الاحتفالية أسئلة ومسائل
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
ويسألني سائل من الناس ويقول لي: – ألست أنت هو …؟
وأقول له، نفس ما قاله عبد السميع في تغريبة (عبد السميع يعود غدا) عندما سئل نفس السؤال: – لا .. أنا لست هو.. أنا أنا وأنت أنت، وهو هو ..)
– لست أنت هو المدعو قيد حياته عبد الكريم..؟
– نعم، وحتى قيد مماته سيظل هذا المخلوق الذي أمامك يحمل نفس الاسم،. والذي هو عبد الكريم برشيد، ابن الحاج المصطفى دفين مقبرة سيدي أحمد ابركان بمدينة ابركان العامرة والسعيدة.
ولقد أسعدني حظي بأن كنت عبد الكريم، وليس عبد اللئيم، ولقد أكرمني الكريم ربي، فصرت له عبدا..
ويعود السائل ليسألني سؤالا آخر :
– لقد سمعت من الصادقين الذين لا يكذبون بأنك (تقترف) فعل الكتابة، فهل فعلا أنت كاتب؟
وأقول له، إنني أزعم فقط بأنني كاتب. حتى يثبت التاريخ حقيقة ما أقول، أو عكس ما أدعي، وقد أكون مجرد عاشق يهوى الكتابة، والعشق ليس ذنبا. وليس حراما، وليس جريمة، وقد أكون مجرد تلميذ متمرن على الكتابة، وأنني قد كنت وما زلت عند درجة الصفر في هذه الكتابة، أما بالنسبة لهذا الذي أفعله، أو أقترفه بحسب تعبيرك، وهل هو كتابة أم شبه كتابة أو أنه لاكتابة، فتلك مسألة أخرى، والمهم أنني أحيا في هذه الكتابة حياة أخرى إضافية، وأنني أحيا بها. بحثا عن شيء، أو هروبا من شيء، لست أدري..
ويعود نفس السائل ليسألني: – ولمن تكتب أيها (الكاتب) المتمرن، هل للبشر أم للشجر أم للحجر؟ واسمح لي أن اضع كلمة الكاتب بين قوسين.
وأقول له لا تهتم يا صاحبي، وحتى لو وضعتها بين ألف قوس وقوس، فإن ذلك لا يزعجني أبدا، وإنني (أكتب) اليوم، تماما كما كتبت بالأمس، لكل لمن يقرأ، وتحديدا لكل من يحسن فعل هذه القراءة. وليس كل قارئ يعرف أسرار القراءة، ويعرف آدابها وأخلاقها، والأصل في هذه القراءة هو أنها مطلوبة لذاتها، وبهذا فهي عشق عاشقين، وأتمنى أن تكون منهم، وهي الوجه الثاني للكتابة التي لا يمكن أن تكتمل إلا بها، وهذه القراءة، وفي معناها الحقيقي، لا يمكن أن تكون مجرد فعل عابر، وذلك في انتظار القطار. أو في انتظار الحافلة، أو في انتظار النوم..
ويعود نفس السائل ليسألني من جديد السؤال التالي: – وهذا القارئ، هل تعرفه؟
وأقول له نفس ما قالت السيدة ميمونة الأمية (ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة)، وأنا اليوم أقول نفس قولها (هذه الكتابة تعرف قارئها وقارئها يعرف كتابته)، والأمر يتعلق بسر رباني خفي، لا أعرفه أنا الكاتب. ولا يعرفه صاحبي القارئ، ولا يهمني أن أعرفه أو لا أعرفه، وبحكم أنني مجرد (كاتب) متمرن، وأن ما أكتبه ما هو إلا تمارين في مدرسة الحياة الابتدائية، فإن مهمتي هي أن أعرف أسرار صناعة الكتابة فقط، وأن اتقنها، أما معرفة من يقرأ ومن لا يقرأ، فإن هذه المهمة ليست مهمتي، ولا أظنها يمكن أن تكون مهمة أية كاتب آخر، لأنني فقط لست تاجرا من التجار، ولست ناشرا من قبيلة الناشرين، ولست إخباريأ، وما أنا إلا (كاتب) متمرن، حياته الكتابة وهوايته الكتابة وعشقه الكتابة ومتعته الكتابة.
القارئ يختار كاتبه والكاتب لا يختار قارئه
إنني كاتب عمومي متطوع، هكذا قدمت نفسي للناس وللتاريخ، ولقد دخلت عالم الكتابة السحري من باب العشق والهوى، وإنني أجد حياتي ومتعتي ولذتي في فعل هذه الكتابة، وأنا لا أرجو منها أن تطعمني خبزا، أو أن تحجز موقعا رفيعا في المجتمع، كما أنني لست خطيبا ولا زعيما ولا مصلحا ولا فقيها ولا مرشدا في هذه الكتابة، وعليه فإنني لا أطمع أبدا في أن أغير مسار العالم بهذه الكتابة، كما أنني لا أقول للناس بأن كل الحق والحقيقة موجودان فقط في كتاباتي، وأن من يبتغي غيرها من الكتابات الأخرى فلن يقبل منه، كما أنني لا أزعم بأنه في هذه الكتابة يسكن الجمال، ويقيم الكمال والجلال، وما يهمني أساسا هو أن أقول (بعض) ما أعرف، وأن أحرص في المقابل على أن أعرف كل ما أقول، وأن أكون على علم بجغرافيا علم الكلام، وأن أعرف حدود فن القول وعلم القول وفقه القول. وأن أكون في هذا الزمن حاضرا بشكل كامل ومتجدد، وألا أغيب لحظة واحدة عن وقائع هذا الواقع، ومهمتي هي أن أعيش حياتي الخاصة. وأن (أتطفل) على حيوات الناس الآخرين، وأن يكون فضولي فضولا جميلا ونبيلا، وأن يفيد حاضر ومستقبل الإنسان، من غير أن يسيء لأي إنسان، وأن أشهد ما يجري ويدور في هذا العالم، وأن أكون شاهدا عليه بالحق، وأن أكون صادقا وأمينا في كل تمارين الكتابة.
ومرة أخرى، يعود نفس ذلك السائل ليسألني السؤال التالي:
– ومن يكون قارئك المفضل؟ وما الذي يعجبه تحديدا في كتابتك التي ليست كتابة؟
وأقول له، إن من حق القارئ أن يقرأ ما يشاء، ولمن يشاء، ومتى يشاء، ولكن، هل من حق الكاتب أن يختار قارئه، وأن يسمح لهذا بالقراءة، وأن يمنع القارى منها، وأن يكتب على غلاف كتبه نفس ما يكتبه الحلاقون على أبواب صالوناتهم (خاص بالرجال) أو (خاص بالنساء)، ولن أكتب على غلاف كتبي (خاص بالمناضلين) أو (خاص بالتقدميين) أو (خاص بالتجريبيين).
ولقد كان بودي أيها السائل لو أن سؤالك كان عن أول قارى أكتب له، وعن أول قارئ يقرأ ما أكتب، لأن هذا القارئ موجود فعلا، وأنا أعرفه، وهو يعرفني، وبيننا صحبة ورفقة ومحبة قديمة جدا، وإذا كان يهمك أن تعرف من يكون هذا القارئ فإنني أقول لك هو (أنا) وتحديدا هو (أنا) الآخر، والذي هو الوجه الآخر الخفي للكاتب الذي يسكنني وأسكنه، ولقد قلت دائما بأني لو أستطيع أن أقنع وأمتع هذا القارئ الذي بداخلي، فإنني بالتأكيد سأكون أسعد كل السعداء، ومن خلال هذا القارئ الذي بداخلي، سأتمكن من أن أقنع وأن أمتع كل العالم.
الكاتب ومضاعفه الداخلي
وأنا الكاتب الواحد يوجد في ذاتي صوتان اثنان. أحدهما شاهد على الثاني، وهو ملتصق به، ومهمته أن يراقب ما يقوله وما يكتبه وما يبدعه الصوت الأول، وبهذا أكون ذاتين في جسد واحد. وبخصوص هذا (الأنا) الآخر الذي يسكنني، من غير أن يوافقني، هو ضميري بكل تاكيد، وهو ضميري المستتر في اللا مكان وفي اللازمان، والذي يمارس فعلا نسميه النقد الذاتي، وهو صوت حاضر ويقظ دائما. وإنني أستمع إليه، وأنصت إليه، وآخذ برأيه. وهو يكلمني بغير كلام، وقد يجيبني، في أحيان كثيرة، حتى من غير أن أساله، وهو يمارس حقه في الرقابة على ما أكتب وعلى ما أبدع، وهو يمارس أجمل وأصدق النقد، والذي هو النقد القبلي على كتاباتي، ولأنه لا يخطئ في تنبيهاته وتحذرياته فإنني أثق به ثقة تامة، ولقد أشعرتني كثير من التجارب بأن هذا النقد هو وحده الصحيح، وأن أغلب ما عداه باطل وبلا معنى وبلا فائدة، لأنه نقد صادق يأتي من الداخل، ويأتي في وقته وحينه، وليس بعد خراب البصرة، وبهذا فقد كان نقدا عاشقا. وكانت مهمته أن يساهم في عملية الإبداع، وّهو نقد يشعرني بأنني كاتب حر، وبأن كتابتي هي كتابة حيوية وليست ميكانيكية، وبأنه من حقي أن أراجع ما أكتب، وهو يقترح على أن أشطب على هذا الكلام أو على هذه الكلمة أو على هذه العبارة، أو على هذه الصورة، كما يقترح على أن أمزق هذه الورقة، وعلى محو بعض ما كتبته. أو محو كل ما كتبته، وأن أعود من حيث بدأت، أي إلى نقطة الصفر، وتحديدا إلى تلك الورقة البيضاء. قبل أن أسودها، وهذا الصوت الداخلي هو الذي يكتب معي، وإنني أثق به، وأعتبره أول من يقرأ ما أكتب، وهو عندي أصدق القارئين، وإنني أعتبره أول النقاد، وأنه أصدق كل النقاد، وأنه أقربهم جميعا إلي وإلى ما أكتب، وأيضا، إلى الحق والحقيقة.
وهذا الحوار الداخلي هو الذي يجعلني لا أفرج على كتاباتي، ولا أذيعها في الناس. إلا بعد أن يرضى عنها صوتي الآخر، والذي هو صوت الناقد المبدع، والذي يأمرني وأطيع، ويجعلني أشطب وأضيف وأحذف وأحول وأستبدل كلاما بكلام، وأن أتخلى على كل أو بعض ما لا فائدة فيه، وذلك قبل أن يخرج هذا المكتوب للناس. ويكون من المستحيل إعادة كتابته من جديد، ويكون البكاء وراء الميت خسارة، كما يقول المغاربة.
أنا الكاتب من أين أتيت؟
وهذا السائل الذي سألني عني. وعن فعل الكتابة، وهل أنا فعلا كاتب، قد يكون هو نفس السائل الذي سأل عبد السميع بن عبد البصير (من أين أتيت؟)، وقد يكون عبد السميع هو أنا، وأكون أنا هو عبد السميع، وقد تتغير الأسماء في مسرحيات الوجود، ولكن المسمى واحد، ولذلك يقول عبد السميع في تغريبة (عبد السميع يعود غدا) لمن يسأله:
(- تسألني من أين أتيت. وأقول لك من كل الأمكنة التي أعرف يا صاحبي
– وإلى أين تمضي الآن؟
– إلى كل الأمكنة التي لا أعرف أنا، ولا تعرف أنت، ولا يعرف أي أحد، وخريطة الروح أخطر كل الخرائط، فاسأل عن الإنسان ولا تسأل عن العنوان، واحذر أن تخدعك العناوين الخادعة).
نعم، هي العناوين خادعة دائما، وأكثر نقاد الاحتفالية اليوم يعرفون عنوانها فقط، ولا يعرفون فكرها، ولا يعرفون فنها، ولا يعرفون علمها، ولا يعرفون روحها، وإنني أدعو كل الذين يمارسون فعل النقد إلى أن يتعلموا فقه القراءة، وأن يبحثوا في قراءاتهم عن الجميل والنبيل وعن الممتع وعن المقنع، وعلى ألا يقتصر دورهم على فعل الاتهام وعلى إطلاق الأحكام.
يقول عبد السميع، في رؤيته الإنسانية والكونية للوجود.
أنا لا أدين العالم، وأبرئ نفسي، وهو يرى أن البراني هو مجرد صور، والتي قد تكون في أغلب الحالات خادعة ومضللة، وأنا الاحتفالي مؤمن. مثل هذا العبد السميع، بأن الداخل والخفي في العقول وفي النفوس وفي الأرواح هو الأصل. وهو المبتدأ والاستمرار، وأن أصل كل هذا العالم موجود في أعيننا وفي قلوبنا وفي عقولنا، أفلا تبصرون؟
و(لا أحد يهرب من نفسه.. الداخل هو الأصل يا صاحبي، ولو هدأت نفوسنا وأرواحنا، لهدأ كل شيء في الطبيعة، ولسكن كل شيء في هذه الدنيا).
وعن ماذا تبحث أيها المسافر الهارب؟ هو سؤال نور الدين الحكواتي لعبد السميع المقيم في السفر والساكن في الترحال؟ وأنا الكاتب المفكر والمبدع مثله، وإنني أقول اليوم وغدا وفي كل يوم نفس قوله الحكم:
(وكل هذا الترحال يا سيدي، وكل هذا التسكع والتشرد، وكل سنوات التيه والضياع، كلها كانت من أجل نفسي الضائعة في دنيا الضياع، وكانت بحثا عن روحي التائهة في متاهات الوجود والغريبة في أوطان الغربة. قل لي.. هل هناك ما هو أغلى منا حتى نبحث عنه؟).
ولأنه لا وجود في هذا الوجود لما هو أغلى منا ولا لما هو أصدق منا، فإنني في كل كتاباتي وإبداعاتي المسرحية لا أبحث إلا عنا، وما فائدة أن نربح كل العالم وان نخسر انفسنا؟
من النقد الجواني إلى النقد البراني
وإذا كان لي بداخلي صوت صادق، يهمه جمال النفوس والأرواح، ويهمه جمال الكلمات والعبارات، فهناك شخص من خارج ذاتي، وهو لا يعمل، وبحزنه ويشقيه أن يراني أعمل، ومهمته هي أن يراني، وأن يراقبني، وأن يتابع كل ما أكتب، وأن يحسب كل خطواتي، خطوة بعد خطوة بعد خطوة. وهو لا ينظر إلى كتاباتي بنفس العين التي ينظر بها إلي ذلك القارى الذي هو وجهي الآخر، أو هو قناعي الآخر، وقد يكون ما يهمه أساسا في كتاباتي هي الأخطاء، وهي التناقضات وهي الهفوات وهي السقطات وهي الفراغات وهي البياضات وهي المنسيات، وبالتأكيد فإن رأي مثل هذا الناقد لا يهمني. لأنه لا يضيف للفكر والفن والعلم والآداب أية قيمة مضافة، ويكفيني في كثير من الأحيان أن أعرف اسم هذا الناقد أو ذاك، حتى أعرف كل تفاصيل ما سوف يقول وما سوف يكتب.
وعندما كتبت كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة)، بجزئيه الأول والثاني، تحدثت عن الآراء التي ناقضت أفكاري، والتي ناقشتها، بموضوعية أو بانفعالية أو بمزاجية، أما بالنسبة للذين تعجبهم أو لا تعجبهم مسرحياتي، فأنا ما ثبت يوما أنني ناقشتهم، لأنني أعرف أن الفن ليس معادلة رياضية، تحتمل أن تكون صحيحة أو تكون خاطئة، ولكنه شيء رمزي، يخاطب الروح والوجدان أولا، ويخاطب العقل والخيال أيضا، وهذا (الشيء) الذي نسميه مسرحية، يمكن أن يتذوقه المتذوقون وحدهم. ومن كان بلا ذوق وبلا خيال وبلا حس جمالي، كيف يمكن أن أوصل إليهم هذا الشيء الجميل والنبيل؟
وأعرف أن الذوق طبقات، بعضها أعلى من بعض، ولهذا فإن على البلد الذي (ينتج) الكتاب الكبار والمبدعين الكبار أن يعمل من أجل إيجاد القراء الكبار والمترجمين الكبار أيضا.
وهذه الاحتفالية ليست مجرد أسماء تفكر وتكتب وتبدع في المسرح وفي الحياة، أسماء قد نعرف بعضها فقط، ولكننا نجهل أغلبها، والاحتفالي الصادق هو من يعيش احتفاليته بصدق وأمانة، وهو من يحاول أن يعرف كل الناس، والذي لا يهمه بأن يعرفه أو يجهله بعض الناس.
ولهذا نقول بأن ما يميز هذه الاحتفالية هو أنها (مسار وجودي متكامل، مسار فكري وجمالي وأخلاقي فيه الكائن والممكن، وفيه المحتمل والمحال، وفيه الظاهر والخفي، وفيه القريب والبعيد والمستبعد، وفيه الحاضر والغائب والمغيب، وفيه المحسوس والمتخيل، وفيه الواقعي والافتراضي، وفيه البراني والجواني، ولعل أهم ما يميز هذه الاحتفالية هو أنها كائن اعتباري معاند ومشاكس ومشاغب، وأنها سباحة حرة ضد التيار، وأنها فعل يومي سيزيفي يتجدد بتجدد الحياة اليومية وبتجدد التاريخ، وهي تفكير جاد وجديد بشكل دائم ومتجدد.
وهذا ما يفسر أن يكون كل النقد الذي وجهه كثير من النقاد إلى مسرحياتي قد كان نقدا بلا مردود، وكان بلا فائدة، وكان مجرد كلام ومجرد أحكام في الظلام، ولهذا فقد قلت دائما أنا لا يهمني رأي النقاد في المسرحية الاحتفالية، لأن الكتابة الاحتفالية في الإبداع، هي أساسا كتابة غير مدرسية وغير إيديولوجية وغير مزاجية، وبذلك فهي لا يمكن أن تخضع للمسطرة ولا للمحبرة، ولا لأصحاب القلم الأحمر.
Visited 9 times, 1 visit(s) today