بورقيبة الذي رميناه بالخيانة!
جورج الراسي
في مثل هذا اليوم 3 آب – أغسطس، كان التوانسة يحيون ذكرى الولادة “الرسمية” للحبيب بورقيبة، عام 1903. (البعض يقول إنه من مواليد العام 1900، وربما العام 1898). هو الذي أسلم الروح في 6 نيسان – أبريل من عام 2000، بعد تنحيته عن السلطة في 7 تشرين الثاني – نوفمبر 1987، في انقلاب “طبي” أبيض، قاده وزير دفاعه الجنرال زين العابدين بن علي.
وكان قد أمضى على رأس السلطة 31 عاما و 6 أشهر و 20 يوما، ضاربا واحدا من الأرقام القياسية التي أصبحت بمثابة “مزحة” عند العرب.
مؤرخو العهد البورقيبي يحفظون ثلاث علامات فارقة خلال حكمه الطويل: الموقف من الدين، والتعامل مع قضية المرأة، والنظر إلى قضية فلسطين.
“الجهاد الأكبر” ضد التخلف
لا يزال التوانسة يذكرون “حادثة” 15 آذار – مارس 1964 ظهرا ، خلال شهر رمضان، حين احتسى الحبيب بروية وهدوء، وعلى الملأ، كأسا من العصير، والأنظار شاخصة إليه في حالة من الذهول التام، ليشرح مطولا أن من واجب المؤمن محاربة البؤس قبل احترام الطقوس… “فالحرب المقدسة لم تعد ضد الكفار، بل أصبحت ضد التخلف، ومقاومة الاستعمار كانت بمثابة “الجهاد الأصغر”، لكن بعد الحصول على الاستقلال تم الإنتقال إلى “الجهاد الأكبر”، وهو محاربة التخلف والنجاح في التنمية الاقتصادية. ولا يمكن تحقيق هذا إلا برفع نسبة الإنتاج الوطني، الأمر الذي لا يتفق دائما مع الصيام والإرهاق..
وبما أنه يجوز للمسلمين الإفطار في حالة الجهاد ضد العدو، وبما أن العمل في الإسلام يعتبر عبادة، فقد دعا “المجاهد الأكبر” – وهذا لقبه – مواطنيه إلى التخلي عن الصيام، وإعطاء الأولوية للعمل والنهوض بالإنتاج.
رفض مفتي الديار التونسية آنذاك الإنسياق وراء هذه الإجتهادات “الرئاسية”. كما أن العديد من المشايخ والفقهاء – و من بينهم ابن باز – قام بتكفير الزعيم التونسي، بخاصة و أنه أتبع مواقفه تلك بنظرة سلبية لجوانب من شخصية الرسول الكريم، وأقر اعتماد الحساب في ضبط دخول وخروج الأشهر القمرية، على اعتبار أن العرب هم أول من أبدع في علوم الحساب والفلك..
“مجلة الأحوال الشخصية”
لم يقف ” المجاهد الأكبر ” عند هذا الحد في زعزعة التقاليد السائدة، فما لبث أن اتخذ إجراء عرف تحت اسم “المرسوم رقم 8 “، يحظر فيه ارتداء الحجاب، بخاصة في مؤسسات القطاع العام، التي كانت تمتنع عن توظيف المحجبات والمنقبات… لا بل أطلق على ذلك اللباس صفة “الزي الطائفي”.
والغريب في الأمر أن هذا الموقف مناقض تماما لموقفه خلال الحقبة الاستعمارية، حين كتب مقالا شهيرا بعنوان “الحجاب”، اعتبر فيه ذلك اللباس بمثابة تجسيد للهوية الوطنية في مواجهة الحرب الثقافية التي كان يشنها الاستعمار.
وقال أحد وزراء الشؤون الدينية فيما بعد، في عهد الرئيس بن علي، إن الحجاب من بقايا حكم المهدية بعد سقوط الدولة الإسلامية الأولى في القيروان، الذي لم يستمر أكثر من 92 عاما.
هذا الموقف من الحجاب ما لبث أن انسحب على الموقف من المراة بشكل عام. فقد كانت تونس أول بلد عربي يصدر “مجلة للأحوال الشخصية” منذ أكثر من سبعين عاما، تمنع تعدد الزوجات، وتحفظ للمرأة حريتها وكرامتها وحقوقها كاملة، وتقر تشريعات للتنظيم العائلي والحد من النسل.
هذه التوجهات كلها جعلت التيار الإسلامي المتنامي في البلاد يتخذ مواقف عدائية تجاه النظام، تجلت بشكل واضح في الصدامات التي جرت بين الطلاب الإسلاميين وقوات الأمن في 23 نيسان – أبريل 1987، و انتهت بمحاكمات أمام محكمة أمن الدولة التي أصدرت في 27 أيلول – سبتمبر 1987 أحكاما ضد 90 فردا من أتباع “حركة الإتجاه الإسلامي” – (النهضة لاحقا) -، من بينها سبعة أحكام بالإعدام، من ضمنها خمسة غيابية، فيما حكم على زعيم الحركة راشد الغنوشي بالسجن المؤبد (إلا أنه كان يعيش في لندن حينها).
ومن غرائب الأقدار أنه يقبع فعلا في السجن حاليا في عهد الرئيس قيس سعيد، بعد أن كان حكم البلاد لفترة في أعقاب “الربيع العربي” المزعوم…!
“اقبلوا بقرار التقسيم”…
مواقف الحبيب بورقيبة الصادمة لم تكن لتقف عند حدود التعامل مع الدين ومع المرأة، بل دخلت المجال العربي الأرحب، لكي تشكل علامة فارقة.
بورقيبة ككل أبناء جيله كان من المتحمسين للوحدة المغاربية، وبذل هو شخصيا جهدا كبيرا لتسوية النزاعات الحدودية الموروثة من عهد الاستعمار بخاصة مع كل من الجزائر وليبيا..
لكن التجاذبات التي عصفت بالمنطقة منذ بداية عهد الاستقلالات جعلته ينجرف أحيانآ وراء لعبة المحاور. ففي 12 كانون الثاني- يناير 1974، وكان في ضع صحي سيئ للغاية، وقع مع العقيد القذافي “اتفاق جربة”، الذي ينص على قيام “وحدة اندماجية” بين البلدين تحت اسم “الجمهورية العربية الإسلامية”.
لكن زوجته وسيلة تخلت عن “الشوبنغ” في باريس، وهرعت على وجه السرعة لإجهاض هذا المخلوق العجيب، بمساعدة رئيس الوزراء آنذاك الهادي نويرة… فيما دفع ثمن تلك “الخبصة” وزير الخارجية محمد المصمودي المعجب بخرجات العقيد، والذي انتهى به الأمر مطرودا من وظيفته مع سبعة من المعارضين، ثم بعد ذلك طرده من الحزب الحاكم خلال انعقاد المؤتمر التاسع في الموناستير – مسقط رأس الحبيب – في أيلول- سبتمبر من عام 2003.
وفي مرحلة لاحقة وقعت تونس مع الجزائر في 19 آذار- مارس من عام 1983 “معاهدة الأخوة الوفاق”، التي طبعت العلاقات بين البلدين حينها، وشكلت توازنا مع التقارب الليبي – المغربي الحاصل حينذاك، والذي انتهى هو الآخر إلى “وحدة” أخرى لا تقل عجائبية عن “اتفاق جربة”…!
لكن موقف بورقيبة الأقرب إلى النبوءة كان موقفه من قضية فلسطين…
فما زال الكثيرون يذكرون خطابه في مدينة أريحا في فلسطين خلال جولة قام بها إلى المنطقة في 11 آذار – مارس 1965، حين دعا إلى القبول بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 حتى يتم إحراج إسرائيل التي تستند في شرعية وجودها إلى ذلك القرار.
كم كِلنا له من أوصاف الخيانة في ذلك الوقت… لا أقل من فلسطين من النهر إلى البحر…
وهو يعيد ويكرر: “يا جماعة من غير الجائز مواصلة تخدير الشعوب… فمنذ سبعة عشر عاما (آنذاك – اليوم صاروا أكثر من نصف قرن) لم يتقدم العرب قيد أنملة… آن الأوان للتخلي عن الديماغوجية، الحرب مع إسرائيل مستحيلة. القوى العظمى تضمن بقاء الدولة العبرية، وتمنعنا من شن الحرب. أنا أقترح حلا على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، إذ يجب أن لا ننسى أننا اليوم في وضع المغلوبين…”.
هكذا تكلم زرادشت بورقيبة عام 1965!!
نعرف بعد ذلك أن تونس استضافت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1983 بعد خروجها من بيروت إثر الغزو الإسرائيلي عام 1982، وتعرض مقرها هناك لقصف الطيران الإسرائيلي في أول تشرين الأول – أكتوبر عام 1985.
لكن ضواحي العاصمة التونسية الأنيقة شهدت بعد ذلك انطلاق المحادثات الفلسطينية- الإسرائيلية – الأميركية….
هذه بعض جوانب الإرث البورقيبي… وقد طلب هو نفسه قبل رحيله بسنوات عديدة أن يكتب على شاهد قبره في روضة آل بورقيبة ومقبرتهم الفخمة في الموناستير:
“هنا يرقد أبو الإستقلال، محرر المرأة، ومؤسس تونس الحديثة”…
Visited 41 times, 1 visit(s) today