الإحساس بمقروئية الترجمة ودقَّة معاني النص
سعيد بوخليط
أهم معركة تنتظر المترجِم، بحيث تحسم إيجابا أو سلبا خاتمة عمل اشتغل عليه طيلة فترة زمنية، تطول أو تقصر حسب حجم العمل ومستوى زخم بنيته الإبداعية وطبيعة العلاقة التي نسجها معه المترجِم، يختزلها الإحساس العارم والمظفَّر بمقروئية النص لحظة اكتماله، الذي لايوازيه على مستوى البهجة والانتشاء والمتعة سوى إتمام مشروع الترجمة، بتحقُّق انسيابية ملموسة على مستوى المعاني وتلاحق دلالات العبارات والبنيات التركيبية، دون عَقَبة كأداء حتى لا أقول عائق طفيف، تلكُّؤٍ لساني متعِبٍ، حُبْسَة خانقة، أو التباس سياقي يصيب القارئ بالدّوار والتِّيه، إلخ.
لكن، هل تبقى مجرد انطباعات استيهامية جراء تداعيات نفسية يختبرها المترجِم؛ بكيفية أو أخرى، قصد تحقيق إشباع الرضا عن الذات ومنجزها من خلال إبداع الترجمة، أم أن الأمر يتعلق فعلا بتجلٍّ موضوعي قابل للتبلور الحسي؟
طبعا، يكتسي دائما التأويل بهذا الخصوص طابعا نسبيا ينهل من الرافدين معا، مثلما يحتكم في نفس الوقت إلى مبرِّرات أخرى، إلا أنَّه عموما رغم تعدُّد ممكنات التقييم وتباين مشاربها، يستمر القارئ في نهاية المطاف بعد جلِّ القراءات، سيِّد موقفه، مالك أسباب الحياة والموت، سواء بالنسبة للمترجِم أو صنيعه.
إذن، مهما استفاضت الأبحاث النصيَّة، واجتهدت أكثر فأكثر مفهوميا، بالسعي إلى عقلنة فطرية المعنى ومحاولة التحكُّم جِدِّيا في حقل انزلاقاته، بواسطة متاريس خُطاطات نظرية مجرّدة، احتماء من هزَّات ارتداداته الانطباعية الفورية، خلال العلاقة الأولى مع النص، فلا شك يتمّسَّك التصور الرومانسي في هذا الإطار بموقعه الريادي والطليعي، رغم شتى الثورات التي شهدها مجال التأويل وماهية القارئ، الذي يشكِّل في نهاية المطاف الفيصل الحاسم، بخصوص نجاح الترجمة في تبليغ الرسالة أو إخفاقها، لكننا قد نختزل شساعة هذا الإشكال بطريقة إجرائية، إذا وضعنا المترجِم نفسه ضمن قائمة القرَّاء بل في المقدمة، انطلاقا من مسلمة أنَّ الترجمة قراءة ضمن القراءات.
هناك ثلاثة سبل سالكة بكيفية أو أخرى، قصد توقيع ترجمة دقيقة تستوحي قدر ماتستطيع حيثيات المضمون، دون اقتراف خيانات جسيمة :
- التواصل إن أمكن بين المترجِمِ والمؤلِّفِ،من أجل فهم سياقات المعنى بهدف تمثُّل ماأُشكل ثم استعصت حمولته الدلالية. تسوية يستحيل تعميمها على كل التراث البشري الممتدِّ طبعا في التاريخ والجغرافيات، ويبقى مجالها ضيقا للغاية، لأنه يفترض مبدئيا حياة كليهما خلال نفس الحقبة، وحتمية تعارفهما وتواصلهما واتفاقهما على الفكرة والمشروع والرغبة والكيفية، إلخ. مسألة نسبية جدا، غير قابلة للتطبيق إجرائيا و باستمرار، من ثمَّة يصعب تعميمها أو اتخاذها مرجعية.
- المقتضى الثاني الأكثر فعالية قياسا للأول وقابليته نسبيا للتبلور عمليا، يستدعي مسألة مراجعة الترجمة من طرف باحث آخر، أكبر كفاءة وأكثر أهلية، قد يلتجئ إليه المترجِم نفسه بناء على خبرته وتجربته وعلاقاته بأهل المحيط. منهج تستثمره إلى حدٍّ ما، بعض دور النشر المحترفة أساسا المستندة ضمنيا على خلفية مشروع معرفي وتشتغل إداريا بكيفية مؤسَّساتية، لكنه أيضا إجراء غير سهل بتاتا من الناحية التقنية و التدبيرية. قد يكون من الناحية العملية بطيئا وثقيلا، يهتدي بالعمل المنجز نحو دوامة بيروقراطية لاتنتهي مسالكها، وربما تخلق حساسيات شخصية مجانية بين الفاعلين.
- الإجراء الثالث، ويظلُّ حقيقة الأقرب معرفيا ومنهجيا وتطبيقيا، بخصوص ممكنات إنتاج ترجمة سلسة وشفَّافة، يكمن ذلك في ضرورة توفُّر شَرْطي التخصُّص المعرفي والشغف النفسي. قد يبدو طرح مسألة التخصُّص مبتذلة مادامت هي قضية مسلَّم بها، لكن الترجمة المهنية والتجارية وتحت الطَّلب ثم التأثيرات السلبية لمختلف ذلك، معطيات تستلزم التذكير بها، وفي نفس الوقت جعل هيبة التخصُّص معركة شخصية دؤوبة وضارية أيضا، تتحقَّق استراتجيا على أرض الواقع بالسعي، من خلال وصلها أساسا بوازع أخلاقي وقيمي ذي نكهة شاعرية عذبة، حتى يغدو استئناسا وألفة نتيجة صداقة فكرية يومية، يلزمها حتما التشكُّل والتوطُّد بين المترجِمِ ونص الترجمة. تعتبر هذه الرفقة مدخلا لا غنى عنه، قصد استبطان متواليات النصِّ واستيعاب معطيات المجال ونوعية الخطاب، وكذا جنس المنظومة المتحكِّمة في نسج لبنات مرتكزاته.
عندما يبدأ إحساس الشغف بالتجلِّي شيئا فشيئا، يحدث الوقوع في حبِّ الموضوع، الانغماس بين ثناياه، التعلُّق بوجوده، لذلك تخبرنا بعض الأقاصيص عن مترجمين، أصابهم الشغف تماما، فقرَّروا الرحيل بسرعة صوب أمكنة أخرى بعيدا عن ضوضاء محيطهم الأسروي والمجتمعي، قصد الانقطاع كلية لعوالم صديقهم الجديد بالعمل على كتابة الترجمة وترجمة هواجسهم حينها في خضم عزلة وجودية، تكاد تكون مطلقة، تمنح صاحبها قدرة هائلة على الصمت حتى يصغي تماما وبعمق، ثم اكتساب سمات الصبر والمكابدة والقراءة اليقظة والحيَّة، التي يستحيل بدونها تقديم ترجمة قابلة للحياة، أي فكر يخاطب الأبدية، خلود الكاتب والمترجِمِ والترجمة.