“لالة ميرة” بآسفي.. عين ماء للنّاس فيها مآرب أخرى

“لالة ميرة” بآسفي.. عين ماء للنّاس فيها مآرب أخرى

عبد الله النملي

مقدمة

في المدخل الشمالي لمدينة آسفي ذو الطلّة البانورامية على البحر، والذي يحظى بفرشة مائية باطنية قليلة الغور نِسبيا، وعيون مائية مكشوفة على الشاطئ، توجد عين “لالـــة ميـرة” بأسفل المُنحدر المُحاذي لضريح سيدي بوزيد. وهي منبع مائي طبيعي، عذب، فرات، وغزير دائم الدفق، لا ينضب أو ينقطع ماؤه حتى في سنوات القحط، تجري مياهه بدون انقطاع منذ قرون طوال السنة، تقصده ساكنة المدينة وزوارها للترويح عن النفس. ولعل موقع العين المُتدفقة من بين الأشجار وسط الأجراف على شاطئ “البْلايا”، كما تسميه ساكنة آسفي (اسم إسباني)، أو (تفتاست حسب التسمية القديمة، وهو اسم ينحدر من العبارة الأمازيغية “أفتاس”، ومعناها الساحل والشاطئ)”، يُضفي على العين سحرا خاصا بمناظرها العذراء وهدوئها الأخاذ، حيث تستقطب عددا متزايدا من المصطافين الذين يفضلونها على الاستحمام بالشاطئ، كما يستعمل ماؤها للشرب وتحضير الطعام والشاي، وللناس فيها مآرب أخرى.

   فمنذ زمن بعيد، لا يعلم قدره إلا الله، يخرج الماء العذب الصالح للشرب الآدمي من جوف هذه الصخور الصلبة ” تحت ظلال فروع شجرة تين برية ضخمة، توفر المأوى والمخبأ للراغبات في غسل أجسادهن بمياه هذه العين ذات “القدسية الحريمية” (1 )، التي كانت قديما وجهة مفضلة لساكنة آسفي لسقي المواشي وغسل الصوف وتنقية الحبوب وجلب الماء، حيث كان سكان المدينة القاطنين بجوار العين وقت نفاذ الماء يضطرون للتنقل إلى العين، من أجل جلب المياه بواسطة أدوات وأوعية خاصة كالجرار الطينية المحمولة على ظهور البغال والحمير، أو بواسطة السقائين المتجولين ببراميلهم وأوعيتهم المحمولة أو المجرورة بشكل يومي، ذلك أن مدينة آسفي عرفت فترات من الجفاف وشح في الماء، فلم يكن من سبيل لتجاوز كل ذلك سوى اللجوء للوسائل العتيقة كالسواني والبيار أو الاستفادة من ماء المطر أو العيون المائية (عين الغر، عين تكابروت، عين سيدي بودالة، عين الرتم، و عين امباركة، وعيون بوعريس، عين سيكسو، عين الدراق،  عين لالة ميــرة..) .

   ويبلغ متوسط كميات المياه المتدفقة من العين، بدون الحاجة لمضخات، حوالي 2 لتر في الثانية تنساب في البحر، ويرتفع صبيبها في حالات استثنائية، من جبل شاهق بمنطقة سيدي بوزيد على مدار 24 ساعة دون توقف، تشرب منه وتستحم بمياهه الساكنة، ويقدمه الزوار في قارورات لأفراد أسرهم أو معارفهم قصد التبرك أو العلاج أملا في الشفاء من الأمراض، وكذلك العَذارى طلبا للزواج، والمتزوجات طلبا للإخصاب والإنجاب، حيث يتم غسل شعرهن ومشطه وترك المشط في عين المكان، في جو احتفالي مفعم بترديد الأغاني الشعبية والزغاريد. ومع دخول فصل الصيف تدفع درجة الحرارة أعدادا من الشباب والنساء إلى ارتياد العين نهاية كل أسبوع، حيث يغتسل فيها الزوار وتسقى منها المواشي. ويقوم كثير من زوارها بالاحتطاب بقطع فروع الأشجار لطهي غذائهم تحت ظلال الأشجار لقضاء نهار جميل وسط غابة من الأشجار بجوار شاطئ البحر.

    ورغم عبث السيول المتكرر في موسم المطر بهذا الموقع وإقبارها للعين وجرفها لغطائه النباتي مرة تلو الأخرى، بسبب وقوعه على سفح شديد الانحدار بهضبة سيدي بوزيد، فإن رواده ومن يؤمن بخوارقه وينتفع بها، كانوا يلجأون إلى النبش عن العين الجارية وتهيئة المكان من جديد للزيارة والتطهر (2). كما تجد النسوة في الخروج إلى منتزه سيدي بوزيد واللوذ بموقع “لالة ميرة”، فرصة للتخلص من متاعب البيت إلى حين، بإمضاء يوم مريح وبهيج، يقضينه وسط مياه رقراقة وخضرة ساحرة، مع التفرج على زرقة البحر وأمواجه الهادرة وأفقه البعيد اللامتناهي، ومنهن من تهيئ وسط هذا الجو الشاعري والاحتفالي كؤوس من الشاي ويتبادلن بينهن أصناف من الحلوى الآسفية الأصيلة، بل ومنهن من تقضي نهار يوم الأربعاء بكامله بهذا الموقع، فيعملن تحت ظلال الأشجار على إعداد أكلات تقليدية، مثل الكسكس والطواجين الشهية (3).

معنى اسم لالة ميـرة

     تعتبر دراسة الأعلام المكانية، والبحث في دلالاتها وسيلة من وسائل البحث في ثقافة مجتمع معين، ومصدرا آخر من مصادر التاريخ، فهي تسهم في نفض الغبار عن قضايا تاريخية جديدة، أو تصحيح مضامين تاريخية متداولة، أو إبراز إشكاليات مستجدة(..). فإذا كان المؤرخ يدرس المجتمع في علاقته بالزمن من خلال ما خلفه الإنسان من شواهد متعددة، سواء منها مادية أو غير مادية، فإن اسم المكان يعد شاهدا آخر من هذه الشواهد، لأنه أطلق في زمن معين، على مكان معين، من قبل فرد أو جماعة(4). وتعرف معاجم اللغة “الاسم” على إنه لفظ يطلق على أي شيء لتمييزه عن غيره. وبموجب هذا التعريف يفترض أن يكون لكل كائن اسما أو رمزا أو لقبا أو رقما يعرف به، ويتم التعامل معه من خلاله (..). ولا يمكن أن تسير الحياة إلا عندما يحمل أي شيء اسما يميزه عن غيره (5). ويستوقف اسم عين “لالة ميرة” ساكنة المدينة وزائرها، ومن يسمع به أحيانا. ويحرص البعض على معرفة معنى هذا الاسم طلبا للمعرفة واستكمالا لمعلوماته عنها، أو من قبيل الفضول. فهناك عيون مائية بالمغرب لا خلاف على تسميتها، وهناك أخرى تعرف غموضا حول تحديد سبب تسميتها، ومن ذلك عين “لالة ميرة” بآسفي. ورغم ما يشوب التسمية من غموض وغرابة، فإن التفاسير التي سنقدمها تبقى مرجعا يحسن مناقشتها وتحقيقها قبل الأخذ بها.

    1_ لالة أو لالا أو للا: حسب الثقافة الشعبية لا يذكر الأولياء والصلحاء، إلا مرفوقين بعبارة (سيدي ) أو “ستي” أو “دادا” أو (لالة). لذلك نجد هذه التسمية حاضرة بقوة في عدد لا يحصى من الأماكن والجبال والعيون التي سميت بأسماء الوليات الصالحات، فهم في نظرهم شريفات يبسطن بركاتهن حتى بعد وفاتهن وانقطاع عملهن. وفي العيطة والأغاني الشعبية يلاحظ كذلك الحضور المكثف لتيمة الأولياء والصالحين كلازمة، حيث تتكرر باستمرار عبارة ” ألالة زوروا الصالحين “. ويزخر التاريخ بالعديد من النساء اللائي يحملن لقب لالة / لَـلّا، نظرا لدورهن الفاعل وعملهن الجليل في المجتمع. وكلمة لالة أو لالّا أو للا، لفظة تستخدم للتوقير والاحترام وتقال للنساء وتعني: سيدتي أو مولاتي. وكلمة للا أو لالة لقب رسمي لجميع ربات الملوك العلويين ولأميرات المملكة المغربية. ومن طرائف هذا الاسم أنه يستخدم أيضا للمناداة على أي امرأة جهل اسمها. وبعد البحث والتقصي في كلمة “لالة” وجدنا أن أصل الاسم تتنازعه روايتين مختلفتين، الأولى تقول إن أصله أمازيغي والثانية تقول إن أصله عربي.

الرواية الأمازيغية:

    كلمة لالة أو لَـلّا lalla هي كلمة أمازيغية فريدة وعريقة جدا: ذات معاني سامية متعددة تدل على التكريم والمكانة العظيمة التي يوليها الأمازيغ منذ القدم للمرأة في المجتمع. وتحمل كلمة لالة في اللغة الأمازيغية معاني الشرف والتوقير والاحترام والتبجيل وعلامة التمييز بالنظر إلى أنه لقب أمازيغي فريد لا تحمله سوى النساء الهامات والمؤثرات أو من الأسر الكبيرة الصالحة في شمال أفريقيا عبر التاريخ … (و) تعني كلمة لالة : المرأة المُبجّلة، وتُنطق للا lalla ، كما تعني أيضًا “الأخت الكبرى”، كما تعني الكلمة أيضا صاحبة الأمر و ربّة البيت، حسب السياق، بحيث تُنطق الكلمة حينها بتسكين حرف اللام الأخير  هكذا: لالْ lal، فيقال : (لالْ ن تادّارت)، أو (لالْ ن تكمّي)، بمعنى ربة البيت والقائمة بشؤون الأسرة. (لالْ ن تمغارين) أي سيدة النساء وصاحبة الأمر. كما تعني أيضا السيدة المحترمة فيقال: (أيّيه ألَالّا)، بمعنى: نعم سيدتي المحترمة. كما يستخدم مصطلح Lalla أيضًا في اللغة الأمازيغية كمرادف للكلمة الفرنسية ” Madame ”  كما يصاغ أيضا لتغيير المعنى المقصود بإضافة ضمائر الملكية إليه: فيقال مثلا: لالّاك لالّاس لالّام  .. الخ، وذلك خلافا للمصطلحات المقابلة له في اللغات الأجنبية. وقد انتقلت هذه الكلمة الأمازيغية إلى اللهجات المغاربية التي نشأت بعد دخول الاسلام، والكلمة متداولة جدا في اللهجة التونسية والجزائرية والمغربية بنفس المعاني تقريبا، وتُكتب أحيانا: لالا أو للا أو لالة… (6).

الرواية العربية:

   لالة أو لالّا أو للا، كلمة تستعمل بكثرة في اللهجة العربية المغربية وتعني السيدة الشريفة والمحترمة، أصلها عربي فما هي إلا تأنيث لكلمة آل في آل البيت. انتقلت هذه الكلمة إلى باقي اللهجات البربرية في المغرب العربي (بالمغرب والجزائر) على غرار العديد من الكلمات العربية. (و) كما هو معروف، فاللهجات العربية المغاربية تتميز بعدة خصائص أبرزها إدغام الهمزة وسط الكلمات، وهذا الأمر يوجد أيضا في عدة لهجات بالمشرق. مثلا بالمشرق يقال (جاء لامر = جاء الأمر) و (أنا ونتا = أنا وأنت)، (جا عندي= جاء عندي)، (تاخذ هذا؟ = هل تأخذ هذا؟). وعلى نفس الغرار نجد في اللهجات العربية المغاربية مثلا: لامارة = الأمارة، لاربعا = الأربعاء، جيت عندو= جئت عنده، ناكل= أنا آكل، راس= رأس، وذن=أذن، رف بحالي = إرأف بحالي، …إلــــــخ. وفي هذا السياق، فكلمة لالة هي النطق الأصلي ل الآلة، ومثال جد واضح على ذلك يقال مثلا في التراث المغربي (يا لالة مينة = يا الآلة أمينة، يا السيدة أمينة). (و) أصل لالة من الآلة، وهي مؤنث كلمة الآل وآل، وتعني الحاكم والسيد ويقال آل شخص على حاكم أي صار سيدا وواليا عليهم. ومن جذور نفس هذا اللفظ توجد كلمة إيالة وتعني إمارة أو منطقة حكم. ظهرت هذه الكلمة في بادئ الأمر مع دخول القبائل العربية وما نجم عن ذلك من تعريب اللسان في شمال افريقيا، حيث أن هذه الكلمة لم تكن مستعملة في اللهجات المحلية قبل الإسلام ولا يوجد لها ذكر في تلك الآونة. فيقال اليوم لالة سلمى (زوجة الملك محمد السادس) ولالة فاطمة كلفظ احترام للنساء. وفي المغرب الكبير انتقلت هذه الكلمة من اللغة العربية إلى اللسان العربي المغاربي من تم صارت مستعملة في باقي اللهجات المحلية البربرية. فكما هو معروف أن قرابة 40% من الألسنة البربرية هي عبارة عن قاموس عربي محض، وأبرزها كلمة سيتي المستعملة في بعض مناطق الأمازيغ بالمغرب وأصلها (سيدتي) والتي تحمل نفس معنى كلمة لالة (7).

   2_ ميرا أو ميرة: اسم ميرا اسم علم مؤنث يحمل معاني مختلفة. ويوجد في الفلك نجم أحمر عملاق يبعد عن الأرض بمسافة كبيرة يسمى ميرا (8). وهو أيضا اسم بلدة قديمة تقع في محافظة أنطاليا في تركيا. وتعتبر ميرا أحد أكثر المناطق الأثرية غرابةً في تركيا، حيثُ تحتوي هذه المدينة على مقابر ومنازل منحوتة بالصخر تُشبه إلى حد كبير مدينة البتراء في الأردن ومدائن صالح في السعودية (9). ويَحمل الاسم في اللغات اللاتينية معنى “عجيب” و “رائع” (10). أما في اللغات السلافية الجنوبية فإنهُ يعني “السلام” وغالبًا ما يُستعمل كجزءٍ من اسمٍ طويل مثل ميروسلافا أو سلوميرا (11). وفي اللغة الألبانية يَعني “الخير” و”اللطف(12). ويعني بالهندية الأميرة (13)، وفي اليونانية الغزارة (14). أما في السنسكريتية فيعني “المحيط” أو “البحر” أو “الحد” أو “الحدود” (15). وعند الرومان يعود الاسم لنوع من الزهور اسمه ماري، علما أن البحر باللاتينية هو ” ماري” و” مير “، ومنه كذلك جاء اسم سيلاماري أي كوكب البحر.

   وفي اللغة العبرية هو مُشتق من اسم مريم أو هو الاسم المؤنث لاسم لمئير ويعني الضوء (16). واسم ميرا مِن الألفاظ المُقدسة المرتبطة بدين المسيحية، وفي الكتاب المقدس للمسيحية ورد ذكر ميرا على أنه أحد أسماء القديسة مريم العذراء أم المسيح عيسى، وفي هذه الحالة فإن اسم ميرا هو اشتقاق لاسم مريم والذي يعني بحر الألم أو الأحزان أو المر بشكل عام (17). كما أن الاسم يعني في اللغة الإنجليزية الرائعة، وهو من الأسماء التي تم تعريبها من اللغة الإنجليزية، وأخذها العرب من أجل تسمية بناتهم بها (18). واسم ميرا بهذه الطريقة لم يذكر في معاجم اللغة العربية باختلافها بل إنه ذكر فقط في معجم معاني الأسماء على أنه اسم من أصل أعجمي. ونقول في اللغة العربية الميرة وهي المؤونة من الطعام، وقد حولت تاؤه إلى ألف (19)، إلا أن العرب بدأوا يستخدمون للأسماء العربية للإناث حرف الألف بدلاً من استخدام حرف التاء المربوطة.

   وفي الثقافة الكناوية المغربية ينسب اسم ميرا إلى ملكة من ملوك الجان، الذين يلعبون حتى وقتنا الراهن دورا أساسيا في المعتقدات والممارسات السحرية بالمغرب. ومن تجليات الاعتقاد واسع الانتشار في قداسة ملوك الجن أن الكثير من الأغاني الشعبية تردد عبارات التقديس للالة ميرة. كما تنظم حفلات مغلقة، توسلا لمساعدتهم في قضاء أغراض اجتماعية أو طلبا للشفاء من مرض استعصى على العلاج. و ” (الملكة ميرة) في معتقد العامة جنية من الملوك تصيب النساء بلوثة الغيرة والحسد، وبشكل خاص منهن الشابات المتزوجات حديثاً، واللواتي يغيظها جمالهن ولذلك فإن المرأة الجميلة التي لا تشعر بنفسها على ما يرام تعتبر أن أذى (ميرة) أصابها وتشجعها على الاعتقاد في ذلك (الشوافة) أو (الطلاعة) أو (العرافة) الكناوية في (ليلة الدردبة) وجميعها أسماء للساحرة الكناوية بحسب المناطق المغربية ” (20).

   وفي اللوحة الإشهارية المَنصوبة أسفل عين لالة ميرة بآسفي قرب الشاطئ، المكتوبة بثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية تقول إن ” عين لالة ميرة منبع لا ينضب يتميز بعذوبة مياهه الدائمة الجريان، والعين في الموروث الشعبي الآسفي رمز الخصوبة والفأل الحسن. ويشاع أن لفظ ” ميرة ” يعود في الأصل حسب مختلف الروايات إلى ترخيم وتصغير لاسم ” أميرة “. وقد يكون اسم مستوحى من مريم نسبة إلى مريم العذراء، ويقال إن الاسم مشتق من العبارة العبرية ” مار ” بمعنى قطرات الماء.  وتحكي الروايات أيضا أن هذا الاسم يعود لامرأة جميلة لجأت لهذا الموقع من أجل التعبد والزهد ودفنت به إلا أن ضريحها جرفته السيول…

   ونفس الرأي يتفق عليه مؤرخ آسفي، الأستاذ إبراهيم كريدية الذي يقول “إن اسمها هو تحريف بل تصغير ل ” لالة الأميرة”، أي سيدتي ومولاتي ” الأميرة “، وقيل أن لهذا الاسم علاقة بل هو مشتق ومنحوث من اسم مريم (21)، وهو اسم كان متداولا وشائعا بين يهود الشرق قبل ظهور السيد المسيح عليه السلام، ويرى علماء اللغة العبرية، أنه مكون من مقطعين: الأول “مار mar ” وتعني قطرات goutte والمقطع الثاني ” يام yâm  ” وتعني البحر (22).  الذي نجد له نفس الاسم، بنفس النطق وبنفس الرسم والمعنى في لغتنا العربية الفصيحة وهو ” اليَمّ ” والمقصود به عموما البحر كما هو معروف، لكن بلغاء لغة الضاد يذهبون إلى تدقيق معنى “اليم”، بالقول إن معناه الدقيق، كما ورد في القرآن الكريم، هو على العموم، “ماء البحر أو مياه البحار أو الأنهار ” (23). مما يفيد معه، أن اسم ” لالة ميرا ” ربما كان في الماضي مقرونا بوجود الماء، قد يكون مصدره البحار أو الأنهار أو العيون، والطريف أننا وجدنا في عدد من اللغات الأوربية، تسمية ” البحر ” عندهم قريبة في رسمها ونطقها إلى حد كبير من اسم “ميرا  Mira”، ومن ذلك، أننا نجد في اللغة الفرنسية “mer”،  وفي اللغتين الإسبانية والبرتغالية  “mar “،  وفي اللغة الإيطالية “mare ” ،  وفي اللغة الألمانية “meer”، وفي اللغة الفنلندية “meri” الخ …، وأغرب من ذلك وجدنا أنهارا باسم “Mira ” ، في كل من دولتي الإكواتور وكولمبيا بأمريكا اللاتينية (24) .وبمزيد من البحث في دلالات عبارة Mira “، وجدناها تستعمل نعتا بصيغ مختلفة في اللغة اللاتينية، فيقال في وصف المرأة (mira,mirum, mirus,  وتعني المرأة الرائعة أو المدهشة admirable ou étonnante   ” (25).

أصـل “لالة ميـرة”.. روايات متضاربة

   وتتداول عدة روايات أصل “لالة ميرة”، ومنها رواية، تفيد أنها امرأة كانت بالفعل موجودة وهي مدفونة في مكان ما، من هذا السفح أسفل ضريح سيدي بوزيد، كان لها في الماضي ضريح معروف، لكنه تهدم وهوى في البحر بفعل السيول الجارفة، التي تعظم في فصل الأمطار، وتضيف أنه لم يبق من آثارها سوى العين الجارية، مردفة أن هذه المرأة كانت في حياتها ولية صالحة، جاءت من أرض غير معلومة وقصدت هذا المكان بقصد الخلوة والتهجد، بعدما سمعت أن أرض آسفي، هي أرض علم وجهاد وتصوف، كما تعدها رواية أخرى من أهل الجن، فتزعم أنها ” جنية بالليل وامرأة بالنهار” (26)، وهذه الرواية، هي أكثر الروايات شيوعا وتداولا في الأوساط الشعبية في آسفي وعبدة (27). ولا يقتصر الاعتقاد بوجود جنيات في المياه على آسفي، سواء كانت مياه بحر أو عيون أو انهار، حيث كان الهنود الحمر في أمريكا الشمالية يعتقدون أن الجن يسكنون قرب مصب نهر الأمازون، كما يعتقد بوجود جني في هيئة وحش يسكن في بحيرة لوح نس في اسكتلندا، وهي أكبر بحيرة مياه عذبة في بريطانيا. ومن أهم الأسباب التي تحمل الناس في المعتقد الشعبي المغربي على الاعتقاد بأن نبعا معينا مسكونا هو وجود النبع في مكان مهجور، وألا تصل أشعة الشمس إلى مصدر النبع. وبالتأمل بوضع عين “لالة ميرة” التي تدور حولها القصص والأساطير نجد أن ينبوعها يمتاز بالعمق، وصعوبة وصول الشمس إلى ثغره.

   وبمزيد من البحث، وجدت في المغرب نساء صالحات حقيقيات بهذا الاسم، ومنهن لالة أميرة بنت الفقيه المجاهد العياشي، التي يوجد قبرها في ضريح سيدي عبد القادر الحراثي على ساحل مدينة سلا (28)، كما وقفت في المعتقد الشعبي المغربي تفصيلات أخرى، تزعم أن اسم ” لالة ميرة ” يطلق على ” جنيات ” كثيرات، وقد تفنن المخيال الشعبي في تصنيفهن إلى ” لالة ميرة الشلحة ” و ” لالة ميرة العربية ” و ” لالة ميرة الكناوية ” و ” لالة ميرة الحارثية ” و ” لالة ميرة الهاشمية ” و ” الحاجة لالة ميرة “.. ، بل وذهب إلى الزعم بأن كلا من هذه “الجنيات” تفضل لونا معينا، ” فلالة ميرة الشلحة ” تفضل اللون الأصفر المائل إلى لون البرتقال  jaune orangé  ، و ” لالة ميرة العربية ” تفضل الأصفر الفاقع jaune poussin (29).

   ونكاد لا نعثر على ما يُشْفي الغليل ويُميط اللثام عن لغز شخصية “لالة ميرة” التي حولتها الأسطورة الخرافية الشعبية بآسفي إلى عين ماء مقدسة تحرسها ولية مزعومة، لا ضريح لها، ولم يَدّع الانتساب إليها أي أحد على غرار باقي الأجداد الروحيين للشرفاء الموجودين بآسفي. تفنن البسطاء من الناس بآسفي في نسج أحداث وخوارق حول العين التي تحمل اسمها، فشُدت إليها الرحال من كل صوب، معتقدين أن العين تحرسها ولية صالحة على ساحل المحيط الأطلسي، يعتقد إنها واحدة من الوليات المنسيات التي اندرس قبرها منذ قرون خلت، حيث غالبا ما كانت الأضرحة الخاصة بالنساء تنتهي إلى خانة النسيان، علما أن النساء الوليات تمتعن بمكانة اجتماعية لا تقل أهمية عن تلك التي اكتسبها المشاهير من نظرائهن الرجال، حيث يوجد بالمغرب فقط 150 ولية موزعة على التراب الوطني، واتفق كاتبوا السّير دائما على تخصيص بضعة أسطر للنساء الوليات في أعمالهم ولم يعترفوا لهم في الغالب بقدسيتهن إلا إذا كانوا أمهات لولي صالح.

   وهذا ما يُعَزز الغموض الذي يلف تسمية العين والولية المزعومة، بحيث لم نهتد إلى معرفة تاريخ اكتشاف هذه العين ولو على نحو تقريبي رغم ما بذلناه من جهود، فهي قديمة قدم المدينة نفسها الضاربة في أعماق التاريخ. وتروج في هذا الصدد أقاويل وروايات مختلفة تفيد أن هذا الاكتشاف موغل في القدم، حيث لعبت العين دورا هاما في تحديد أماكن الاستيطان القديمة الأولى بالمدينة، بالنظر لاستخدام مياهها في الشرب والزراعة منذ القديم. وعموما يمكن أن نعتبر عين ” لالة ميرة ” عينا نُعتت باسم “مقدس”، شأنها في ذلك مثل عيون مائية أخرى ارتبطت بأسماء وليات مثل: “عين للا حية” (أولماس)، “عين للا ينو (طنجة)، “عين للا تاكركوست” (أمزميز، ناحية مراكش). وما يميز هذا الصنف من العيون المقدسة أن اكتشافها واستغلال مياهها يعود إلى قوى غيبية تحرس هذه الينابيع بحسب الثقافة الشعبية.

عيـن “لالة ميـرة” .. المـاء والخرافة

   تُعَد منطقة عبدة أقدس مناطق المغرب وأكثرها ازدحاما بالصلحاء والأولياء، ذلك أن ظاهرة الصلاح تضرب بجذورها عميقا في مجاهل تاريخ عبدة، وأنها ظلت قوية عبر العصور والدول. فهذا المؤرخ والجغرافي والرحالة الإغريقي سيلاكس  SCYLAX، والذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يشدد بعد زيارته لمنطقة عبدة، على وجود “حياة دينية مكثفة بها، وعلى أنها أقدس مكان بمجموع شمال إفريقيا “، وذكر أنه وجد بها “معبدا عظيما مخصصا لبوصيدون “، إله البحر عند اليونان القدماء، حيث يستقر أكثر صلحاء عبدة على الساحل، وقد تَنبه لذلك عامة الناس بآسفي، فأشاعوا أن ” كل حجرة بالساحل هي لولي “، وهذا ابن قنفذ الذي أقام بالمنطقة زمنا خلال القرن الرابع عشر يؤكد أن ” أرض آسفي تنبت الصلحاء كما تنبت العشب”، ونفس التأكيد نجده عند التمنارتي، وهو من القرن السابع عشر، وإن كان استبدل عبارة العشب “بالبقول”. فحيثما ولى المرء وجهه بآسفي إلا ويصادف أضرحة صلحاء، شُيّد على بعضها قبة أو أكثر، أو أحيط بعضها بحوش في صورة حائط قصير من الحجارة المرصوصة، أو في شكل ركام من الحجارة تعرف بالكركور. كما أن بعض هذه الأضرحة وهمي، ليس لها وجود في الواقع. وقد يكون الموقع مجرد مزار، تتشكل قداسته من أشجار أو ينابيع أو في صخرة أو في كركور أو كهف أو في مغارة أو في بئر أو عين ماء.

   ومنذ القديم ومجاري المياه والينابيع أو عيون الماء ترتبط في المتخيل الشعبي بآلهة أو جن أو ولي. فالعيون المائية المقدسة بالمغرب كثيرة جدا، ومياهها تحظى بقداسة لدى كثيرين أكثر من الاهتمام بمياه زمزم نفسها. فمن خلال زيارة سريعة لأي ضريح أو مزار مقدس بإحدى المدن المغربية أو أريافها، يستوقف المرء الهالة التي يحيطها المحليون بمياه ذاك المكان والمبالغة في الحديث عن فضائله الروحية وقدراته الاستشفائية على معالجة الأمراض المستعصية وحل الأزمات الاجتماعية. وتتداول الألسن في شأن عين “لالة ميرة”، التي تجري دون انقطاع منذ قرون، عدة حكايات ترتقي بعضها إلى درجة الأسطورة، وهو أمر عاد وطبيعي في مجتمع “متصوف” قائم على تبجيل الأولياء والصالحين، حيث يعتقد بعض الناس أن هذه العين لها خصائص صحية وعلاجية لعدة أمراض، حيث لا يزال الموقع يستقطب النسوة للتخلص من ” سوء الطالع “، والظفر بطالع أنيس يكمل لهن نصف الدين.

   لذلك نجد النساء يُشكلن الشريحة الأكثر ارتيادا لعين “لالة ميرة”، فحين يَلجن العين، يمكثن بها لساعات، وكأنهن في مَشْفى عمومي، بعد أن يَئسن من الاستحمام بسبعة أمواج، وجلسات التبخار باللدون، بحثا عن شفاء مزعوم، حيث يتلون أقراحهن، بعد أن أعجزتهن الحيلة في نيل حق مسلوب، أو طرد النحس والتابعة، أو التخلص من مرض، أو التوجس من تقدم العمر، والبحث عن عريس طال انتظاره. وأكثر من يلجأ إلى عين “لالة ميرة” هم أولئك الذين يعانون من علة مرضية، حيث يعتقد البعض أن كل ما ينتسب إلى العين يتميز بقوة خارقة، مثال ذلك الأشجار والنباتات القائمة بحنبات العين، أو ثمارها، أو الحشائش المحيطة بها، والمياه والأحجار، ومضغ ثمار وأوراق الأشجـار المحيطة بها وشرب منقوعها، حيث أن المريض الزائر للعين يأخذ من هذه الأشياء للانتفاع منها في العلاج، كما أن المريض قد يستخدم أعواد الأشجار النابتة قرب العين، أو الصخور، أو ماء العين، أو حتى ماء البرك المتجمعة بجوارها في غسل الأجزاء المريضة، أو الاستحمام أو غير ذلك من الاستخدامات “الطبية” المزعومة.

    وقد ارتبطت عين “لالة ميرة” بطقوس غرائبية وأساطير، ليس أقلها توافد الفتيات في سن الزواج، طيلة أيام السنة، على زيارة العين من أجل التبرك والتطهير ونيل بركة المقام والمكان، والتخلص من ” العكس” وسوء حظ من عمل “التابعة”، و”التابعة” في الأصل جنية “تتبع” الأطفال الصغار، لكن المعنى المستلهم من أسطورة “التابعة” اتسع بمرور الوقت، ليشمل كل الشرور التي تعتقد العامة في كونها مدبرة من الآخر. ويعتبر تأخر سن زواج الفتاة في المغرب إلى حدود سن الثلاثين أمرا مَعيبا، ومؤشرا على خلل ما يثير علامات الاستفهام والحيرة في محيط الأسرة والمجتمع. وإذا كان ماء غسل الميت كفيلا بأن يعطل زواج فتاة ويلحق بها “نحسا” يلازمها مثل ظلها، فإن ماء عين “لالة ميرة” يستطيع تخليصها من تلك التأثيرات الشريرة، وييسر سبل الحظ السعيد أمامها بمجرد تطهرها به بحسب الثقافة المحلية بآسفي، حيث يفد إليها حجيج النسوة كل يوم أربعاء ممن يتطلعن إلى الظفر بشريك حياتهن، علّهن يتخلصن من الحظ السيء أو “النحس” .

   وفوق الصخور المنتصبة قبالة العين، تقف فتيات بأعمار مختلفة، تتلقف كل واحدة منهن سبع موجات من البحر أسفل العين، ثم تغتسلن بماء العين الحلوة في خلوة صغيرة، تيمنا فيما تنويه كل زائرة، يتبعها طقس الخطو سبع خطوات فوق مجمر البخور ثم كسره، اعتقاداً منهن، حسب الثقافة السائدة في المنطقة، أن هذا سيجلب العريس الذي لم يطرق باب الأهل بعد، وكلهن أمل في أن يدخلن القفص الزوجي في القريب العاجل. وبمجرد انتهاء الفتاة من هذه الطقوس، تتعالى الزغاريد والصلاة على النبي محمد، عقب خروج كل ثيب من العين ذاتها، وثيابها مبللة، طامحة أن يكون حظها من العريس قريباً، لتودع حياة ” العنوسة ” إلى غير رجعة، ببركة “لالة ميرة”، وحينما تتعرض الفتاة لرذاذ الموجات السبع أسفل العين ثم الاستحمام بماء العين، يرد الشبان من أعلى صخرة التبرك “مبروك العريس”، حسب شهادات من عين المكان.

   يقول الأستاذ إبراهيم كريدية، مؤرخ آسفي، متحدثا عن شاطئ (أفتاس): ” كان في الماضي مكانا معزولا وموحشا ومخيفا، كان يشاع عنه، أن بحره خطير لا يقتحمه إلا السباحون الأقوياء المهرة، والطريف العجيب، أن جزءا رمليا ومعزولا من هذا الشاطئ في اتجاه (رأس الأفعى)، كان يحجبه ستار من الصخور البحرية، كان مقصدا لنساء آسفي والجوار في كل يوم أربعاء، لممارسة طقس غريب وهو (التطهر والتبرك)، فكان سكان الجوار والمرتادين الدائمين لشاطئ (تافتاست)، يحترمون هذا الطرف البحري المعزول ولا يقتربون منه، و يسمونه (بحر العيالات)… كانت النسوة يغمسن كامل أجسادهن في مياهه، ليتممن بعد ذلك طقوس تطهرهن المنشود، بالصعود في مرحلة ثانية إلى (عين لالة ميرة) المجاورة، والاغتسال بمياهها الحلوة غير المالحة، وكلهن نشاط وإيمـــان وأمــل وتفاؤل، بأن فعلهن التطهري هذا، سوف يبعد عنهن (التابعة) ويجلب السعد والعريس للعوانس منهن، ويطرد النحس وسوء الطالع للشقيات منهن ” (30).

   والجدير بالذكر، أن الربط بين الأضرحة والعيون والأشجار، كان أمرا شائعا بإفريقيا الشمالية (31).  ومنها بالطبع المغرب، وينسب المعتقد الشعبي إلى مياه عين “لالة ميرة” علاجات غريبة، بالقول أنه يذهب عن المتطهرات به، من العوانس والراغبات في الزواج، النحس والعين والحسد والسحر وسوء الطالع أي ” ما يشار إليه في المدلول الشعبي بطرد (التابعة) أو (العكس ) (32) ، ويرزق لمن تؤمه وتغتسل به من المتزوجات، نعمة الإنجاب والولدان (33)،  لذلك تجد النسوة يقضين نهارهم في الاغتسال بمياه عينها المتدفقة، وقبل مغادرتها يتركن بعين المكان بعض ملابسهن، ويستحسن ملابسهن الداخلية، كما تضعن بخورا في “مجمر”، يتم تكسيره عنوة بعد أن تخطين فوقه (34). كإعلان عن التخلص من أدران عسر ألم بهم، وأطال فترة عزوبتهن، وأثناء ذلك، تسمع لهن قهقهات مدوية، تعبير منهن عن أمل وتصالح جديد مع ذواتهن (35)، والغريب أن هذه الزيارة والطقوس تشاركهن فيها عوانس من الأوربيات (36).

   وقبل أن أنهي الحديث عن ” لالة ميرة ” أرى وجوب ذكر غريبة من الغرائب، التي عثرت عليها أثناء بحثي، وهي أنني وجدت ضريحا بنفس خواص وفرائد موقع “لالة ميرة”، وهو ضريح “سيدي اليابوري” الرابض على الساحل الأطلسي، قرب قصبة الأوداية التاريخية بالرباط، فهو مثل “لالة ميرة”، مزار تقصده النساء العوانس، لتغتسل بمياه البحر القريب منه، جلبا للسعد ومعه الزوج، وزيادة في هذه الغرابة، وقفت على أن يوم زيارته من قبل النسوة المتبركات به، هو يوم الأربعاء، وهو نفس يوم زيارة “لالة ميرة” (37).

   و بالأطلس المتوسط جنوب جبل العياشي، توجد بقرية تيفكرا، عين ماء يحج إليها الناس للتطهر بهدف الزواج أو الإنجاب أو من أجل صد الأرواح الشريرة .. وتوجد المنابع المائية بوفرة في الأطلس الكبير، ومن أشهرها بجهة كدميوة عين إمي ن تلات، حيث يتم بمناسبة عيد الماء، ذبح تيس أسود والتوجه إلى جن العين بالدعاء حتى تكون السنة سنة خصوبة وعطاء… طقوس كهذه لا زالت حاضرة بالمغرب في مواقع متعددة، كسيدي سليمان مول الكيفان وسيدي عبد الرحمن (الدار البيضاء)، وسيدي موسى (سلا) وللا عيشة البحرية قرب أزمور… وبجهة القصر الكبير، تتجه الفتيات للاستحمام بعين ماء بهدف التوصل إلى الزواج. ونعلم كذلك أنه قبل ليلة العرس، تتم دعوة النساء والفتيات من الأقارب للاستحمام رفقة العروس، فالماء يحمي العروس الشابة من التأثيرات السيئة). وتشير الباحثة البيضاوية بالكامل كذلك إلى صلة قصة (عيشة قنديشة) بقصص آلهة أخرى مثل بان إله المراعي، وحوريات الماء ربات الينابيع والجداول (38).

على سبيل الخـتـم

   آسفي مدينة مليئة بالكنوز، منها ما هو مدفون في باطنها ومنها ما هو ظاهر للجميع، ومن بين كنوز آسفي المُهملة عين “لالة ميرة”. هي واحدة من المنابع المائية الجميلة غير المعروفة. لِمياهها فوائد علاجية مهمة، غير أن تنمية المنتجع وتحقيق الإقلاع المنشود به لا زال متعثرا، بل حُلما مؤجّلا لدى الفاعلين المحليّين والساكنة بوجه عام، ويقتضي النهوض به إدراجه ضمن المشاريع السياحية المستقبلية بوجهة آسفي، لتوفره على إمكانات نجاح كبيرة. وعلى الرغم من تهيئة منتزه سيدي بوزيد وإنجاز بعض الإصلاحات الطفيفة للعين مثل إقامة أحواض من الحجارة عليها، وتجميع المياه في مسلك واحد وتحويلها إلى شلال صغير، بعدما كان الماء ينساب بشكل متفرق من أعلى الجبل إلى الشاطئ، غير أن كل ذلك لا يعتبر كافيا للترويج للعين والنهوض بها على المستوى المطلوب، فالوضع الآن لا يشجع البعض على زيارتها بسبب الأوساخ والنفايات المنتشرة بها ومقذوفات قنوات الواد الحار العشوائية بجوارها من الفنادق والمقاهي والفيلات وغيرها، وغياب المرافق الخدماتية والتجارية، حتى أن كثرة المياه المتدفقة من العين جعلت الحشائش والغاب ينمو بكل مكان بشكل عشوائي، وعدم الاهتمام بمجرى المياه جعل الطحالب تتراكم عليها عشوائيا و تحطم المجرى نفسه عدة مرات، ما جعل المنظر لا يسر العين والزائرين.

    وبالرغم من أهمية وشهرة عين “لالة ميرة”، إلا أنها لم تحظَ بالرعاية والاهتمام المناسب، ما يؤهلها لتمثل مصدر دخل جديد لها أو تنشط حركة السياحة بالمدينة. فلم يُسعفها موقعها الإيكولوجي الأخّاذ على منتزه سيدي بوزيد الذي جمع الحُسن من أطرافه، خضرة الطبيعة في محيطه ومنحدره، وسحر المحيط الأطلسي بلونه الفيروزي، في لفت انتباه القيّمين على الشأن المحلي والإداري والسياحي، لتنزيل مشاريع بُنى تحتية، تسهم في تحويلها إلى وجهة سياحية، وإلى قيمة مُضافة للمنتوج السياحي لوجهة آسفي، وذلك على غرار مواقع مماثلة حظيت بالاهتمام والترويج اللازمين. وعموما تحتاج هذه العين الفريدة بآسفي إلى عملية تهيئة وتوسعة أخرى، وإلى استثمارات هامة، وفتح الطرق إليها بما يشكل دارة بيئية سياحية، بحكم التضاريس الفريدة والمتنوعة والمنعرجات التي تغري بالمشي والتجوّل مشيا، وسيكون من الروعة بمكان ربط عين “لالة ميرة” بأسفل المنتزه من خلال انجاز درج كبير يصل عين “لالة ميرة” بالشاطئ ويتوسطهم شلال مياه العين، وإقامة المزيد من الخدمات حولها مثل المقاهي والإنارة العمومية والمسالك والمزيد من مواقف السيارات والمراحيض وحاويات القمامة، والترويج لها لاستقطاب المزيد من الزائرين إليها.  

   وفي هذا الصدد ذكر الأستاذ ابراهيم اكريدية، على صفحته بالفايسبوك، أن مكان عين “لالة ميرة “بجرف سيدي بوزيد كان قد استأثر باهتمام ” شخصية فرنسية زمن الحماية، اشتهرت باسم الدكتور دافيد Docteur David ، كان يشتغل طبيبا إقليميا بمدينة آسفي وله أبحاث عن المحارات التي تستخرج الأصباغ الأرجوانية، كان مهموما بمشروع كبير، وقد بدأ في تنفيذه، لكن مرض التيفويد لم يمهله حتى ينجزه، فقد مات بسببه سنة 1938، ويقوم مشروعه على تحويل أجراف آسفي إلى حديقة غرائبية jardin exotique ، على مثال: ” Sur le modèle du célèbre ensemble de Monaco ” ، أي على مثال حدائق أجراف ساحل موناكو”، وأضاف متسائلا ” أليس لنا في هذه المبادرة ومن هذا الأجنبي قدوة وتحفيز؟.. وماذا ننتظر الآن حتى ننقذ الثروة الطبيعية بهذه الأجراف التي كانت بالأمس منتزهات لأجدادنا ومسارح لأبصارهم وتأملاتهم ولخيالاتهم؟ “.

   إن عين “لالة ميرة” في أمس الحاجة إلى التثمين وإعادة التأهيل بأشكال أخرى تفيد الثقافة والهوية والسياحة وتنعش ذاكرة الأجيال المستقبلية. كما أن هناك حاجة إلى تثمينها كتراث بيئي مائي تاريخي، في مختلف أبعاده، نظرا لما تشكله من أهمية قصوى في المستقبل المنظور وبالنسبة لأجيالنا المستقبلية، مع ضرورة التفكير في كيفيات استثمار بعدها التاريخي للحفاظ على الذاكرة. لهذا يمكن ” أن تكون عين “لالة ميرة” نموذجا لابد أن يحظى بالعناية اللازمة من قبل الناس، فهي إن فشلت في تحقيق خصوبة الناس يمكنها، على الأقل، أن تعطي الخصوبة للغطاء النباتي بالمنطقة طيلة السنة، فحسن استغلال مياهها يمكنه أن يعود بالنفع على المساحات الخضراء بالمنطقة إذا ما تجنبنا ضياعها كما هو الحال الآن “(39). فمتى ينظر المسؤولون إلى “عين لالة ميرة” بنظرة الرأفة لكي يُصلحوا حالها وتعود مقصدًا سياحيًا يأتي إليها السياح من كل مــــــكـــــــــــــان؟ .

Visited 328 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الله النملي

كاتب وباحث (المغرب)