الحرب الباردة الجديدة وأبعادها الجيواستراتيجية للسيطرة العالمية

الحرب الباردة الجديدة وأبعادها الجيواستراتيجية للسيطرة العالمية

أحمد بابانا العلوي*

هناك عالم  ما قبل ظهور وباء “كوفيد 19” وسيكون هناك عالم ما بعده… وكأن الحدث الذي نعيشه قد أحدث قطيعة في أساليب عيشنا وطرق حكمنا وعادات استهلاكنا وممارساتنا في العلاقات العادية. 

 على المستوى الدولي فقد سلط الضوء الكاشف عن احتدام الصراع بين الولايات المتحدة والصين…، وتمارس الصين في هذا المجال دبلوماسية القناع (diplomatie du masque). 

 أما على المستوى الاقتصادي  فقد وجه للنموذج  التنموي السائد.نقدا عميقا تناول المضون والنتائج .. 

 وبالجملة فإن الأزمة صدمت المتشائمين والمتفائلين على السواء… 

 فقوت من هواجس الخوف ودفعت  الى الركون للعزلة  والانطواء  والخشية  من الآخر… وفي نفس الوقت  غذت التطلعات إلى الأفضل وشجعت الحلول المبتكرة… 

 الى أين إذن يسير العالم في ضوء عتمة هذه الأزمة..؟  وكيف نتحاشى  أن يتحول عالمنا إلى عالم للوحوش الضارية.. 

 مع بداية الألفية الثالثة وقبل حادثة 11 من شتنبر (2001) المروعة، فقد كانت  الولايات المتحدة تركز جهودها نحو المنافسة بين القوى العظمى…

كانت روسيا قد بدأت تتعافى من اثار إنهيار الإتحاد السوفياتي، وتقلد سدة الحكم فيها “فلادمير بوتين “، أما الصين فقد حققت نموا ضخما وتطورا متسارعا في جميع القطاعات، لدرجة  أن الإدارة  الأمريكية في عهد “كلينتون” سعت إلى أن تجعل منها شريكا مسؤلا… 

لقد انصرم عقدان  على الشروع  في صراع المنافسة الكبرى بين  القوى العظمى في الحلبة العالمية. 

كان التنافس هو الطابع الإستراتيجي الأول  الذي ميز الصراع الذي  نشب بين القوى العظمى في بداية الألفية الثالثة ، ثم أصبح الصراع أكثر شراسة نتيجة تدهور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وأيضا روسيا.. 

 وخلال العقدين المنصرمين، عرفت علاقة الصين بالعالم  تغييرا جذريا، وفقا للقواعد التقليدية لقياس القوى العظمى لقد انتقلت الصين إلى طور جديد بحيث أصبح  إشعاعها العالمي يتجلى في قدرتها على الاستثمار  والحيازة في الخارج. 

 ويندرج في هذا الإطار انجازها لشبكة البنية التحتية للنقل عبر اسيا الوسطى والشرق الأوسط واوروبا (طريق الحرير الجديد). 

 كما أن لديها قدرة كبيرة على توقع المخاطر العسكرية خارج حدودها، وذلك من خلال بناء أسطول يجوب أعالي البحار، انطلاقا من قاعدة جيبوتي… 

 وطموح الصين لا يتوسل بفرض الإيديولوجية الماركسية بل با عادة تشكيل النظام الدولي تمهيدا للهيمنة عليه، لذلك فهي  تعمل في المؤسسات  الدولية على فرض معاييرها.. 

في سنة 2001 كان ينظر إلى الصين بأنها تريد فقط الهيمنة على آسيا. 

 أما في سنة 2021 فكان ينظر إليها بأنها في أفق  2049، السنة التي ستخلد فيها الذكرى  المئوية للثورة الصينية  التي قادها ماو سيستونغ… 

 فإنها تهدف إلى السيطرة  على العالم… 

 إن المنافسة بين الولايات المتحدة  والصين  ستهيمن على المسرح الدولي خلال النصف الأول من القرن الحالي… 

 في مواجهة هذا التحدي تقوم  الولايات المتحدة الأمريكية  بتهيئي نفسها وذلك بحشد  إمكانياتها وتقوية حلفائها في اسيا. 

 وتسعى بهذا الصدد لتوطيد تعاونها مع الهند واليابان وأستراليا  ضمن مجموعة “الكويد “quad »” وقد أضيفت إليها مجموعة “لوكسL Aukus“التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا و تم إنشاؤها  سنة 2021.. 

 وهكذا تم التخطيط لحلف من القوى البحرية  في المحيط الهندي والمحيط المتجمد الشمالي  Lindopacifique) لإحتواء الصين. 

 لقد ضرح”هنري كسنجر” وهو من دعاة الإنفراج مع الصين بأن العالم أصبح على شفا حرب باردة جديدة «une nouvelle guerre froide» 

ورغم محدودية المقارنة بين الدولتين فلا بد من الإشارة بأنه لا وجود  لكتلة أمريكية في مواجهة الصين، كما لا توجد  كتلة صينية تشكلت لمواجهة الولايات المتحدة فالصين لم تعقد تحالفات دفاعية  وتفضل دولا تدين لها بالولاء والتبعية الاقتصادية.  

 من الصعب على الولايات المتحدة أن تجر الهند إلى الدخول معها في صراعها مع الصين كما تجد صعوبة  بالغة في أن تجعل  من الحلف الأطلسي حلفا معاديا للصين لأن الدائرة التي يحميها الحلف محدودة بأوروبا والمحيط الأطلسي الشمالي. 

 إن مثاق الحلف الأطلسي يقوم على نقطتين أساسيتين: الدفاع عن أوروبا في حرب متوقعة ثم خلق وسائل من شأنها أن تعطي للبلاد الأوروبية جو الاستقرار… 

 فالحلف لم يحقق إلا في دائرة ضيقة الوسائل العسكرية والسياسية والإقتصادية التي أملها  فيه مؤسسوه….وغاية الحلف تحقيق توازن دفاع جماعي يضمن الاستقرار. 

 ولا بد من التأكيد بأن هناك اعتماد متبادل  بين الولايات المتحدة والصين خاصة في المجال الإقتصادي والمالي. 

 إلا أن هذا  الملمح لا يشير  إلا إلى جانب من الحقيقة…، أما الحقيقة كاملة فتتمحور في تحدي شامل “سياسي” واقتصادي وتكنولوجي وعسكري..، بمعنى أننا أمام منافسة توظف الأمن الدولي الذي مسرحه العالم كله..، وتجري هذه المواجهة برا وبحرا في ميدانين مهيمن “الفضاء الرقمي” “والفضاء الخارجي” ويحتفظ البلدان بمصالح مشتركة سواء تعلق الأمر بتأمين تدفق التجارة البحرية أو تدبير الأزمة الكورية الشمالية… 

إن الحرب الباردة الجديدة تم الإعلان عنها في خطاب نائب “الرئيس الأمريكي “مايك بنس Mike pence” سنة 2008، ولكن  يمكن  تحديد تاريخ انطلاقها بحدث صعود “كسي جيبغ Xi jiping”  إلى سدة الحكم في الصين سنة 2012 حيث صرح في العديد من المناسبات بأن معركة كبرى قد بدأت تمهيدا لإنتصار الاشتراكية… 

ماهو موقع روسيا واوروبا من الصراع الامريكي الصيني ..،ان اختيارهم الاستراتيجي هو الذي سيحدد في المستقبل  التحول الذي سيطرأ على ميزان القوة بين الصين والولايات المتحدة.. 

 ان روسيا رغم انها تشارك الصين في الرؤية العدائية للغرب و مساندة النظم المستبدة ..الا انها لم تبرم حلفا عسكريا مع الصين ولا توجد لها نية صريحة لانشاء حلف بين البلدين.. 

 ان ما تخشاه الولايات المتحدة هو توطد العلاقة الاوراسية التي قد تشكل تحديا كبيرا لها défi eurasiatique 

 اما الاتحاد الاوروبي فيعتبر الصين منافسا الا انه حريص على التعاون معها ، وفي نفس الوقت  يتوجس من التمدد الاقتصادي والثقافي  للصين وما تقوم به من نشاط مكثف في مجال التجسس والسطو على التكنولوجيا.. 

 واذا ما استطلعنا ما سيحدث خلال الثلاثين السنة المقبلة من تغييرات متوقعة على  التوازنات بين القوى العظمى .. فسنخلص الى ان ميزان القوة العسكرية والاقتصادية سيكون الضامن الاساسي للاستقرار العالمي.. وبالتالي فان عوامل كثيرة سوف تتحكم في سياسية الدول وتدعوها الى التحرز وعدم الانجرار الى  الصدام.. 

 واول هذه العوامل الردع النووي والثاني الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصاد.. 

ان تجدد التوتر على الساحة الدولية بين القوى  المتنافسة  يعتبر مؤشرا على احتمال نشوب  نزاع حاسم للدفع  بعملية  الحض على الظهور  التدريجي لنظام عالمي  يحقق المصلحة  المشتركة بحيث  لا يضيع صوت امة من الامم ولا تنسى فيه مصالح الضعفاء.. 

 ان نظرة الى توازن القوى  على الصعيد العالمي في المجالات الاقتصادية والعسكرية والديمغرافية وتماسك المؤسسات السياسية واستعداد السكان للانخراط في دعوات التعبئة..كل  هذه العوامل مجتمعة  ترجح الصين كقوة عظمى يحسب له الحساب في الصراع الجاري للسيطرة على العالم.. 

والولايات المتحدة في هذه المواجهة مازالت تمتلك اوراق التفوق والريادة.. 

فلا مثيل للقوة الامريكية من حيث مداها العسكري  على الصعيد العالمي  والاقتصاد الأمريكي يعتبر اقوى اقتصاد على الساحة العالمية.. أضف الى ذلك  التأثبر  الهائل  للتكنولوجيا الأمريكية والاشعاع الثقافي الذي الذي لا مثيل له من حيث الجاذبية العالمية للثقافة..، وقد وفرت  كل هذه العناصر للولايات المتحدة نفوذا سياسيا على الساحة الدولية لا نظير له.. وقد ادى هذا الوضع الى ان تشتبك  في منافسة  مطردة مع القوى الصاعدة التي تسعى  الى اعادة تشكيل النظام العالمي على اسس يكون لها فيه صوت وصولة.. إن النزاع والصدام بين الدول القوية سيستمر تحت مظلة ” السلام النووي la paix nucleaire“. والمدهش ان ما أسفرت عنه حركة التاريخ  من نزاعات  مدمرة بين الدول القوية بهدف السيطرة والهيمنة.. قد اهتزت من جرائه اركان العالم وتتداعت أصداءه بين أرجائه وشعوبه.. مما يدفع الى طرح السؤال حول ما سيكشف عنه الغد المنظور..

 فهل ستتغير بنية النظام العالمي .. وتبرز على مسرح السياسة العالمية قوى جديدة تطالب بان يكون لها موقع  ودور في تقرير مصير العالم والمساهمة في حل أزماته.. 

 انه المخلص الوحيد من اخطار الدول الكبرى التي تعسى الى الهيمنة والطغيان.. وتهدد السلام في العالم.. 

 خاتمة في سطور.. 

 ان الرؤية الاستراتيجية للصراع القائم في العالم ، تسلط الضوء على الهيمنة الامريكية باعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الاولىى المسيطرة على السياسة العالمية ..ومن ثم وجب تسليط الضوء  على القضيا الرئيسية التي تحتاج الى ايجابات شاملة من الناحية الاستراتيجية وذلك بالتركيز على عوامل الاضطراب العالمي.. 

 لقد ادت الثورة التكنولوجية الى بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة ومتزايدة وبدون نحقيق توازن بين دلوله سيغرق العالم في الفوضى.. 

 وهناك شعور  في العالم بالريبة والامتعاض من التفوق الأمريكي.. 

 وقد راودت لعديد من القوى الدولية الصاعدة فكرة عقد شراكة استراتيجية لتعزيز القطبية العالمية وهو مصطلح يفسر على انه “مناهض” للهيمنة الامريكية.. 

ومن نافل القول ان لا شيئ يدوم الى الابد الا انه عندما يزول  لا يعوض الوضع السابق ثانية .. وهذا ما سيكون عليه التفوق الامريكي الحالي فسوف يتلاشى في وقت ما لا محالة و السؤال الذي يطرح نفسه ما هو البديل الذي يحل محله.

 ولا شك بان الزوال المفاجئ للقوة الامريكية سيتمخض عنه حدوث فوضى شاملة.. 

ويرى “بريجنسكي” في  (كتاب الاختيار) ” بان زوال الهيمنة الامريكية لن يؤدي الى ظهور سلطة اخرى  تحل محلها بحيازتها لنفس تفوقها السياسي والعسكري والاقتصادي وتكنولوجي والثقافي والاجتماعي  على الصعيد العالمي.. 

 لان القوى التي سادت في الماضي اضعف من ان تتولى الدور الذي تلعبة الولايات المتحدة في العالم .. 

 اوروبا  اضعف من ان تملا الفراغ  ومن غير المؤكد ان يحقق الاتحاد الاوروبي الوحدة السياسية التي تمكنه من منافسة الولايات المتحدة في الميدان السياسي والعسكري .. 

ولم تعد روسيا تشكل قوة  امبريالية .. والشعب الياباني يشيخ واقتصاده يتراجع وقد تلاشت التطلعات  التي كانت ترشح اليابان ان تكون “القوة العظمى”.. 

 اما الصين لو نجحت في الحفاظ على ارتفاع  معدلات نموها الاقتصادي فستصبح  في احسن الاحوال قوة اقليمية لها جاذبية عالمية محدودة .. وينطبق نفس الامر على الهند اضافة الى ما يهدد وحدتها القومية من تمزق  على المدى البعيد .. 

ان قيام  ائتلاف  يجمع القوى القوى السابقة احتمال بعيد التحقيق بحكم الصراعات التاريخية بين تلك القوى الاقليمية المتعارضة  كما انه يفتقر الى التماسك و الطاقة اللازمة لازاحة امريكا من موقع الصدارة والمحافظة على الاستقرار العالمي ..” (ص 14) 

 والخلاصة التي ينتهي اليها “بريجنسكي” بخصوص الهيمنة الامريكية على العالم فيجملها في امرين :الامر الاول يكمن في نبذ الديموقراطية الامريكية نفسها للقوة .. 

 والامر الثاني سوء استخدام امريكا لقوتها في العالم.. 

 وطالما استمر المجتمع الامريكي ملتزما بمبادئه سيتمر معه دور امريكا كعامل استقرار عالمي اما اذا ضعف ذلك التزام وفقد الامريكيون الاحساس بهدف مشترك فقد ينتهي دور امريكا..(ص15) 

 ان التحدى الاستراتيجي الذي سيواجه القوى المتنافسة في الساحة الذولية يستدعي بذل جهد مضطرد من اجل اعادة تشكيل النظام العالمي ليكون اكثر امنا وعدلا .. 

ولن يتاتى تحقيق هذا الهدف الا اذا تم تحويل قوة الهيمنة الامريكية المسيطرة على العالم الى ممارسة مشتركة تقوم بصياغة بيئة دولية اكثر امنا واستقرارا.. 

 لان نظم الحكم التي تسعى الى الطغيان والهيمنة لن تصلح العالم بل ستشكل خطرا على السلام وعلى مستقبل البشرية. 

 المراجع: 

– زبيغنو بريجنسكي  الاختيار ( السيطرة على العالم ام قيادة العالم) ترجمة عمر الايوبي دار الكتاب العربي بيروت 2004 

 – هنري كسنجر هل تحتاج امريكا الى سياسة خارجية ( نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين دار الكتاب العربي بيروت 2002 

– عباس محمود العقاد القرن العشرون ماكان وما سيكون منشورات المكتبة العصرية بيروت صيدا 

– المجلة الفرنسية sciences humaines ( les grands enjeux dumonde contemporain)عدد رقم 65 /ديسنبر 2021/ويناير2022 /// Maurice Ferro ( Kissinger et Brzezinski destinées et penssées paralléles /ed albatros1978  

* باحث أكاديمي مغربي
Visited 31 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة