المغرب: تحديث الجلباب و”مخزنة” ربطة العنق
عبد الرحيم التوراني
من خلال متابعتي هذه الأيام لنشرات الأخبار والبرامج المواكبة لمجريات حملة الانتخابات التشريعية المُسبقة بفرنسا التي دعا إليها قبل أوانها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجدتُ نفسي أحيانا في حالة شرود ذهني، حيث أفتقد إلى التركيز لما يقوله المذيعون والمحلّلون بهذا الشأن، وقليل الانتباه إلى ما أسمعه من تصريحات ترد على ألسنة رموز وقادة التحالفات الانتخابية على اختلاف مشاربها.
نعم، اكتشفتُ أن الذهنَ يذهب بي بعيداً، وأنا أشاهد على قناة تلفزيونية خطيباً من هؤلاء المتكلمين من على منصة تحالف اليمين، فأسارع إلى إنكار أن يكون هذا المعني يمينياً حقاً. لأقول في سري: إن لهذا الشخص ملامح وهيئة ولغة يفترض بها أن تجعله من مناضلي اليسار، لا من وجوه اليمين. كما يحدث معي العكس، لمّا أتابع بعض اليساريين يخطبون في الجمهور، فأقرّر أن شكلهم ورنّات أصواتهم وحماستهم تؤهلهم أكثر لخدمة اليمين، وأرى أن الأنسب لهم أن يتواجدوا في الصف الآخر، أي مع اليمين المتطرف، مع مارين لوبين وجوردان بارديلا، وليس مع جان لوك ميلنشون و”فرنسا الأبية” و”الجبهة الشعبية الجديدة”.
وبما أن ما يحدث الآن في فرنسا يشد انتباه العالم، فإن للنخبة السياسية في المغرب العربي قدراً يقل أو يزيد من هذا الاهتمام والمتابعة المباشرة للاستحقاقات الجارية اليوم بموطن شارل ديغول، إلى درجة الاصطفاف إلى جانب هذا المعسكر الانتخابي أو ذاك، كما لو أن جمهور الدار البيضاء يتابع بحماسة عبر الساتلايت مباراة حاسمة في كرة القدم بالدوري الفرنسي. فمثلاً، نجد أن مبادرة إنشاء “الجبهة الشعبية” بفرنسا تطرح حالياً لدى أهل اليسار بالمغرب فكرة استنساخها وتقليدها أو على الأقل الاقتباس منها، والقصد هنا بـ”اليسار المغربي” مختلف أطيافه، سواء منه “اليسار الرسمي”، أو كما تطلق عليه بعض ألسنة السوء: “اليسار المخزني”، مُشخصاً في الأحزاب الممثلة داخل البرلمان، أو اليسار الجذري المتواجد خارج المؤسسات الرسمية. علماً أن موضوع التكتل ضمن “جبهة شعبية تقدمية” ظل ملتمساً تاريخياً، وأبرز من نادى به منذ عقود هو الزعيم الشيوعي الراحل علي يعته.
لغة اليسار وركوب الطريق السيّار
غير أني لا أستبعد أن تكون لدى آخرين غيري، بعض من مثل تلك الهواجس العابرة والأفكار الهائمة التي راودتني، حول شكل وملامح الفرقاء السياسيين المتصارعين اليوم داخل معترك الساحة الفرنسية.
أتذكر أني تابعت في أواسط التسعينيات سيدة مغربية مثقفة منخرطة في حزب إداري، لكن لسانها كان يرطن بلغة يسارية. ما أدى بي أن أرى أيضاً ملامحها وشكلها ولباسها أقرب إلى قبيلة اليسار. وبالفعل تقدمت إليها وصارحتها بما جال في خاطري، بل إني أخبرتها أنها تتواجد في الموضع الخطأ، بتنظيم سياسي لا يناسب ما تُعبّر عنه من أفكار تقدمية صريحة.
لم تنبس المرأة ببنت شفة، إلا أنها اعتبرت كلامي إطراء نال إعجابها، وقد صرّحت عن ذلك ابتسامتها العريضة. ولا أعرف اليوم أين اختفت وغابت تلك “الرفيقة”.. “المنشقة”، بعدما لم تعد تظهر لا على هذه الضفة ولا تلك.
لكن الحقل السياسي المغربي، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه “الأوتوروت”، أي الطريق السيّار (رايح- غادي)، حيث لم يعد هناك من حرج في أن ينتقل سياسي يساري إلى حزب يميني، والعكس صحيح. والوقائع تحصل في هذا الشأن تماماً، كما في سفر على طريق ذو اتجاهين متوازيين وسريعين. فكم منهم من ذهب في موسم انتخابي وترشح مع حزب آخر، ثم عاد في موسم لاحق! ليتم استقباله بالتطبيل والزغاريد لعودته إلى “بيته” الأول (حزبه الأول). ويجوز لنا أن نتساءل مع الفنان الجزائري الكبير المرحوم دحمان الحراشي، في أغنيته الخالدة: “يا الرَايح وين مسافر.. تروح تعيا وتولي”.. بالرغم من أن السياق موجه في الأغنية تحديداً إلى المغترب، فلا بأس من إسقاط مضمونها على من يلقبون في المغرب بزبائن “الترحال السياسي”.. إذ لا غرابة ولا اغتراب في “البولتيك” وأسفار الانتهازية “المشروعة”.
لا شك أن للقيادة السياسية مبادئ ومؤشرات يجب احترامها، إذ لا بد أن تتوفر شروط الحنكة السياسية في الزعيم السياسي، وما يسمى بـ”الكاريزما”، إضافة إلى التشبع بالقيم والمبادئ الديموقراطية، والصدق والنزاهة والمسؤولية، والقدرة على تقييم الظروف وإصدار الأحكام على أساس ما قد يكون أفضل بالنسبة للأغلبية، وامتلاك رؤية وهدف، والقدرة على إلهام الآخرين مع الاستعداد للمساءلة، إلى غيرها من الصفات الضرورية والفضائل الصارمة.
ولا ريب أن الشكل الخارجي يعد من بين تلك الصفات التي من شأنها تعزيز ودعم طبيعة “الكاريزما”.
السياسة والاتجار في البشر
إلا أنه لا يجب أن ننسى أن لفظة “سياسة” وكلمة “سياسي” أصبحت ذات حمولة ودلالات سلبية لدى المغاربة، وربما لدى غيرهم من الشعوب الأخرى أيضاً، مع تفاوت في الدرجة والنسبة. فتعبير “البولتيك” و”السْبِيكْ”، يفيد معنى مبتذلاً، يعني أن “السياسة كلام فارغ لا طائل من ورائه”. إذ أن السياسة عند أغلب المغاربة، صارت منذ العقود التي تلت الاستقلال، تقترن بالانتهازية وبالكذب، بل إلى حد اتهامها بالاتجار في البشر، حيث بات يطلق وصف “الشَّنّاقْ”، أي بائع الأغنام، على السياسي الحزبي والمرشح لمنصب انتخابي.. وضمن هذا السياق صارت لدينا “أحزاب الشَّنَّاقة”.
والأمثلة حيّة تمشي على قدمين، وحاضرة بيننا بشكل مأساوي للأسف، ومن دون أدنى التباس أمست مفضوحة شعبياً وإعلامياً في المشهد السياسي والمجتمعي، خاصة مع انتشار الإعلام الرقمي واجتياح مواقع التواصل الاجتماعي. لذلك تجد من يشرح لك ببساطة معنى “التمثيل السياسي”، بأنه ليس إلا تمثيلاً في تمثيل وضحكاً على الذقون. فالمرشح لمقعد في البلدية أو كرسي في البرلمان، ليس لديه ما يقدمه للناخبين سوى الوعود الكاذبة والكلام الخادع الرامي من المنطلق إلى التلاعب بالنوايا وبالعقول.
هزيمة السلطان بن عرفة أمام وسامة ابن العم
ولنعد إلى ما أشرنا إليه في البداية، عن الصلة بين المضمون والشكل، بين الباطن والهيئة الخارجية للقائد أو الزعيم السياسي، والدور الممكن أن تتولاه ملامحه ووسامته أو أناقته ومظهره الخارجي، وأداؤه أمام الجمهور أو أمام الكاميرا، وهو دور لا يكاد يختلف عن أداء ممثل على خشبة المسرح، وبديهي أن يتطلب الأمر قدرًا معينًا من الطاقة التعبيرية العفوية والتلقائية أو المكتسبة.
لا أذكر أين تابعت مداخلة لأحد المؤرخين الفرنسيين الذي قال إن ما ساعد في إفشال مشروع الإقامة العامة الفرنسية، زمن الحماية في المغرب، بتثبيث السلطان محمد بن عرفة مكان السلطان محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس)، هو أن الفرنسيين جاؤوا ببديل غير مناسب، هيئته ضعيفة؛ رجلٌ مسنٌ وبلحية بيضاء، بينما السلطان ابن عمه الذي أرسلوه إلى المنفى، كان شاباً يتمتع بالوسامة، جذاباً أحبته النساء المغربيات أولاً قبل رجالهم. وإن كان هذا الكلام أهمل هنا موقف محمد بن يوسف وانتصاره للحركة الوطنية ضد المستعمر، فإن هذا المؤرخ الفرنسي ليس مخطئاً تماماً، وقد يُعتبر نصفَ مُخطئ.
الطربوش الوطني وأناقة الملوك
عرف المغاربة ملكهم محمد الخامس مرتدياً الجلباب ومعتمرا الطربوش الذي صار يعرف باسم “الطربوش الوطني”، وقد ارتداه محمد الخامس أول مرة لما كان في المنفى بجزيرة مدغشقر بجنوب القارة الإفريقية، ونادرة هي المرات التي شوهد فيها العاهل الراحل مرتدياً اللباس المدني مع القبعة الأوروبية، أو باللباس العسكري، على اعتباره قائد أركان الجيش المغربي. بينما كان الحسن الثاني يظهر في اللباس التقليدي في الصباح وفي المساء يبرز باللباس الأوروبي، كما أشار إلى ذلك المؤرخ والباحث الأمريكي جون ووتروري (كتاب: أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية في المغرب).
بهذا الصدد، يعترف الملك الراحل الحسن الثاني لأستاذه في الرياضيات الزعيم اليساري المهدي بنبركة بكونه هو من علمه أسلوب الأناقة (كتاب: ذاكرة ملك). ومن شدة ولعه بالأناقة، فتح الحسن الثاني متجراً وسط الرباط لخياط ومصمم أزياء إيطالي، اشتهر من بين زبائنه الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران. عرف المتجر باسمه: “فرنسيسكو سمالطو”، كان مقابلاً لممثلية منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط. لذلك أطلقت صحافة المشاهير الأوروبية على الحسن الثاني “ملك الأناقة”.
اللباس في البروتوكول المخزني
نذكر أن عدداً من الساسة المغاربة الكبار كانوا يتمتعون بالوسامة وبالأناقة الأوروبية، مثل المهدي بنبركة وعبدالله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، وقد حكى هذا الأخير حكاية تخليه عن الطربوش، لما سقط ذات مرة من رأسه وهو على متن دراجة عادية، إذ لم يعد لالتقاطه، ومن يومها ترك لبس الطربوش. (كتاب: أحاديث فيما جرى).
وقد تابع المغاربة كيف تخلص الجيل الأول من النخبة السياسية المغربية تدريجيا من اللباس التقليدي، الجلباب مع الطربوش الأحمر الفاسي (التركي)، إلى الأناقة الأوروبية الكاملة. تشهد على ذلك صور الأرشيف التي تؤرخ لاستقبال الملك محمد الخامس لأعضاء الحكومة بالجلباب والطربوش. إلا أن الجلباب والطربوش الأحمر ما زال يتصدر صورة المشهد السياسي في المغرب، في المناسبات الدينية والوطنية، ليرمز إلى الالتزام والانضباط لمختلف المراسيم المخزنية، ومنها حفل البيعة السنوي الذي يشهد تقديم البيعة والولاء للملك من قبل النخب الحاكمة، حيث الجميع بلباس موحد، هو الجلباب والطربوش الأحمر مع البلغة الصفراء في القدمين.
هو المظهر ذاته الذي نتابعه في افتتاح دورات البرلمان. مظهر صار ضمن البروتوكول المخزني والتقاليد السياسية الرسمية، التي لا يمكن خرقها أو التخلي عنها. ففي ثمانينيات القرن الماضي، عندما قرّر نواب المعارضة الاتحادية (الاشتراكيون) الحضور في جلسة افتتاح إحدى دورات مجلس النواب باللباس المدني بدل الجلباب الرسمي، تم منعهم من الحضور بقرار من الملك الحسن الثاني، بل وجرى احتجازهم، والشروع في تكييف “تهمة الخروج عن الأمة” ضدهم، لولا تراجعهم.
“ربطة العنق” الإسلامية ورفض العروي
وعندما استقبل الملك محمد السادس الإسلامي عبد الإله بنكيران ليُعيّنه لتشكيل الحكومة (2012)، اضطر بنكيران لارتداء بدلة رسمية مع ربطة عنق، “الكرافات” التي لم يسبق له ارتداؤها في حياته. لكنه سيعود بعد نهاية ولايته إلى التزام ارتداء الجلباب والفوقية، حيث “يجد فيها راحته أكثر”، كما قال.
لكن المفكر والمؤرخ الشهير عبدالله العروي، له رأي وموقف سلبي متشدد من التراث الشعبي المغربي، وضمنه الغناء المعروف باسم فن “العيطة”، واللباس التقليدي، ولم يظهر العروي قط بالجلباب، وهو الشيء الذي كان لن يفلت منه لو فاز بمقعد دائرة “العنق” في الدار البيضاء، لما ترشح بها ضمن مرشحي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في انتخابات 3 يونيو/حزيران 1977، حيث كان سيلزمه البروتوكول المخزني – كما تمت الإشارة – إلى لبس الجلباب في افتتاح دورات البرلمان التي يرأسها عادة الملك.
أناقة الأموي في حضرة صدام!
وكان الزعيم محمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى والاستقلال، معروفا بأناقته الأوروبية، حيث درس في ثلاثينيات القرن الماضي بفرنسا وعاش مدة بسويسرا، وعرف بكونه متقدماً في أفكاره السياسية ومطالبته ببناء الديمقراطية أولاً.
أما الزعيم علال الفاسي، فكان يوازي الظهور بالطربوش والعباءة أو الجلباب، مع البدلة الأوروبية.
في المقابل، حرص الزعماء النقابيون على ارتداء ملابس متواضعة، مثل المحجوب بن الصديق، زعيم المركزية العمالية الاتحاد المغربي للشغل، ومحمد نوبير الأموي زعيم المركزية العمالية الكونفدرالية الديموقراطية للشغل، الذي كان يتعمد احتذاء “صندالة” في قدميه، حتى أطلق عليه الساخرون لقب “بُوسْبَرْدِيلَة”، وقد ظهر على شاشة التلفزيون برفقة الرئيس العراقي صدام حسين، وهو بتلك “الصندالة”، عندما سافر في تسعينيات القرن الماضي إلى بغداد مع طائرة أدوية مقدمة من الشعب المغربي إلى الشعب العراقي سنوات الحصار.
بينما عرف على صدام اعتناؤه الشديد بأناقته وبمظهره، واتضح ذلك أكثر خلال جلسات محاكمته الشهيرة بعد إسقاط نظام البعث في بغداد، كان هو الأنيق الوحيد بين رفاقه الماثلين أمام المحكمة، وإن تخلى عن ربطة العنق.
وقد حكى لي أحدهم حكاية لم أستطع التأكد من صحتها، أن صدام حسين، إمعاناً في الحذر والحيطة، كان يقتني “كوستيماته” وبذلاته من بائع ملابس إيطالية بسوق “جوطية درب غلف”، وكان المكلف بالاقتناء عراقي يقيم حالياً بدولة الإمارات، كما قال لي صاحب المحل المشار إليه.
بـ”جوطية درب غلف” سوق مشهور ببيع المواد الغذائية المهربة من مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، كما به جناح خاص بالملابس والبدلات والأحذية المهربة من إيطاليا، حيث صادفت برلمانيين ووزراء يقتنون بدلاتهم الأنيقة. من بينهم الاتحادي أستاذ الاقتصاد د. فتح الله ولعلو، الذي شغل منصب وزير المالية في حكومة عبد الرحمان اليوسفي (1998- 2002).
في إحدى المرات، كان لي موعد مع الراحل السياسي والنقابي محمد نوبير الأموي في فندق “الحوض الجميل” بمنطقة عين الدياب، شاطئ الدار البيضاء، ثم وصل نقابي من الاتحاد العام للشغالين التابع لحزب الاستقلال، أيامها كانت الكونفدرالية والاتحاد العام مرتبطين بالتنسيق النقابي بينهما، وقد لفت نظري أن ذلك النقابي كان يلبس معطفاً به مزقة على مستوى الكتف وبه غبار أبيض كالدقيق.
لم أسأل الأموي في الموضوع، لكن صديقاً قال لي لما أخبرته إنها “عدة الشغل”، خصوصاً وأن المعني كان ميسور الحال إن لم نقل من الأثرياء.
أزرار في غير محلها
في مارس 2017، خلال ما يعرف في الأدبيات السياسية المغربية بـ”البلوكاج” الذي حال دون تكوين الحكومة برئاسة الإسلامي عبد الإله بنكيران، ظهر الزعماء الأربعة لعملية “البلوكاج”، من سيشكلون حكومة الأغلبية، يتوسطهم سعد الدين العثماني: حزب العدالة والتنمية، مع عزيز أخنوش: رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وامحند العنصر: رئيس حزب الحركة الشعبية، ومحمد ساجد: رئيس الاتحاد الدستوري، ومحمد نبيل بنعبد الله: الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية. أما على يمين الصورة فقد ظهر الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إدريس لشكر.
كان من الممكن أن تكون اللقطة عادية، لولا أن “الزعيم” الاشتراكي ظهر وهو يرتدي سترة غير مرتبة أزرارها، الأمر الذي أثار موجة سخرية عارمة في الفيسبوك. ومن بين التعليقات: “ترتيب الأزرار من مصلحة الوطن”، و”أن هذه الحكومة من ارتباك أزرارها مفضوح سوء أعمالها القادمة”..
وإضافة إلى الجدل حول فشل إدريس لشكر في تسيير الاتحاد الاشتراكي، وما انتشر حيال تورطه في فضائح سياسية ومالية، لم يساعده شكله ومظهره البدين في قيادة سفينة الحزب بأمان، ولا في الإجماع حول شخصه.
بيريه بنسعيد وماكياج نبيلة
أما الزعيم اليساري محمد بنسعيد أيت يدر فاشتهر بطربوشه “الوطني”، (طربوش محمد الخامس). إلا أنه أثناء حضوره جنازة الزعيم الماركسي أبراهام السرفاتي، بالمقبرة اليهودية بالدار البيضاء، (نوفمبر 2010)، حرص المقاوم والمناضل بنسعيد على الظهور بلباس أوروبي كامل السواد مع بيريه سوداء، حتى كادت هيئته تختلط بهيئات المشيعين من اليهود المغاربة، الذين كان يتقدمهم المستشار الملكي أندري أزولاي.
واشتهرت الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد الأستاذة نبيلة منيب بأناقتها الأوروبية، مع حرصها على البساطة وعدم المغالاة في الماكياج، ولا تظهر بالجلباب النسائي والمنديل على رأسها إلا في مناسبات العزاء.
أما الملك محمد السادس، فأصبح في الأعوام الأخيرة غالباً ما يظهر بالجلباب التقليدي المغربي باللون الأصفر وتدرجاته، وفي السابق انتشرت صور محمد السادس بملابس شبابية متنوعة، توزعت الآراء حولها واختلفت بين معجب ومتحفظ.
بهلوانيات القذافي
لا شك أن وسامة الثائر الأممي تشي غيفارا ومظهره المُعبّر والجذّاب الشبيه بنجم سينمائي، كانت من بين الأسباب التي دفعت الرأسمالية الأمريكية لتسويق صورته أكثر من التعريف بسيرته ومبادئه.
أما رفيقه فيديل كاسترو، فقد ظل متشبثاً بالبدلة العسكرية ذات اللون الأخضر الزيتي، وعندما كان يرتدي بدلة مدنية كان لا ينسى التزين بربطة عنق مناسبة. حيث يتبنى رؤساء الدول ارتداء البدلات وربطات العنق على النمط الغربي السائد.
وقد تابع الجمهور كيف تخلص القادة العسكريون من بدلاتهم العسكرية عند توليهم رئاسة الدولة، مثل اليوزباشي جمال عبد الناصر، والجنرال حسني مبارك، والجنرال حافظ الأسد، والكولونيل الشاذلي بن جديد، والكولونيل علي صالح، والجنرال زين العابدين بن علي… وحتى صدام حسين، بالرغم من كونه لم يكن منتميا للجيش العراقي، إلا أنه ارتدى البزة العسكرية مع نياشين من أعلى الرتب، وفرض على جميع الوزراء ارتداء بدلة العسكر أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، التي استغرقت ثماني سنوات.
وأتيحت لي فرصة زيارة بيت الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك في إزمير، وقد تم تحويله إلى متحف من ثلاثة طوابق، وتفرجت على أقمصته مع ربطات العنق الجميلة، وقفازات اليد البيضاء، وأحذيته اللامعة، ونموذجاً من “كوستيماته”، وكُلُها تشهد على جودة صناعتها وتصميمها، وكونها من النوع الرفيع، وبالطبع، كلها من الموضة الراقية في زمنه.
أما العقيد الليبي معمر القدافي، فقد تحول إلى ما يشبه البهلوان، بتعدد أشكال وألوان ملابسه، كمن يشارك في لعبة التنكر، حتى أن معلقاً فرنسياً قال عنه بهذا الصدد إنه “عندما ننظر إلى صور القذافي نشعر بالدوار”. وتساءل آخر عن “ما هي الصورة التي أراد هذا الرجل أن يعطيها عن نفسه”. إلى غيرها من الأسئلة المماثلة. واجتهد البعض في محاولة لفك رموز ملابس العقيد التي تشرح دعايته السياسية، وقد بالغ في سنواته الأخيرة في الظهور بملابس مستوحاة من ملابس الملوك الأفارقة، ألم يطلق على نفسه “ملك أفريقيا”؟
سياسة الملابس وماوتسي تونغ
من هنا ندرك أن الملابس لها قوة رمزية سياسية، وقد تحولت الناشطة اليسارية الأمريكية المعروفة أنجيلا ديفس في السنوات الأخيرة إلى مصممة أزياء، من منطلق إدراكها لمدى أهمية الموضة في إيصال رسائل ذكية من أجل تغيير الأفكار حول القضايا العرقية. وعمدت ديفيس إلى تصميم ملابس مستوحاة من نضال الناشطين السود، الذين عرف عنهم تبني أنماط مختلفة من الملابس الاحتجاجية.
في الستينيات والسبعينيات الماضية انتشرت بين الشباب الأوروبي، اليساري بخاصة، موضة “قمصان ماو” من دون ياقة. وكما يدل عليها اسمها فهي تنتسب للرئيس الصيني ماو تسي تونغ، الذي نبذ الملابس الغربية واعتبرها ترمز إلى الرأسمالية وحظرها، واختار ملابس من التراث التقليدي الصيني. ويرجع الفضل إلى مصمم الأزياء الفرنسي بيير كاردان في انتشار قميص “كول ماو”، بعدما رأى أنه “قميص يجمع بين التقاليد والحداثة والديناميكية”.
والحداثة والديناميكية في السياسة هي من الأفكار التي تأسست عليها الثورة الفرنسية، وهي حداثة سياسية وجمالية وثورية في آن، حرّكت التاريخ باتجاه قيام التغيير وبناء نظام عالمي جديد وإطلاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي عصر “الذكاء الاصطناعي” يُطل من الكواليس سؤال “الذكاء السياسي”، أو ما يطلق عليه “فن السياسة”، بما يحتويه من قوة تواصلية تمثل تلك العلامة الدالة والعميقة على الحداثة. غير أن الصعود المرتقب لليمين المتطرف في وطن الثورة الفرنسية، كما تؤكد استطلاعات الرأي، هو نتيجة تتناقض مع الحداثة السياسية وضد المستقبل، وتُهدّد بالتراجع وبالنكوص والفوضى. إن فوز اليمين المتطرف في فرنسا سيكون بمثابة كارثة ليس على الفرنسيين فحسب، بل ستكون له تداعياته السلبية خارج فرنسا ومحيطها، وسيكون بمثابة كارثة على الديموقراطية والحريات العامة. ومهما تلوّنت وتعدّدت الشعارات المزيفة فإن “الذئب يبقى ذئباً ولو في ثوب الحمل“.