من يستهدف الإساءة لشعراء الطليعة في المغرب؟
حوار مع مريم المنصوري
في سنة 2001، توفي الشاعر المغربي باللغة الفرنسية عبد العزيز المنصوري (من مواليد 1940)، وكان مع عبد اللطيف اللعبي عضوا أساسيا من جماعة “أنفاس”، في سبعينيات القرن الماضي. عدا قصائده المتناثرة بمجلات وصحف الستينيات والسبعينيات، لم ينشر المنصوري في حياته أشعاره ضمن ديوان. ولم يحصل ذلك إلا بعد أكثر من عقد ونصف على رحيله، حين أشرف صديقه الشاعر مصطفى النيسابوري بتعاون مع عبد اللطيف اللعبي وزوجته جوسلين، على جمع نماذج من أعمال عبد العزيز المنصوري الشعرية، لترى النور ضمن كتاب من 354 صفحة من الحجم المتوسط، وحمل عنوان: “A peine un souffle“، أريد له أن يكون “تحية تكريم لمبدع متميز وأصيل”. وصدر الديوان عن دار النشر “فاصلة” بمدينة طنجة.
لإلقاء بعض الضوء على حياة شاعر مجدد وغير نمطي، نقدم في ما يلي حوارا خاصا مع رفيقة حياة الشاعر عبد العزيز المنصوري ووالدة بناته السيدة مريم المنصوري.
– إذا كان ممكنا، حدثينا قليلا عن الراحل عبد العزيز المنصوري، الإنسان، الزوج والأب؟
* عبد العزيز منصوري اسم تردد على مسامعي كثيرا عند التحاقي للعمل بوكالة “شمس للإشهار” سنة 1991، حيث سمعت أنه ترك العمل بها كمدير عام، إثر خلافه مع صاحب الوكالة السيد نور الدين عيوش. كان الجميع في الوكالة يعتبره الأب الروحي لهم جميعا، أحبوه وعشقوا العمل معه، وحزنوا كثيرا عندما غادر الوكالة وهو مستاء. وشاءت الصدف أن ألتقيه ذات يوم، وأنا ازور شركة “النصر للقهاوي” من أجل تحصيل مبلغ فاتورة عمل إشهاري قامت به الوكالة لصالح تلك الشركة. استقبلني المرحوم عبد العزيز منصوري بمكتبه، بوجه بشوش وبتواضع جم. وبعدها استخلصت مستحقات الوكالة بدون عناء. في لحظات قليلة تأكد لي كل ما كنت سمعته في الوكالة من قبل عن عبد العزيز منصوري، وما قيل عن سمو أخلاقه وطيبوته، وتعامله الراقي مع كل من يعملون معه.
بعد يومين من لقائي به في شركة “النصر للقهاوي”، طلبني نور الدين عيوش لمكتبه، وقال لي بالحرف: – هناك شخص رآك يطلبك للزواج! ابتسمت، وظننتها نكتة من طرائف عيوش. لكني بعد أقل من أسبوع كنت فعلا زوجة عبد العزيز منصوري. وافقت على الزواج منه، لأنني أحببت شخصيته قبل أن ألتقيه. وعندما التقيته أحسست بأن الله أهداني إياه. كان زوجا مثاليا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. طيلة حياتي معه لم نختلف حول مبدأ معين أو أي أمر من أمور الدنيا.. لكنني كرهت عمله الذي كان يستنزفه أكثر من أي شيء. ولم يكن يعرف معنى التوقف، أو أخذ عطلة والاستمتاع بالسفر. هكذا كان متفانيا في عمله إلى درجة لم يكن يعرف معنى الراحة. رغم أنه كان يحاول أن يكون حاضرا معنا وأن يتمكن من إعطاء كل ذي حق حقه. الأمر الذي أتعبه كثيرا. وهو الأب الرائع، الذي ساعدني كثيرا في تربية بناتي الأربعة، وكان كثيرا ما يطلب مني في الليل بأن أستريح وأخلد للنوم، ليحل محلي في العناية بالصغيرات. استطاع خلال الأعوام القصيرة أن يلقنهن الكثير، علمهن الأدب وحبب لهن القراءة، فكان قدوتهن في حياته ولا يزال بعد غيابه ورحيله.
– ما حجم الجو الشعري الذي كان يظلل به المرحوم فضاء أسرته؟ هل كان يقرأ عليكم قصائده؟ أو يخبر عن مشاريعه الإبداعية؟ هل كانت ظروف عيشه في البيت تتيح له الكتابة والإبداع بشكل مريح؟
* كان زوجي رحمه الله عاشقا للقراءة، ومكتبته كانت تضم جميع أنواع الكتب والمعارف، حتى المختصة بفنون الطبخ. وكان يحفظ مكان كل كتاب عن قلب ظهر. لقد كان منظما بشكل راقٍ وجميل. عندما ارتبطنا بالزواج كنت أعرف عنه الكثير، من خلال من اشتغلت معهم في وكالة “شمس للإشهار”. فلم يكن من الصعب علي سبر غوره والتسلل لأعماقه. حدثني كثيرا عن كتاباته في مجلة “أنفاس”، وعن أصدقائه المبدعين، كالطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي، وعن سجنه بسب كتاباته، وعن التشكيلي محمد شبعة الفنان الإنسان الذي عمل معه قبل اشتغاله مع عيوش. كنت قريبة من إحساسه القوي ورغبته في الكتابة. كان قد بدأ كتابة le livre de l eau. ورغم عودته من العمل منهكا وقيامه بواجباته الدينية، ثم تفقده لأحوال البنات ودراستهن. كان يجلس لبعض الوقت لكتابة بعض قصائده. كان كلما كتب بعض النصوص أو قصيدة، ينادي علي ويقرأ علي ما كتبه.
كنت أنصت إليه بإمعان، رغم أني كنت لا أفقه كثيرا المصطلحات التي كان يوظفها في كتاباته. ولم يكن يجهل إحساسي هذا، لأنه كان في النهاية يقول لي مبتسما: “يكفيني أنك رافقتني في هذه اللحظات الثمينة بالنسبة لي”. ثم يعود ليشرح لي ما تعذر علي إدراكه. وجوده معي كان يملأ علي الحياة. إن الكلمات كانت تتطاير في كل ركن من فضاء بيتنا.. لم يكن يسمح لبناتنا بارتكاب أخطاء في اللغة. فكلما نطقن بكلمة خاطئة يسرع بتصحيحها لهن. حتى أصبحن حريصات على عدم الخطأ في التعبير، وكأنه وعدٌ أخذنه على عاتقهن بأن يكن دائما في المستوى الذي أراده والدهن أن يكن عليه . استطاع أن يكمل كتابه le livre de l eau ..، بعده بدأ في كتابه y les chats ، وهو مجموعة من القصائد القصيرة. وأتم كتابته في المنزل الذي انتقلنا إليه بطريق زعير في مدينة الرباط، واختار له العنوان مع صورة الغلاف، وسجل حقوق الملكية، ثم بدأ يستعد لطباعته ونشره، إلا أن مرضه المفاجئ ووفاته حالا بينه وبين ذلك.
– كيف تتعامل اليوم بنات المرحوم مع منجزه الشعري والإبداعي وسيرته الأدبية؟ كيف تقرأن تراثه؟ وهل ورثت عنه إحداهن موهبة الكتابة؟
– كان الراحل يشتغل بقطاع الإشهار، ما هو تأثير مجال اشتغاله على عطائه الشعري؟
* لقاء عبد العزيز منصوري بنور الدين عيوش وتأسيسهما معا لوكالة “شمس للاشهار” حرمه من حلمه في أن يكتب بقوة وبدون انقطاع.. لأن الكتابة تتطلب التركيز والتفرغ والوقت. لذا تخلى عبد العزيز عن عشقه الكبير وظل يشتغل بجهد كبير خلف الكواليس، ليجعل من “شمس للإشهار” أقوى وكالة في المغرب في مجالها. وكيف لا يتحقق ذلك وقد كان يشتغل بها تقريبا 24 ساعة على 24 ساعة من دون راحة.. لم يترك عبد العزيز أي عمل تكلف بإنجازه من دون أن يمنحه كل وقته ويعطيه من نفسه وراحته الكثير. حتى أنني أحيانا كنت أقول له: “ألا تنتبه إلى أن الجميع يقومون باستغلالك؟ ألا يمكنك ولو للحظة واحدة أن تفكر في نفسك؟”. كان يسمع كلامي ويدرك أنني على صواب، لكنه لم يكن يستطيع إلا أن يكون هو، لا إنسانا آخر.. أي عبد العزيز الانسان، الخدوم، المتفاني، الصادق، القنوع، الرجل الذي لا يمكن لك أن تعرفه من دون أن تحبه ..
– من هم الأصدقاء من المثقفين والفنانين الذين كانوا قريبين أكثر من المنصوري؟
* طيلة فترة زواجي بعبد العزيز المنصوري، لا أذكر أنني رأيت أحدا يأتي لزيارته، سوى مرتين أو ثلاث، حضر نور الدين عيوش مرة في حفل عقيقة بناتي التوأم، وبعدها اختفى. ثم مجيء الرسام الكبير محمد المليحي رحمه الله، الذي ظل معنا لبعض الوقت ورحل. ثم مجيئ عبد اللطيف اللعبي وزوجته جوسلين. كانت تلك أول مرة أتعرف عليهما. ولم أرهما بعد ذلك إلا في الاحتفال بالذكرى الخمسينية لمجلة “أنفاس”، الاحتفال الذي رأيت فيه كتاب المرحوم زوجي يعرض لأول مرة. – كيف كان اتصال شركة النشر “فاصلة” بك لطبع مختارات من أشعاره، وما هو دور صديقه الشاعر مصطفى النيسابوري؟ لم يسبق لي أن سمعت ولا عرفت بدار النشر الفاصلة.. عندما توفي زوجي ترك كتاب y les chats وكتاب le livre de l eau ..وكتاب آخر. وكان كتاب y les chas هو المقرر البدأ بطبعه ونشره، ولأنه ترك خمسة نسخ منه تعذر علي إيجاد النسخة الأخيرة المصححة للكتاب، فاتصلت بناتي وأنا بالكاتب الكبير عبد اللطيف اللعبي، وكان آنذاك مقيما بفرنسا، بعد أن التقيين به في “الفناك” بـ”موروكو مول”، وكان بصدد حفل توقيع لأحد كتبه، بحيث ذهبنا إليه وقدمن أنفسنا له، ففرح كثيرا وقدمنا بدوره لزوجته. ثم حدثناه عن الكتاب الذي تركه الراحل، وعن مشكلتنا في العثور على النسخة المصححة والمهيأة للنشر. فطلب منا أن نتواصل معه بواسطة “الإيميل”، وأن نبعث له النسخ، إذا اقتضى الحال، للاطلاع عليها لإفادتنا بما يجب عمله. وبسب خوفنا من ضياع النسخ.. قررنا أن نتصل بمصطفى النيسابوي الذي حصلت على رقم هاتفه من مذكرة لزوجي كان يدوَّن فيها أرقام معارفه، واتصلنا بالنيسابوري وأخبرناه بمشكلتنا, فطلب عنواننا وجاء لزيارتنا في البيت. شرحنا له الأمر وطلبنا منه فقط مساعدتنا في إيجاد النسخة الأخيرة من كتاب:
y les chats..
طلب منا أخذ نسخة من الكتاب للاطلاع عليها، فسمحنا له بذلك. بعدها اتصل بنا وقال لنا إن عبد اللطيف اللعبي يستعد للاحتفال بالذكرى الخمسينية لمجلة “أنفاس”، وأنه تقرر تكريم المرحوم في نفس اليوم والتكلف بطبع الكتاب ونشره ..
– كيف ترين واجب المؤسسات الثقافية والأصدقاء للمحافظة على ذاكرة الشاعر عبد العزيز المنصوري؟
* لا أزعم أني أعرف شيئا عن المؤسسات الثقافية في المغرب، لأني بعيدة عن هذا المجال.. لكن كل ما أصبحت أعرفه اليوم، وبسب ما تعرضت له من غبن وإهانة من طرف أحد أصدقاء المنصوري، وما تعرضت له من الإساءة والاعتداء على الإنتاج الأدبي للراحل، وبالتالي في حقنا نحن أسرته الصغيرة، وأتساءل هنا عمن أخذ مخطوطات غير منشورة للراحل ولم يرجعها لنا، منها ترجمته لديوان للشاعر السوري المشهور أدونيس. وربما سنحت الفرصة مستقبلا لتوضيح هذا الأمر. ما أدركته هو أن هناك غياب تام لتلك المؤسسات الثقافية التي تقصدها. وأن الكاتب عندما يترك وراءه رصيدا ثقافيا لم يطبع ويرحل عن هذه الحياة، قد تهضم حقوقه ويضيع حقه في إعادة الاعتبار إليه وإلى كتاباته.
(أسئلة: عبد الرحيم التوراني)