بشأن قضايا مكافحة محاولات تزوير الحقائق والأحداث التاريخية على حساب مصالح روسيا؛

هـ) وضع توصيات للرد المناسب على محاولات تزوير الحقائق والأحداث التاريخية على حساب مصالح روسيا وتحييد عواقبها السلبية المحتملة.

غالبًا ما تقتصر مشكلة تزوير التاريخ الروسي في الوعي الجماهيري على عدم جواز مراجعة نتائج الحرب الوطنية العظمى. وفي الوقت نفسه، فإن مشكلة تزوير التاريخ الروسي أوسع بكثير؛ فهي معقدة ومؤلمة في عدد من الجوانب للوعي التاريخي للروس.

    لكن لا يقل أهمية عن ذلك منع، وتحت ستار استعادة العدالة التاريخية، تبرير أولئك الذين دمروا شعبهم. وصحيح أيضًا أن ارتكابات ستالين لا يمكن أن تنتقص من مآثر الأشخاص الذين انتصروا في الحرب الوطنية العظمى. لكن ستالين جعل روسيا قوة صناعية قوية، رفع من مستوى الصناعة والعلوم والثقافة إلى المستوى العالمي. فقبول الماضي كما حدث هو نضج في الموقف من قضايا التاريخ وليس تأففا من نتائجه. من المهم بنفس القدر دراسة الماضي والتغلب على اللامبالاة والرغبة في نسيان جوانبه المأساوية.

 بعض أشكال تزوير تاريخ الحرب العالمية الثانية والوطنية العظمى:

    منذ أسابيع احتفلت فرنسا بالذكرى الثمانين لإنزال الحلفاء في النورماندي، والذي أصبح أحد الأحداث الرئيسية في الحرب العالمية الثانية. أقيم الاحتفال الذي حضره خمسة وعشرون رئيس دولة وحكومة، من بينهم الرئيس الأمريكي جو بايدن والملك البريطاني تشارلز الثالث والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على شاطئ أوماها. وأقام الجانب الروسي، الذي لم تتم دعوته للمشاركة في الاحتفالات، مراسمه الخاصة بوضع الزهور على دفن طياري فوج نورماندي-نيمين الجوي الفرنسي في موسكو.

    وهكذا في ظل الانقسام في التحالف المناهض لهتلر، يعتبر تجمع الحلفاء الغربيين السابقين لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في فرنسا فرصة لتعزيز التحالف ضد روسيا لدعم أوكرانيا.

لكل نورماندي خاص به:

    يقع شاطئ أوماها على ضفاف القناة الإنجليزية شمال النورماندي، حيث حدث إنزال حلفاء التحالف المناهض لهتلر في 6 يونيو- حزيران 1944 خلال عملية “أوفرلورد”، وها نحن بعد ثمانين عامًا نشهد مجددا  انزالاً كبيرًا للقادة الغربيين. على ما يظهر «تُبذل جهود مكثفة لإعادة كتابة التاريخ، وتُثار غرائز معينة لا تساهم إطلاقاً في تعزيز العلاقات الروسية-الفرنسية والأوروبية، التي كانت لعقود من الزمن واحدة من العوامل الأساسية لضمان الأمن الأوروبي».

    ويبدو أن هناك في فرنسا من لا يتذكر الجنرال شارل ديغول، والمساهمة التي قدمها ليس فقط في هزيمة الفاشية والنازية، بل أيضاً في تأسيس فرنسا ككيان سيادي في القانون الدولي، الذي يمكنه التحدث بصوت مستقل على الساحة الدولية. فالصورة اليوم مختلفة تماماً، إذ يتم اتباع نهج معاكس مناهض لأفكار ديغول نفسه، لتتحول فرنسا إلى طليعة القوى الأكثر عداءً لروسيا في الناتو والاتحاد الأوروبي.

    في المقابل فإن موسكو لا تنوي التخلي عن تاريخها المشترك مع فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1941، خلال أصعب فترات الحرب الوطنية العظمى، تقدم زعيم المقاومة الفرنسية الجنرال ديغول إلى الحكومة السوفياتية باقتراح لإرسال متطوعين عسكريين إلى الاتحاد السوفياتي، وإن كان هناك عدد قليل منهم – 14 طيارًا و58 ميكانيكي طائرات، لكنهم قاتلوا بشجاعة جنبًا إلى جنب مع الجنود والضباط السوفيات وساهموا في النصر في معركة كورسك الاستراتيجية، وفي تحرير أراضي بيلاروسيا وليتوانيا السوفياتية، وفي الهجوم وتحرير كونيجسبيرج.

    وفي ظل هذا التشدد الفرنسي، نرى في مقابله موقفا أميركيا أكثر مرونة. ففي النورماندي لم يستطع هؤلاء نفي الدور الأكبر للاتحاد السوفياتي الذي كان حليفًا في الحرب العالمية الثانية، واعترافها بأنه من المؤكد أنه شارك بعمق في هزيمة ألمانيا النازية وتم الاعتراف أكثر بما قاساه وعاناه الشعب السوفياتي، وخاصة الشعب الروسي خلال الحرب العالمية الثانية.

    ورغم المكابرة في هذا الاعتراف، فقد ركز بعض المسؤولين على الدور الذي قامت به القوات الجوية الأمريكية في هزيمة الاستبداد والفاشية في أوروبا”، وبرأيهم فإنه قبل 80 عاما، حققت أمريكا السيطرة على السماء على شواطئ النورماندي، والتي احتفظت بها حتى يومنا هذا. برأيهم فإن تفوق أمريكا في الجو وفي الفضاء أصبح منذ ذلك الحين طويلاً ومستمرًّا ولا يتزعزع، ووفقا لهؤلاء فإنه ورغم مرور هذه الفترة الطويلة  فإن الهيمنة الجوية الأمريكية على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي اليوم هي التي تمنع موسكو من توسيع عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا.

    يشار إلى أن واشنطن لا تنوي الانضمام إلى تحالف المدربين العسكريين أو الوحدات العسكرية التي تشكلها باريس لإرسالها إلى أوكرانيا. هذا ما أكده مساعد الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الذي رافق جو بايدن في رحلته. فقد أعلن: “نحن لا نخطط لإرسال مستشارين عسكريين أو أفراد عسكريين أو مدربين لتدريب الأوكران في أوكرانيا. سأشير أضاف المساعد:” إلى أن الولايات المتحدة أنشأت بنية تحتية مهمة في ألمانيا للتحضير. وقاموا بتدريب آلاف الجنود الأوكران على استخدام المعدات الغربية الصنع”. يتذكر جاك سوليفان، الذي قال إن تدريب الأوكرانيين خارج أوكرانيا سيستمر بالتنسيق الوثيق مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة: “نحن على استعداد لمواصلة هذا التدريب، بل وتوسيع نطاقه”. وأضاف: “سنكون قادرين على مناقشة رأيهم في هذا الأمر مع الرئيس الفرنسي ومسؤولي فرنسا”. (يتبع)

Visited 148 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي