السودان الجريح (6): الصادق المهدي.. وريث الثورة المهدية

السودان الجريح (6): الصادق المهدي.. وريث الثورة المهدية

جورج الراسي

        ثلاث عائلات رئيسية  تجاذبت  اقدار السودان  منذ ما قبل استقلاله  حتى هذا اليوم: المهدي والميرغني والترابي…

لكن أثر عائلة المهدي كان دائما الأكبر بما لا يقاس  نظرا لدورها في تحرير السودان من الهيمنة الخارجية  بريطانية كانت أم مصرية، إذ تكونت دولة مصر والسودان، بعد أن وصلته عبر مصر  سلطة الخلافة العثمانية التي وصل بها الأمر إلى حد إلغاء العربية وفرض اللغة التركية.

  الثورة المهدية

     تشكل الثورة المهدية علامة فارقة في تاريخ السودان الحديث، وهي التي امتدت بين عامي 1881 و1899، يعني على ما مدار ما يقرب من  عشرين، مما يجعلها إحدى أهم الثورات العربية في العصر الحديث. وقد لعبت دورا محوريا في صياغة شخصية السودان  وثوابت مواطنيه.

شكل العام 1884 ذروة تلك الثورة حين  حاصرت  جماعات  من المحاربين  المندفعين مدينة الخرطوم  وعزلتها عن العالم بقطع وسيلة الاتصال الوحيدة آنذاك: التلغراف…

كان السودان (الذي أعطاه العرب هذا الاسم  بسبب لون بشرة أهله ) تحت الهيمنة  المصرية – الانكليزية المشتركة  منذ ما يقرب من نصف قرن. فقد تحالفت قبائل الوسط مع  زعيم الثوار  المسلم محمد احمد ابن عبدالله  الذي اكتسب صفة “المهدي”.. المرسل من الله لتخليص شعبه، لتخوض حربا شعواء ضد فوات العقيد الإنكليزي شارلس غوردون  Charles  Gordon الملقب  بـ “غوردون باشا ” بفعل العدوى المصرية… وكان التاج البريطاني

قد عينه حاكما على السودان بفضل انتصاراته السابقة في الصين. وكان الثوار  قد ابادوا  فرقة عسكرية انكليزية  أرسلت على وجه السرعة من مصر  لمواجهة الثوار، ونتج عن ذلك تخلي التاج البريطاني تماما عن غوردون،  الأمر الذي اضطره  لابتكار  أساليب عديدة لمواجهة الموق ، كان من بينها  كسب بعض العلماء،  علما أنه كان يكن احتراما كبيرا للدين الاسلامي رغم كونه مسيحيا، فيما كانت ثورة المهدي ثورة دينية بكل ما في الكلمة من معنى. وقد ألهمت شخصية غوردون  العديد من الأعمال السينمائية والروايات التاريخية.

 وريث تاريخ عريق 

    الصادق المهدي من مواليد 25  – 12 – 1935 أي يوم عيد الميلاد (مما جهله يعتبر نفسه  “مخلصا” للسودان..!) في ضاحية  العباسية  إحدى ضواحي  مدينة  أم درمان. وهو حفيد  السيد عبد الرحمن  المهدي، الذي هو بدوره حفيد محمد أحمد  الشيخ الصوفي مفجر الثورة ضد الانكليز،  زعيم “الأنصار” و “المهدي المنتظر”.

ومن الطريف الإشارة  إلى أن الصادق المهدي  هو خال الممثل  السوداني  – الانكليزي  Alexandre  Siddig…( إن للله في خلقه شؤون..!)..

وتابع الصادق دراساته العليا  في بريطانيا  – جامعة Oxford  في Victoria  College.

وقد ورث  زعامة  الأنصار  وحزب  “الأمة ” الذي تأسس عام  1945 لخوض الحياة السياسية، وكان يرفع شعار   “الديموقراطية  السودانية “، ويتميز بنزعة قومية… و هو  بالمناسبة تربطه  علاقة عائلية  بصهره حسن الترابي،  إذ  أنه متزوج  من شقيقة الترابي. لكن ما تجمعه العائلة… قد تفرقه السياسة!

لقد تقلد الصادق المهدي رئاسة الوزارة في السودان مرتين . المرة الأولى لم تدم سوى بضعة أشهر، من 27 – 7 – 1966 إلى 18 – 5 – 1967، أي حتى قبل أسبوعين من حرب  “الأيام الستة ” .. و المرة الثانية دامت أكثر من ثلاث سنوات  بين 6- 5 – 1986  و  30 – 6 – 1989، حين أطاح به  وبأحمد الميرغني انقلاب عمر حسن البشير المتحالف مع صهره اللدود حسن الترابي!

هل قتل عمه …؟

    يقال، والعهدة على الراوي – أن الصادق المتدين الصوفي، الذي تولى رئاسة الحكومة وقيادة الحزب وهو في العقد الثالث من العمر ، كان على خلاف شديد  مع عمه  الهادي (طبعا)  الذي كان يرى أن الإمام ينبغي ألا يتدخل في السياسة ، وأن “ما لقيصر لقيصر “… وذهب البعض للقول إنه ساهم في التخلص من عمه على يد الرئيس  السوداني  “المؤمن” جعفر نميري،  الذي يكون قد  قتله في هجوم على جزيرة  ابا ، متسلحا بمعارضة الصادق لعمه…

لكنه مع ذلك، تعرض للسجن في عهدي نميري والبشير ، وعاش منفيا طوعا في مصر  التي كان سابقا يناصبها العداء ، ثم عاد إلى السودان باتفاق مع البشير، لكنه ما  لبث أن عاد إلى صفوف المعارضة، حين لم يأخذ نصيبه  من السلطة…

وقد “فلسف” موقفه فيما بعد بقوله بأن  “الشعبية قد تكون أفضل من المناصب”، بما في ذلك رئاسة الجمهورية… بخاصة عندما ترى أنصاره يسارعون إلى تفبيل يده أو السجود أمامه كأنه إمام منزل..!

  وهو  حين يكون بعيدا عن المسؤوليات العامة ينصرف إلى وضع مؤلفات في الفكر والإسلام الحديث  والتفسير القرآني.

و هو صاحب مواقف لافتة بانفتاحها على المرأة – شأنه شأن حسن الترابي –  وبمنهاضته للكثير  من المسلمات والتقاليد. فقد رفع لواء محاربة ختان النساء وذهب إلى حد كتابة  الشعر  ضد هذه الممارسات. ويكاد يكون فكره “علمانيا” في كثير من المحطات، وهو من دعاة الانفتاح والاعتدال ومن محبي الموسيقى ومعظم الفنون، يعني “تربية انكليزية”… يزيدها  رسوخا  هوايات ركوب الخيل  ولعبة البولو ورياضة التنس، بالإضافة لقراءة ونظم الشعر… ورغم ادعاءات الزهد  في السياسة ، إلا ان هذه “السوسة” ظلت تنخر في صدره حتى آخر لحظة…

 السياسة… حتى الرمق الأخير…

    الانتخابات  “الديموقراطية ” الوحيدة  التي عرفها السودان  منذ استقلاله  جرت عام  1986. في الأعوام  الأربعة التي تسلم فيها الحكم سوار الذهب، في المدة الفاصلة بين الإطاحة بجعفر نميري وانقلاب عمر حسن البشير.

فقد  صدر في تلك السنة  دستور مؤقت، وتشكل مجلس تشريعي  ضم 301 عضوا، وبقيت السلطة بيد رئيس الوزراء الذي  ينتخبه المجلس.

وقد بينت تلك الأنتخابات حجم أهم الأحزاب المتواجدة في الساحة، وفي طليعتها حزب الأمة الذي نال 99 مقعدا، والحزب الديموقراطي الوحدوي الذي حاز  63 مقعدا،  و”الجبهة القومية  الإسلامية ” التي كان يتزعمها  حسن الترابي – والتي جاءت  بالبشير إلى سدة الحكم بعد انقلابه العسكري  – حلت في المرتبة الثالثة بحصولها على  51 مقعدا.

والواقع إن حزب الأمة وقع فيما بعد ضحية العديد من الانقسامات، حتى قيل إن خمس فرق تتنازعه،  أهمها  جماعة “إصلاح وتجديد”، التي ظهرت على الساحة عام  2002. بزعامة مبارك الفاضل المهدي، ابن عم  الصادق، ووزير داخلية سابق خلال فترة حكمه 1986 – 1989.

الفريق الثاني تزعمه  الصادق الهادي المهدي ، نائب  الحاكم ووزير تربية سابق في ولاية الخرطوم …

وفي الفترة الاخيرة من حياته ترأس المهدي “تحالف نداء السودان ” المعارض لحكم البشير ، مع استمرار تزعمه  لطاىفة الأنصار،  أكبر الطوائف الدينية في البلاد.

وضم التحالف أحزابا سياسية أبرزها حزب الأمة القومي، وحزب المؤتمر السوداني إلى جانب فصائل مسلحة، هي “الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، العدل والمساواة  برئاسة  جبري ابراهيم ، و”تحرير السودان ” – جناح ميني مناوي، و”تحرير السودان ” – جناح عبد الواحد نور.

“الوريثة”… مريم…

    أبرز وجوه حزب الأمة اليوم مريم  ابنة الصادق, التي تحتل منذ  مطلع العام  2019  متصب نائب  رئيس الحزب. هي من مواليد العام  1965 في أم درمان.. طبيبة مختصة بطب الأطفال  الذين عالجتهم على مدى  ست سنوات  في  تسعينيات القرن الماضي .خريجة جامعة  Ahfad وNeelain في الخرطوم، كما  تابعت دورات في جامعات الأردن وLiverpool  بين عامي  1991  و 1995 .

تم توقيفها في آذار – مارس  2019 بسبب  الأحداث، وعينت وزيرة للخارجية في 8  شباط/ فبراير  من عام  2021  حتى شهر  آب /أغسطس  من نفس العام  في حكومة حمدوك الانتقالية.

وهي التي أعلنت قرار  مجلس الوزراء  بتسليم عمر حسن البشير  إلى المحكمة الجنائية الدولية  بسبب مذابح دارفور. وبعد الانقلاب الذي  أطاح بالحكومة  المدنية دعت إلى مواصلة المقاومة بشكل سلمي..

أما الصادق  فقد رحل في منفاه الأخير في أبو ظبي في مثل هذه الأيام أيضا،  26 – 11 – 2020 ، متاثرا بوباء كورونا.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني