التطوع والارتزاق في الحروب “نموذج الحرب في دونباس”

التطوع والارتزاق في الحروب “نموذج الحرب في دونباس”

يزيد البركة*

كثير من الناس يميزون بين التطوع والارتزاق بالسعي إلى المال من عدمه فقط؛ والحال أن الأمر أعقد من ذلك. فهناك أيضا إلى ما سبق، فرق أن المتطوع يمكن أن يكون في نفس موقع المرتزق، إذا ما كان مؤمنا بنفس الأهداف السياسية والفكرية، مثل جماعات النازية الجديدة في أوكرانيا وعدد من البلدان الأوروبية التي يوجد فيها هذا التنظيم. كما أن المتطوع يمكن أن يتطوع بدون مغنم من منطلقات عرقية أو انتقامية، لتعرض عائلته مثلا لإبادة ما سابقا. 

 قادة أمريكا الحاليين، في العقود الأخيرة من ريغان إلى الآن، تنقصهم القدرة على الإبداع، ويعوزهم الخلق والابتكار في وضع الاستراتيجيات، وكل ما دأبوا عليه هو تقليد المعارك السياسية والعسكرية التي سبق أن أبدع فيها من سبقوهم، وحتى أوباما الذي أبهر البعض، ليس إلا كومبارسا للبنتاغون. والدليل أنه اشترى السلاح البيولوجي الأوكراني القديم لفائدة البنتاغون، عندما كان مستشارا في الكونغرس، وتم تحضيره للتقدم للانتخابات الرئاسية. 

لقد تم القطع بين ذلك التاريخ الذي كان فيه رئيس الولايات المتحدة يرأس كل ما تحت اختصاصاته، ومنها الجيش، لكن أثناء حرب فيتنام وبعدها، أصبح البنتاغون هو الفاعل الأساسي، وهو من يخلق الرؤساء، وحتى ترامب نفسه كان الجيش يوافقه على أهدافه، وجيء به. ولكن أسلوب الرجل جعل أسهمه تضمحل ويصبح لذلك عقبة. وحتى من حاول أن يستعيد تاريخ رؤساء أمريكا الذين يقررون فعلا، تم التخلص منهم قتلا.

 كانت استراتيجية خنق الاتحاد السوفياتي في كل المجالات استراتيجية طويلة الأمد، بدأت حتى قبل فوز البلاشفة بالسلطة، واستمرت لعقود، بعد انهيار الدولة السوفياتية.  لم يستطع قادة الغرب أن يضعوا استراتيجية جديدة تتعاطى مع الوضع الجديد، وكل ما فعلوه، هو إظهار المودة، مع الاستمرار في نفس الاستراتيجية السابقة.

 في الجهة الروسية تم حل حف وارسو العسكري، وفي الجهة المقابلة تم الاحتفاظ بحلف الناتو، فضد من كان يستعد؟ 

إنه ضد روسيا وكل من يحاول الابتعاد عن تحالفات الناتو.

 وفي فترة تودد روسيا الجديدة للغرب، تقدمت له بطلب الانضمام لحلف الناتو، وتم رفض الطلب، لأن الغرب في حاجة إلى عدو، للحفاظ على وحدته وتواجده وتمدده. وفي ذلك مآرب اقتصادية ومالية وتجارية.

تسخير حلف الناتو إمدادات المرتزقة في أوكرانيا لأتون الحرب، وإمداداته بكل أنواع الأسلحة الفتاكة الفردية والمتوسطة، ليست إلا محاكاة لتجربة اسبانيا، والحال أن الوضع الحالي مختلف جذريا عن حالة اسبانيا، إلا ما يتعلق بتوفير مرتزقة من أجل المال، وفي الجهة الأخرى البحث عن متطوعين بدون مال. وما شجع حلف الناتو على فتح هذا الباب (حشد المرتزقة) هو أنها تعتقد بأن حالة المد الفكري الإنساني الذي حملته القوى التقدمية والاشتراكية في ذلك الوقت في تجربة اسبانيا قد تضعضع، خصوصا وأن روسيا اليوم دولة رأسمالية، لا يمكن أن تجد أي تعاطف من ذلك الفكر الذي يلعق جراحه بفعل الضربات التي تلقاها من كل مدفعيات الرأسمالية، الحربية والسياسية والاقتصادية والإعلامية.. ومع كل ذلك فإن روسيا في حقيقة الأمر لن ينقصها التضامن والتعاطف، رغم أنها دولة رأسمالية، وستجد متطوعين ولو أنهم سيكونون من طينة أخرى، مختلطة في الثقافات، وليس بالضرورة أن يكونوا على شاكلة المتطوعين في اسبانيا.

ما نسيه قادة الحلف أن نجاح فرانكو في الحرب الأهلية بمساعدة المرتزقة، كان سببه الأساسي هو عدم اقتناع ستالين بأهمية اسبانيا البعيدة، وبكون خطوط الإمداد لدعم الثورة كانت طويلة، وتمر عبر مناطق غير موالية لروسيا. ولذا كانت المساعدة غير فعالة ومنقوصة عن عمد، لكن الآن، في أوكرانيا، الخطر المحدق بروسيا يوجد عند حدودها، ومنذ عقود والناتو يزحف إلى الحدود عسكريا واستخباراتيا… وخطوط الإمداد هذه المرة غير مؤاتية لأمريكا. أما بالنسبة لروسيا فهي في مرمى حجر فقط.

 ولكي يفهم القاريء معنى تقدم الناتو عسكريا حتى حدود روسيا، هو أن هناك اتفاقات أثناء مفاوضات توحيد الألمانيتين، على أن لا يتمدد الحلف شرقا، وعلى أن تبقى الأسلحة الاستراتيجية في مكانها بعيدا عن حدود روسيا. 

ما حصل هو أن الحلف صنع أسلحة نووية تكتيكية وصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة المدى، وحتى روسيا صنعت هذه الصواريخ، لكن لم تدفع بها عند حدود الناتو. في السابق كان الصاروخ البعيد المدى هو الذي يحمل القنبلة النووية، لكن الآن حتى تلك الصواريخ القصيرة المدى والمتوسطة المدى يحملانها.

 ماذا سيترتب عن هذا؟

 سيترتب عنه أن هذه الصواريخ إذا أصبحت قرب الحدود ستكون خطرا كبيرا على روسيا، لأنها تستطيع بلوغ موسكو في أقل من خمس دقائق، على عكس الصواريخ الطويلة المدى التي يستغرق بلوغها الأراضي الروسية وقتا طويلا، تتمكن معه أجهزة الرصد الروسية من كشفها وبالتالي تدميرها.

 ومعلوم أن هذه القنابل النووية التكتيكية تختلف عن الاستراتيجية، من كون الأولى يمكن أن توجه إلى هدف صغير الحجم ومحدد، وليس إلى مدينة بكاملها، مع العلم أن الإشعاع سيصيب المدينة، لكن ليس بمثل الإشعاع الذي تحدثه القنابل النووية الاستراتيجية. كما أن الصواريخ القصيرة المدى والمتوسطة يمكن أن تكون خطرا كبيرا وتبلغ أهدافها في دقائق معدودة في حرب تقليدية، أي ليست حربا نووية بحيث أن نشر تلك الصواريخ على الحدود الروسية معناه التوفر على كثافة نيران هائلة ضد روسيا. 

ماذا يجعل روسيا قادرة على توفير متطوعين وليس مرتزقة كما هو الحال بالنسبة للناتو؟ صحيح روسيا دولة رأسمالية، لكن ليس من العلم في شيء أن نقول تبعا لذلك أن العلاقات الفكرية والثقافية والذهنية في المجتمع، قد انقلبت رأسا على عقب من علاقات مطبوعة بأفكار الثورة على الإمبراطورية الروسية الى نقيض تلك الأفكار، من الأكيد أن الشعب الروسي عندما ضج من قبضة الحزب الواحد، ومن الأوليغارشية التي ولدها، كان يريد الأحسن، وكان يعتقد الكثير من الشباب أن الرأسمالية ستجيب عن تطلعاته، ولكن أولا، خاب الأمل، وثانياً ليس كل الشعب مع أفكار الرأسمالية في ذلك الوقت.

 نقطة أخرى هامة، نحن نعرف أن روسيا عندما تمت الانعطافة إلى الرأسمالية، لا توجد بورجوازية في البلاد، كل الثروات كانت في يد الدولة، ولما بدأت الخوصصة في كل بلدان الاتحاد السوفياتي لم يستفد منها إلا جماعات الجريمة المنظمة، لكونها هي التي تملك المال إذاك، واستفاد كذلك الرأسمال الأجنبي.

  إذن ما هو موقع أوساط أجهزة الدولة، من جيش ومن استخبارات، التي جاء منها الرئيس الحالي؟ 

هو موقع المتابع في البداية للأحداث والتطورات، وفي ما بعد  التدخل.

هل هذه الأوساط أصبح لها فكر رأسمالي مماثل للفكر الرأسمالي المتوحش، الذي يسيطر على أوساط أجهزة الدول في حلف الناتو؟ 

من الصعب اعتقاد ذلك. حالة دول الاتحاد السوفياتي فريدة من نوعها في التاريخ المعاصر، وإن كان لها شبيه في التاريخ القديم، أي مقاومة الأفكار القديمة في المجتمع ذات البعد الأكثر تقدما للأفكار لتي يفرضها تحول اقتصادي، ما يعادي تلك الأفكار القديمة التي تستطيع أن تعود من جديد  ومن المسلم به أن البورجوازية الروسية الحالية ذات الأصل المافيوزي، ستعرف من أجهزة الدولة عقابا شديدا إذا ما حاولت أن تقوم بمغامرة ما لفائدة الناتو، وستعود ملكية الثروات من جديد إلى الدولة. 

في روسيا الآن لا يمكن أن نقول أن الثقافة الرأسمالية هي الثقافة المسيطرة، ولو أن القاعدة الاقتصادية تغيرت وأصبحت رأسمالية، ولا يمكن أن نقول أن الثقافة المسيطرة هي الثقافة السابقة، بل هي ثقافة هجينة، بدون انسجام وتناسق، وتحاول أن تبحث لنفسها عن التناسق. ولكن الأفكار القومية للسلاف المهددة في وجودها، يمنعها أن تستعيد البعد الإنساني الذي كان لديها، مع تسجيل أنه لم يذهب تماما إلى متحف التاريخ.

في مؤسسة الجيش، نحن نعرف أن عقيدته انبنت على عقيدة الجيش الأحمر، وهو مع كل الخضات التي عرفها ليس مماثلا لجيوش الناتو التي ورثت العقيدة الاستعمارية، لهذا يمكن لنا أن نتتبع تدخلاته العسكرية في كل الأماكن التي تدخل فيها، نجده لا يمكن أن يجعل المدنيين هدفا عسكريا، أو أن يتقدم بإحراق القرى والمدن والحيوان  وحتى التعامل مع الأسرى تجده يحترم اتفاقية جنيف. 

لهذا أعتقد جازما أن مسارعة الناتو غلى تكرار تجربة اسبانيا، في اللجوء إلى المرتزقة، سيعرف فشلا ذريعا، لأن روسيا، ولو أنها لا تملك الدولار لتوزعه ذات اليمين وذات الشمال، فهي لم تترك خلفها تاريخا استعمارياً. في حين أن جيوش الناتو تركت في كل القارات تاريخا أسود، تتكلم عنه المجازر والمذابح، منه حتى ما جرى في هذا العقد الاخير. ولا يمكن أن ننسى كيف هدم الجيش الأمريكي بدير الزور والحسكة على ساكنيها، ليرغم بضعة مئات من داعش للاستسلام، أو أن ننسى ما حل ببغداد، وما حل ببيروت وغزة، من قلب سافلها على أعلاها بمباركة الناتو. 

من العادي أن تجد روسيا تعاطفا للدفاع عن دنباس، التي قاومت ميليشيات النازية الجديدة بدعم من الحكومة الأوكرانية والاستخبارات الأمريكية، والحرب الإعلامية ضد روسيا في الجزء الأكبر منها هي ألا تلقى روسيا أي تعاطف.

من الذكاء الدعوة للتطوع في دنباس، وليس أوكرانيا، لأنه كيفما كان الحال، ولو أن الناتو هو من بدأ الحرب منذ ثماني سنوات، فإن القانون الدولي الذي يمنع التدخل في سيادة دولة يجعل التطوع في أوكرانيا ككل، مسألة غير مقبولة، مع العلم أن الناتو لما لا يجد ما يقدمه للعالم على أنه مس بالأمن القومي لأي دولة من دوله، يخلقه خلقا. مثل ادعاء أن العراق يملك النووي، ومثل ما ادعته أمريكا من خزعبلات كثيرة، لم يثبت حتى على واحدة، للتدخل في سوريا، مثل ادعاء حماية الشعب السوري من نظام الأسد.

* كاتب وناشط سياسي

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة