الاحتفالية بين فوضى الأشياء وديكتاتوربة الأشياء

الاحتفالية بين فوضى الأشياء وديكتاتوربة الأشياء

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام
       في رحلة هذه الكتابة، وصلت اليوم إلى النفس المائة، ولم يكن سهلا أبدا أن أصل الى هذا المقام من عمر هذا الكلام، والتي هى رحلة في غابة الإشارات والعلامات وفي غاية الوجود والحياة، وفي كل رحلة يكمن شيء قليل أو كثير من المخاطرة، وأعترف بأنها فعلا كانت مخاطرة، وأنها كانت ممتعة ومفيدة، فكريا وجماليا، ولقد مكنتني من أعرف نفسي أولا، وأن أختبر طاقاتي الفكرية والوجدانية والتخييلية ثانيا، وأن أقترب أكثر من عوالم هذه الاحتفالية المثيرة والمدهشة ثالثا، وأن أعرفها وأن أعرف العالم بها رابعا.
والموضوع اليوم هو الناس والأشياء في الفلسفة الاحتفالية، وهو وجود الأشياء المادية في منظومتنا الفكرية الرمزية، وهو تلك الأشياء التي قد نظنها محايدة وبريئة وما هي فعلا كذلك، والتي نلتصق بها وتلصق بنا في حياتنا اليومية، والتي لها وجود في محسوسنا ومتخيلنا وفي حياة إبداعنا الجمالي والفكري، وما يهنا اليوم. في هذا التفس الجديد، هو أن نسأل عن طبيعة حياتنا الجديدة في هذه الأشياء. والتي لها حياتها ولها حيوتها هي أيضأ. سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.
وما قد أقوله وأكتبه اليوم ليس جديدا بكل تأكيد. وقد قالته شخصياتي المسرحية في إبداعاتي المسرحية نيابة عني، ولكنها قالته بشكل مختلف وفي سياقات مختلفة وفي ظروف مختلفة،
ومن حق الاحتفالي اليوم أن يعيد التفكير في كثير من البديهيات والمسلمات، وأن يطرح ذلك السؤال الحارق حول علاقة الإنسان الجديد بالأشياء الجديدة في هذا العالم الجديد وفي هذا الزمن التاريخي الجديد والمتجدد، ومن واجبنا أن نعرف، هل ما زالت هذه العلاقة بسيطة وواضحة كما كانت قديما، أم أنها قد تطورت أو تقهقرت أو تعقدت أو التبست في هذا الواقع التاريخي الغامض والمعقد والملتبس؟
ومثلا، في علاقة الإنسان بذلك الشيء الذي يسمى العصا. يسأل الله موسى في كتابه العزيز (وما تلك بيمينك يا موسى) ليجيب (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى).
والحكواتي الشعبي في تراثنا المغربي والعربي الشعبي أيضا له عصاه، والتي هي من مستلزمات فعل الحكي والمحاكاة، مما يدل على أن هذه الأشياء لها وظائفها ولها خدماتها التي تؤديها للإنسان، ولها رمزيتها وذلك في حياته وفي حياة فنه وفكره وعلمه وأدبه أيضا.
ومرة أخرى نتساءل، جهرا وليس همسا، وأن نقول ما يلي:
– في ظل هذا الواقع التاريخي الجديد، هل ما زالت تلك العلاقة البسيطة والواضحة قائمة لحد هذا اليوم؟
– وما القديم فيها وما الجديد وما المستجد؟
– وكيف أصبحت الحياة مع هذه الأشياء الجديدة، والتي أتت بها هذه الأزمنة الجدية؟ وهل هي اليوم أسهل أم أصعب مما كانت؟
ونعرف أنه في زمن السينما الصامتة كانت لشارلي شابلن مفردتان أساسيان في شخصيته وفي لغته الجسدية، أما المفردة الأولى فهي عصاه التي لا تفارقه، والتي يتوكأ عليها ويشير بها، وله فيها مآرب كثيرة جدا. وأما الثانية فهي قبعته السوداء، ومن خلالهما معا، العصا والقبعة، أوصل إلينا هذا الفنان الاستثنائي والكوني كثيرا من الخطابات البسيطة والمعقدة وكثيرا من المفارقات الغريبة والعجيبة في عالم الناس.
 
عالم ممتلئ بالفراغ وبالخواء
   وأعتقد أن أقرب كتاب (مسرح العبث) الفرنسيين إلى الاحتفالية هو اوجين يونسكو، وقد يظهر أن احتفاليته جنائزية أو مأتمية أو عدمية أو فوضوية. وأنها بعيدة عن العقل والمنطق. والحقيقة غير هذا تماما، وهي فعلا نقد حاد وموجود للعالم الأوربي الغربي لما بعد الحربين العالميتي، وهي في نقدها تعلن عن خواء وتفاهة مجتمع الاستهلاك الغربي والأوربي، وهو في الأصل كاتب شاعر وساحر ومفكر وعراف ومتنبئ، وهو في حياته وفي حياة مسرحه يعشق الحياة لحد الحياة ويخشى الموت لحد الحياة، وهو محسوب خطأ على كتاب (مسرح العبث) مع أنه أكبر أعداء العبث الوجودي وأكبر أعداء اللامعقول في حياتنا اليومية، وهو يحب حضور الناس الأحياء في الحياة الحية، وليس حضور الكراسي الفارغة في الفراغات المكانية. والتي تحتاج لأن يملأها الناس الأحياء وليس الكراسي اليتيمة في المواقف اليتيمة، وهو ضد أن يكون الأثاث المادي في البيت أكثر حضورا من حضور الإنسان صاحب البيت، والذي ينبغي أن تكون قيمته أكبر وأخطر من قيمتها.
وفي مسرحية (المستأجر الجديد) ليوجين يونسكو، يطرح هذا الكاتب العاقل جدا مسألة علاقة الإنسان الحي بمحيطه المادي، وهو في هذه المسرحية احتفالي حتى النخاع، وذلك في تأكيده على إنسانية الإنسان وعلى حيوية الحياة وعلى مدنية المدينة. وعلى أسبقية المعقول على اللامعقول في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات.
وفي مسرحية (الخرتيت) يترافع يونسكو لفائدة الإنسان الإنسان، ويتمسك البطل بيراجيه بإنسانيته وبمدنيته وبحيويته. ويصرخ بموقفه الرافض لوجود الوحش الإنسان ولوجود الوحش في المدينة. ويصرخ ضد غياب المدنية في المدينة، وبهذا فمن الظلم أن ننسب كتابة هذا الكاتب إلى اللامعقول، والتي هي أساسا كتابة لأحلام إنسانية صادقة وصاعقة، وهي أحلام واعية وبأعين مفتوحة، وهي في كثير من كتاباته تصل درجة الكوابيس المخيفة والمرعبة، ونعرف ان ابن سيرين، في الثقافة العربية، قد فسر هذه الأحلام. وهل كان ابن سيرين هذا عبثيا؟ وسيغموند فرويد فسر الأحلام أيضا، وذلك من منطلق علمي، وقد كان في تفسيره عالما، وكان مؤسسا لعلم جديد هو علم النفس. ولم يكن ذلك الذي يراه وما يفعله عبثا في عبث، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مسرح (العبث) والذي هو مسرح جاد ومسرح عاقل،رغم أن الصحافة العربية وحدها أعطته اسم مسرح اللامعقول.
إن هذا العبث إذن، وباعتباره حالة، أو باعتباره موقفا، أو باعتباره شغبا فكريا وجماليا، هذا العبث له وجود حقيقي في التاريخ، واللامعقول أيضا له وجود، ليس في كتابات أوجين يونسكو الجادة والعاقلة والاحتفالية جدا، ولكنه موجود في هذا العالم المجنون جنونا عاقلا، والعاقل لحد الجنون العبقري.
وأوجين يونسكو، ذلك الكاتب الروماني الأصل. والهارب من جحيم نظام سياسي، شمولي واستبدادي قاتل. هذا الكاتب الباحث عن الحياة وعن الحيوية وعن الحرية وعن التحرر، وعن الاحتفالية والعيدية. والهارب من الموت ومن فوضى العلاقات بين الناس والناس، وبين الناس والأشياء، وبين الناس والأفكار، وبين الناس والمؤسسات الاجتماعية والسياسة. هذا الكاتب الحر، يجد نفسه في المجتمع الليبرالي الحر أمام حرية بلامضمون وبلا معنى، وأن يجد نفسه في المجتمع الاستهلاكي، ومن حيث لا يدري، تحت رحمة الأشياء، وتحت رحمة دكتاتورية أخرى غريبة وعجيبة، والتي هي ديكتاتورية المقتنيات في مجتمع الوفرة والاستهلاك، فالمستأجر الجديد ينتقل إلى مسكنه الجديد في الطابق السادس، ويظل النقالون يأتون بالأثاث حتى لا يبقى فيه مكان للإنسان، ومن باب المبالغة الكاريكاتورية تخبرنا المسرحية أنه ما زال الأثاث على السلالم وفي الطرقات. وأنه قد غطى كل مدينة باريس، وأنه قد منع مياه نهر السين أيضا عن الجريان، هذا هو الكابوس المرعب الذي ترجمه يونسكو إلى لغة المسرح. والذي أعطاه اسم (المستأجر الجديد).
 
وجود بين الحجارة والأشياء
    (عالم الناس أم عالم الأشياء؟) هذا التساؤل ورد في عنوان فرعي من كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) وفيه يطرح الاحتفالي سؤال العلاقة بين الإنسان والمكان، سواء في حياته اليومية العابرة، أو في حياة مسرحياته العابرة للزمن، والتي هي رسائل إلى الناس والتاريخ.
وبخصوص هذا الزمن الذي أوجد رؤيته ومنطقه وعلمه وفنونه ومقاييسه الجمالية والفكرية والأخلاقية المختلفة، يقول الاحتفالي بأن هذا الزمن الجديد لا يشبه الزمن الذي سبقه، وبالتأكيد فإنه لا يمكن أن يشبه الزمن الذي سوف يأتي، والذي هو اليوم (زمن غير احتفالي وغير عيدي. هو زمن يشيء الإنسان، ويحول الحياة فيه إلى مجرد سلعة، ويحول المواطن الإنسان إلى آلة جهنمية للاستهلاك فقط، ويحول الموسيقى إلى صخب وضجبج، ولا شيء غير ذلك، ووسط هذا الواقع الجديد يضيع الإنسان اليوم، وتتغير قيمه).
وفي التسعينات من القرن الماضي، وبالتحديد في ركنه الصحفي الأسبوعي من جريدة (مغرب اليوم) يطالعنا الاحتفالي بمقالة بعنوان (الدورة الاحتفالية) وفيها يقول ما يلي:
(ونؤمن كذلك بأن الأشياء التي تعاصرنا وتساكننا وتعايشنا أصبحت أكثر أهمية منا وأكثر قيمة وأكثر حضورا وفاعلية من الإنسان، كما أصبحت أكثر معاصرة من كل المعاصرين، وأكثر مدنية من كل المدنيين).
هو عالم الحجارة إذن. كما جاء في الاحتفالية المسرحية (الناس والحجارة) والتي كانت رؤية ورؤيا وكانت نبوءة، وهو عالم الوفرة أيضا، وهو عالم الازدحام، وعالم التفاهة، وعالم العبث، وعالم الغياب في الحضور وعالم الحضور في الغياب، وهو عالم الأشياء التي لا حاجة لنا بها، وهو عالم الأزرار التي قديكون لها معنى، أو قد لا يكون.
والسؤال الذي طرحه الاحتفالي على نفسه دائما هو السؤال التالي:
–  من الذي يفعل في الآخر، ويتحكم في الآخر، ويوجه الآخر؟
–  وهل الإنسان الحي. هو الذي بفعل في الأشياء، أم أن الأشياء هي التي تفعل في الانسان؟
– ومن منهما اليوم في السوق أكثر قيمة من الآخر، الإنسان ام الأشياء؟
– ومن هو الصانع الذي يصنع الآخر، وهل نحن الذين نصنع هذه الأشياء أم أن هذه الأشياء هي التي تصنعنا. من حيث ندري أو لا ندري؟
وبحسب الاحتفالي، فإن هذا العالم اليوم هو عالم مقلوب، وهو هرم رأسه في الأسفل وقاعدته العريضة في الأعلى، وفي هذا الواقع العبثي (أصبحت الأشياء تمارس علينا قمعها واضطهادها، وأصبحنا أمام غابات الأزرار واللوالب أميين ومتخلفين، نخاف أن نخطئ، وأن نضع أصابعنا على غير الأزرار المطلوبة، وأن يكون الخطأ قاتلا ومميتا ومدمرا) هكذا تحدث الاحتفالي في مقالة (الدورة الاحتفالية) بجريدة (مغرب اليوم) بعدد يوم 21 يوليوز من سنة 1993.
منذ ذلك الوقت المبكر إذن، أشار الاحتفالي إلى أن هذا العالم قد أصبح يسير باتجاه أن يضيع إنسانيته وحياته وحيويته ومدنيته وكل قيمه الجميلة والنبيلة، ولقد مضت – لحد هذا اليوم – أكثر من ثلاثين سنة، على تلك الصرخة الاحتفالية في وجه مأتمية وعدمية وعبثية وفوضوية العالم، ولقد كان ذلك هو خوفنا في ذلك الوقت، وكيف يمكن أن يكون حال خوفنا ورعبنا اليوم، بعد أن أصبح الإنسان الحي والعاقل والفكر والمبدع تحت رحمة الاشياء الصماء والعمياء؟
 
الاحتفالي وسؤال الفوضى غير المنظمة
    وفي (احتفالية الصعلوك) يتم تبادل الأدوار بين الشرطي والصعلوك. ويصبح الصعلوك شرطيا، ويصبح الشرطي صعلوكا، وذلك تبعا لاتفاق شفهي بينهما لليلة واحدة. ويترتب عن هذا التبادل في الأدوار حدوث جريمة في الحي في تلك الليلة، وهذا ما يفسر قناعة الاحتفالي بأنه لا أحد يمكن أن يكون بديلا عن الآخر في مسرحية الوجود، وعلى أن مسرحية الوجود تقتضي أن يلعب كل صاحب دور دوره الحقيقي، وأن يؤديه باتقان. وفي هذا المعنى يرد الاحتفالي المثل الشعبي المغربي الذي يقول:
(إذا كنت مطرقة دق
وإذا كنت مسمارا فاصبر للدق).
وبخصوص هذا الزمن الذي تسيدت فيه المطرقة، وأصبح الإنسان فيه تحت رحمة الضربات الموجعة يقول الاحتفالي ما يلي (إن هذا الزمن الجديد – وكما تتمثله الاحتفالية – هو زمن الالتباس والغموض والفوضى بامتياز، إنه زمن لتبادل الأدوار والمواقع ولتبادل الأزياء والاقنعة؛ هو زمن تختلط فيه الأوراق، وتتغير القيم، ولقد مضى زمن كانت البطولة فيه إلى انصاف الآلهة، تماما كما مضى ذلك الزمن الذي انتقلت فيه البطولة إلى الملوك وإلى الأمراء وإلى قواد الجيش. واليوم. ونحن نعيش عصر بطولة الإنسان، أي الإنسان الإنسان، هل يمكن أن نقول بأن هذا اليوم قد مضى هو الآخر؟ وهل نقول بأن البطولة اليوم. وفي زمن الوفرة والاستهلاك، قد انتقلت إلى الأشياء؟).
ومثل ما حدث في مسرحية (المستاجر الجديد) فإن الأشياء اليوم قد أغرقت البيوت، وأغرقت الشوارع، وأغرقت الساحات، وأصبح هذا العالم هو عالم الاشياء، بعد أن كان عالم الناس وكان عالم الحضور، وكان عالم التلاقي الإنساني، وكان عالم التعييد الاحتفالي، وذلك في الساحات الفارغة، وليس في الشاشات الضوئية فقط.
وبخصوص المسرحية الوجودية التي تنكتب اليوم، بنا ومن خلالنا، فإن البطولة فيها (هي بطولة الأشياء. فهي المحرك الذي يحرك، وهي المحور والجاذبية التي تجذب إليها الأعين والأذهان والنفوس والأرواح) وكثير من الأجساد البشرية اليوم يمكن وضعها في موضع الأشياء فقط. أو في موضع السلع والبضائع. والأمر في هذا الواقع القديم الجديد يتعلق بسوق كبير (تدخلها البضائع ولا يدخلها الإنسان ) كما جاء في (بيان لآخر القرن) والذي أصدرته الاحتفالية في سنة 1999 أي قبل الانتقال إلى قرن جديد وإلى ألفية جديدة.
ولأن هذه الاحتفالية هي أساسا فكر وعلم وفنون وصناعات الإنسان المدني، فقد وجدت نفسها مطالبة بأن تقرأ هذه المتغيرات قراءة فكرية رصينة ومتأنية، وأن تجيب على أسئلة اللحظة وعلى كل تحدياتها، وأن تعلن أمام كل العالم بأن إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة وجماليات القيم الجميلة والنبيلة في خطر. وأمام هذا التحدي الوجودي وقفت الاحتفالية متسائلة ومستفهمة ومستنكرة ومتمسكة بثوابتها التي لا يمكن أن تغيرها متغيرات عابرة في أزمان تاريخية عابرة.
وفي خضم هذه الفوضى، غير المنظمة وغير المرتبة، وجدت الاحتفالية نفسها (وهي التي تنادي بالعفوية وبالتلقائية وبالشفافية وبالتحرر، وجدت نفسها – من حيث لا تدري ولا تريد – أمام حرية غريبة وعجيبة، أي أمام حرية الشيء – السلعة، وليس أمام حرية الإنسان الحي).
في هذا الواقع الجديد أصبحت الأولوية للسلعة وللتجارة وبهذا فقد أصبح الحديث عن الاقتصاد الحر أهم وأخطر من الحديث عن الإنسان الحر وعن التعبير الحر وعن المجتمع الحر) هكذا تحدث الاحتفالي في البيان التاريخي الذي استقبل به القرن الحادي والعشرين ودخول الألفية الثالثة، والذي أعطاه اسم (بيان لآخر القرن) والذي نشرته جريدة (الميثاق الوطني) على حلقات.
 
الروح الاحتفالية في عالم بلا روح
    هذه هي الاحتفالية إذن، في كل أبعادها ومستوياتها ودرجاتها الحقيقية، وبهذا فقد أمكننا أن نقول اليوم ما يلي:
واهم وخاطئ هو كل من يظن أن نضال الاحتفالي، طوال العقود الخمسة الماضية، كان من أجل مواقع في المجتمع، أو كان دفاعا عن مسرح خاص بتقنيات خاصة، أو كان مساندة لمسرحيات، أو كان انتصارا لمسرحيين احتفاليين، لأن الأمر يتعلق أساسا بالدفاع عن القيم الإنسانية في بعدها الكوني، ويتعلق بحماية قيم الجمال والكمال والانتصار للحياة ولحوية الحياة والأحياء. وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي.
(إن الروح الاحتفالية تعيش اليوم مأزقا حقيقيا، وهذا شيء ينعكس على الاحتفالية) وكل النضال الاحتفالي كان من أجل حاضر ومستقبل هذه الاحتفالية. والتي جاءت (لتكرم الإنسان ، وتحتفي به، وذلك في زمن احتفال الأشياء واحتفال السلع،
وذلك في زمن احتضار القيم وموت الإنسان، ولتحتفي بالجمال أيضا، وذلك في زمن أصبح الجمال فيه مساحيق وأقنعة وجراحة تجميلية، وهي تحتفي باللغة الفردوسية، وذلك في زمن تطغى فيه لغة الحديد والنحاس ولغة الخشب) وهذا كلام آخر من نفس (بيان لآخر القرن).
ومن جميع الفنون المشهدية التي أوجدها الإنسان، يظل المسرح هو الأقرب إلى الحقيقة، وهو الأقرب إلى الحياة، وهو الأقرب إلى الجمال، وهو الأقرب إلى الواقع، وبهذا فقد كان دائما هو الأبعد عن الصناعة وعن التصنيع وعن التصنع، وهو أساسا نحن وليس غيرنا، وهو الحضور والتلاقي، وهو الاحتفال والتعييد في الآن هنا، وهو وجودنا الذي لا يمكن أن نختزنه في صور ثابتة أو متحركة. ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يقول في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) وذلك في تعليقه على صورة العالم في حالاته الجديدة (هو عالم تصبح فيه السينما أخطر من المسرح، والأصل في هذه السينما أنها صناعة وتجارة، وذلك في زمن الصناعة والتجارة، وتصبح هذه الآلية الصناعية التي تنتقل الصور أكثر، سحرا وجاذبية من الواقع).
وفي هذه الوسائل التواصلية الجديدة (تصبح الصورة أخطر من الجسد، وتكون الرواية أهم من العيش الحي، والذي يمثله الاحتفال المسرحي، وتكون المخدرات في هذا العالم المصنع (أغلى من الخبز وحتى من الحلوى)، و(تصبح المنتديات الليلية والكباريهات والمراقص (أنجح من المنتديات الثقافية والعلمية ومن المسارح).
 
آخر الكلام
    وما يفسر كل هذه المواقف، هو أن الاحتفالية في صدقها ومصداقيتها ضد الغش وضد الزيف وضد الاستبداد السياسي. وضد تجارة الوهم. وهي في انحيازها إلى الحقيقة محكومة بأن (تخاصم البيروقراطية، وأن تعادي الوثنية والإيديولوجيا. وتحارب الزعامات الهوائية، إنها مع الإنسان الإنسان، أي وهو جسد ونفس وعقل وروح ووجدان، وهي ضد هذا الإنسان إذا كان مجرد صنم أو كان مجرد وثن، وكما أنها ضد المركز المتوحش، والذي يأكل حواشيه وأطرافه)، وبهذا فهو يأكل نفسه من حيث يدري أو لا يدري، وهذا هو حال العالم الغربي – الأوربي اليوم وغدا، والذي يحارب امتداده الإنساني، ويقتل نفسه، من حيث يدري أو لا يدري…
عند هذا الحد يقف المحارب الاحتفالي، لا ليستريح، أو يريح، لأنه مقتنع بأن الراحة الحقيقية لا تليق إلا بالموتى، وهو يتوقف مؤقتا ليحارب في جبهات أخرى.
Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي