تبّون وبلينكن: معضلةُ بروتوكول أم انتهازيةٌ خطابيةٌ؟

تبّون وبلينكن: معضلةُ بروتوكول أم انتهازيةٌ خطابيةٌ؟

د. محمد الشرقاوي

عادة ما ترنو اللقاءات السياسية بين كبار المسؤولين، أمام الكاميرات وأعين الرأي العام إلى نوع من التكافؤ والتوازن بين شطريْ المشهد: ترحيبُ صاحب الأرض بالضيف (كما يقول قاموس كرة القدم)، والإشادة بالعلاقات الثنائية، ثم حديث المسؤول الزائر، وبعد ذلك يتم الرد على عدد متواز من الأسئلة من مراسلي وكالات وقنوات إخبارية من البلدين. وغالبا ما يتوخى مسؤولو البروتوكول من الجانبين التعادل في كل شيء، حتى في حجم علم دولتهم، وأين سيصافح المسؤولان بعضهما بعضا، ومستوى ارتفاع أو تدني الميكروفونات، والمدة الزمنية التي يستغرقها اللقاء أو المؤتمر الصحفي المشترك، وبقية التفاصيل الدقيقة في تركيب المشهد المشترك.

لكن لقاء الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير الخارجية الأمريكية أنثوني بلينكن، في قصر المرادية، انطوى على شيء مغاير تماما، بل عصف بالمراسم المتعارف عليها، وأثار ما يرقى إلى حالة نشاز في الأعراف الدبلوماسية الدولية. انطلق الرئيس تبّون في خطاب مسترسل يبدأ ولا ينتهي في طوله وتعدد محاوره. وربما اعتبر الجانب الجزائري اللقاء فرصة مواتية لوضع النقاط على الحروف، وتأكيد الأولويات، وتفصيل كل ما يشغل البال السياسي الجزائري في هذه المرحلة. فبدأ بعقد مقارنات الشبه وتركة النضال من أجل الحرية بين الجزائر والولايات المتحدة، بل حاول تطويع التقويم السنوي للتذكير بأن عيد الاستقلال الأمريكي وعيد الاستقلال الجزائري لا تفصلهما سوى ساعات بين الرابع والخامس من يوليو. وفيما كان بلينكن ينصت، كان يسأل نفسه: أهي مجرد صدفة تاريخية أم أنها تنمّ عن “حكمة” سيكشفها الرئيس تبّون للمرة الأولى، وتكون مفاجأة الموسم!

 جاء الدور على مفهوم الديمقراطية عندما تناول الرئيس تبّون أحوالها بين بلد مشتبع بها وآخر يحاول أن يبنيها لنفسه. ثم عرّج على نقطة ليست من فحوى موضوع تلك اللحظة قائلا: “نحن نبذل قصارى جهدنا بوسائلنا، وفي بيئتنا أحيانًا يتم فهمنا في بعض الأحيان لا نكون كذلك. هذه هي بيئتنا: نحن محاطون بدول لا تشبهنا كثيراً باستثناء تونس”. ثم غيّر سردية التشابه مع تونس إلى سردية الاختلاف والعداوة القديمة مع المغرب، وكأن الوفد الأمريكي الزائر يحتاج لمحاضرة في تاريخ العداء بين الجزائر والمغرب. وإذا كان بلينكن لا يهتم باستعراض هذا الغسيل العفن بين الجارين في شمال أفريقيا، فقد تحتم عليه أن يستمع لمحاضرة أخرى حول ما كان بين الجزائر وجنوب افريقيا، وكيف وجهت الجزائر “كافة جهودها الدبلوماسية” للقضاء على نظام الفصل العنصري هناك. ثم انفتحت قريحة الرئيس تبون أيضا لاستعراض مواقف بلاده من سوريا وليبيا وتشاد والسودان وتركيا.

طال صبر الوزير بلينكن الذي ينتمي إلى مدرسة سياسية تقوم على البراغماتية وقاعدة خير الكلام ما قل ودل. والأهم من ذلك، أنه أثبت أنه ليس دبلوماسيا يقاوم الملل والانفعال فحسب، بل وأيضا أنه صبور كتوم وإن فاضت أحشاءه بالحنق من وضع غير مريح أمام كاميرات المراسلين. وعندما جاء دوره للحديث، تنفس الصعداء وقرر أن يكون محبّا للاختصار واكتفى بمجموع 105 كلمة بموازاة مستضيفه الرئيس تبّون الذي أطلق العنان لخطبته بمجموع 2519 كلمة حسب النص الذي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية.

لم يكن مشهدا بهندسة دبلوماسية محترفة. ولا يبدو أن لوزير الخارجية لعمامرة الملمّ بالثقافة السياسية الأمريكية والدولية أو مساعديه في الوزارة كلمة الفصل في ترتيب اللقاء بين الرئيس تبّون والوزير بلينكن. بل يبدو أن بعض المستشارين من جينة أخرى غير الجينات الدبلوماسية هم الذين أثاروا حماسة الرئيس في إلقاء خطبة عصماء في حضور أعضاء الوفد الأمريكي الذين غادروا الجزائر العاصمة ولم يتذكروا ربع ما تتثاقل في وصوله إلى مسامعهم!

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي