جنرالات السياسة الرأسمالية في نقطة حرجة
اليزيد البركة
تابعت اللقاء الصحفي لبوتين وشولتس اليوم، والذي نقلته بشكل مباشر قناة RT، ومن أراد التدقيق في حقائق وليس المعالجات والتعليقات الصحافية عليه مشاهدة اللقاء في هذه القناة.
كلنا نعرف أن بوتين جاء من الاستخبارات، وأعرف جيدا أن من جاء من الاستخبارات أو من الجيش لا يصلح لممارسة السياسة، لأن السياسة الحقيقية وليس التضليلية، تستدعي أشخاصا من طينة شفافة ولها قواعد مبدئية وإنسانية، ومن التاريخ ثبت أن كل من مارس السياسة مع التضليل وأشكال من الدكتاتورية انتهوا إلى المساءلة وحتى الدحر والإبعاد من صنع القرار في نهاية المطاف. لكن لا يمكن أن ينكر أحد أن بوتين أظهر وطنية، وحتى بعدا قوميا للشعب الروسي، لا يمكن لأحد ألا يقدرها، وهي من خلال الأجوبة ليست قومية مماثلة لقومية النازية ولا لقومية الصهيونية، بحيث تحس من خلال أجوبته بتملك ثقافة عالية بالقانون الدولي وكل الاتفاقيات المنبثقة عن منظمات الأمم المتحدة.
ما يمكن لأي صحافي أن يسجله من مساجلات بوتين مع بعض الصحافيين ومن التلميحات الدقيقة على بعض ما صرح به شولتس، هو أن بوتين خبأ كثيرا من الأحجار التي استطاع بها أن يكسر الأنياب ولم يستعملها في البداية، بل كان لبقا ومرنا في الأول، إلى درجة أن المرء يمكن أن يعتقد أن الزيارة استطاعت أن تسجل تخفيضا كبيرا للتصعيد.
وكان شولتس، وهو أيضا سياسي مخضرم من نفس سن بوتين عاش كل تحولات العلاقات بين أوروبا والناتو مع روسيا، بمثابة الثعلب في “كليلة ودمنة”، هو لا يريد أن تشعل الحرب في أوروبا، وخسارة ألمانيا فيها ستكون كارثة، ولكنه لا يستطيع أن يوافق على كل ما يقوله بوتين، فثعلب “كليلة ودمنة” معروف عنه أنه يصدح ببعض الجمل كتحصيل حاصل يعرفها الجميع ولا تحمل أي عقاب مستقبلا عليه؛ و”كليلة ودمنة” في نهاية المطاف ثمرة تجارب إنسانية في المجتمع والحكم في الهند.
كان شولتس هنا وهناك، شيء لروسيا وشيء لأمريكا، لكي يأكل قليلا مما يتبقى بعد شبعهما، مع العلم أنه في وضع قاب قوسين من المقصلة. لكن هناك فرق كبير بين من يجر معه تجربة كبيرة في كل الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وبين من لا يتمتع بكل هذه التجربة، أو من يتخرج صحافيا أو ينهي دراسته الجامعية ويعين مساعدا، ويعتقد أنه في مقدوره أن يتبوأ مقعد القاضي والسياسي والاقتصادي والقانوني والطبي والثقافي في أي مجتمع أو على مستوى العالم. سأدرج هنا مثالا واحدا، كنت لم أعره أي اهتمام كبير ما عدا تدوينة سفهت فيها ما نشرته صحيفة “الغارديان” حول الشهيد المهدي بنبركة، واعتبرتُه سخيفا لا يرقى إلى درجة تحقيق صحافي، ولو في حدوده الدنيا، ولا يستحق الرد المتأني، وفعلا، ما نشر كان سخيفا ومليئا بالأكاذيب والتلفيقات، حتى في التاريخ المكتوب والمسجل، بحيث لا يمكن للمهدي أن يكون في مكانين مختلفين في آن واحد. لذا وأمام ما تم فضحه بعد صحيفة “الغارديان” حاولت بعض المواقع والجرائد ان تتدارك بعض الأخطاء وتذكر بأن المهدي بن بركة تم توجيهه إلى غينيا حتى بدل أن تبرر ذكر غينيا الاستوائية، التي لم تستقل من الاستعمار الاسباني إلا في 1968.
كما قفزت على عبارة أن المهدي ب بركة غادر المغرب في 1960 هربا من النظام، في حين أنه توجه إلى تونس في يناير 1960 لحضور المؤتمر الثاني لتضامن حركات الشعوب الأفريقية التي يحتل فيها مركزا قياديا في أمانته العامة، في نفس الطائرة التي سافر على متنها المحجوب بن الصديق والمهدي العلوي وعبد الهادي بوطالب، للمشاركة في نفس المؤتمر، ولم يعد إلى المغرب من تونس لأنه في في منتصف فبراير بدأت اعتقالات في صفوف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهمة محاولة اغتيال ولي العهد آنذاك . ولقد أعادت نفس المواقع نفس أسطوانة “الغارديان” حول المسدس وحول 250 دولار و1500 فرنك فرنسي، ونحن نعرف جيدا أن قادة حركة التضامن كان جهدهم الكبير هو توفير السلاح والمال لحركات الاستقلال من الاستعمار، وأن المال والسلاح كان يتدفق من عدة مصادر، منها الاتحاد السوفياتي والصين، اللذان كانا يتنافسان تنافسا كبيرا في افريقيا، إلى درجة وجود حركات ماوية متعصبة، وحركات تابعة للسوقيات متعصبة هي الأخرى، في حين كان جمال عبد الناصر وسيكوتوري وتيتو والمهدي بن بركة، وغيرهم من قادة افريقيا يدفعون إلى نهج طريق ثالث وكانت مصر توفر السلاح والتدريب وتتكلف بالانفاق على آلاف مناضلي الحركات التي توجد في بلادها وحتى على مكاتبهم، لذا لو كان المهدي بن بركة في حاجة إلى مسدس أو حتى سلاح أو تدريب على الأمن هناك ضباط كبار مصريين في كل التخصصات، أما ما قيل عن غينيا فهو يبين سذاجة من اطلع على أرشيف الرسائل، وكيف حتى انطلى عليه اسم ” الشيخ” دون أن يتعمق في احتمال أن يكون شخصا آخر، لأنه لم يقدم ولا دليل واحد على أنه المهدي المهدي بن بركة ، ذلك أن إعطاء اسم مستعار لأي شخص من طرف جهاز استخباراتي ليس إلا من أجل الحفاظ عليه سريا، والحال أن اسم “الشيخ” يبين من البداية أنه عربي، وما دام أن الموظف في السفارة التشيكوسلافية يعمل في فرنسا، فإن الغالبية العظمى في ذلك الوقت من الجزائر ومن المغرب، هم من يعيش في باريس. لذا لماذا لا يطرح كاتب التقرير أن الاستخبارات التشيكية كان لديها هدف لطمس الجهة التي أخبرت رئيس غينيا بالإعداد لانقلابين على الأقل واحد في 1960 والثاني في 1961، وكل الجرائد الكبرة الفرنسية والألمانية والأمريكية قالت آنذاك أن من فضح محاولات الانقلابات التي دبرتها فرنسا كانت تشيكوسلوفاكيا. المهدي بن بركة لم يكن أبدا في حاجة إلى أن يذهب إلى غينيا، ولا حتى أن يذهب إلى غينيا الاستوائية لكي يبحث عن معلومات، وأكثر من هذا كان لا يخزن المعلومات بل يطرحها في الحين للعموم بكل جرأة وحتى في فرنسا في كل الملتقيات العمالية والطلابية كان يفضح المعلومات البالغة السرية وكان لا يخفي ما كان يدبر من مؤامرات للثورة الجزائرية من طرف التيار الاستخباراتي الأمني الفرنسي . المناضلون في كل حركات التحرر في افريقيا يلتقون بالمهدي بن بركة في إطار منظمة التضامن وهم موجودون إذاك في القاهرة وفي باريس وفي جنيف، وبعد استقلال الجزائر موجودون في الجزائر العاصمة، بل أكثر من هذا محمد حربي المثقف والمناضل الجزائري، كان صديقا للمهدي بن بركة وكان مقيما في باريس، وفي بداية 1960 حتى سبتمبر 1961 عين سفيرا للحكومة المؤقتة الجزائرية GPRA في غينيا وشخصية، بمثل هذا الحجم في غينيا في هذا التاريخ. ومع ذلك يسافر المهدي بنبركة إلى غينيا لكي يبحث عن معلومات متوفرة في باريس وفي القاهرة وفي حوزة محمد حربي، ضرب من حكايات ما وراء الطبيعة، وسذاجة لا حد لها، تبين أنه من الصعب على من بدأ مشواره السياسي أن يكون في مستوى ما أظهره بوتين وشولتس من دراية عميقة وحنكة في توجيه اللكمات وفي درءها.