عنف إلغاء الوسائط

عنف إلغاء الوسائط

عبد الرحيم ازرويل

لا يمكن للمتتبع للشأن السياسي في المغرب إلا أن تسائله الأحداث التي تقع في المباريات الدورية لكرة القدم. فما أن فتحت الملاعب في وجه المتفرجين – بعد انقطاع دام عامين بسبب وباء الكوفيد – حتى اندلع عنف لا سابق له ضد مناصري الفريق – الخصم – ، بل ضد رجال الأمن، المفروض فيهم درء كل تجاوز من هذا القبيل.  

وغير فاقد للقيمة أن نستحضر أن الملاعب عرفت منذ مدة غير قليلة، ظاهرة التعبير عبر لافتات مكتوبة وأهازيج تؤديها جماعات “الألتراس”، وأفرادها يعدون بالآلاف، في عرض مشهدي يعبر عن غبن جماهيري إزاء السلطة والطبقات الميسورة. 

ما سر هذه الظاهرة؟ 

ألا يوجد أي منفذ للسخط الاجتماعي سوى مدرجات الملاعب؟  

ألا يدل ذلك عن إفلاس الهيئات السياسية، المفروض فيها التعبير عن مطالب الجماهير وتقنين سخطها بطرق يقبلها الصراع السياسي السليم؟ 

 ثم قبل ذلك، ما سبب غياب الوظيفة المنبرية للأحزاب السياسية في المغرب، أو في غيره من البلدان العربية؟ 

لا تقصد هذه الاسئلة تحميل الأحزاب السياسية مسؤولية التخلي عن التمثيلية، وهو اتهام لطالما قام به معلقون و”زاعمو علم” يخدمون مصالح الحكام، بل المقصود هو التساؤل عن السيرورة التي أدت إلى هذه الوضعية غير الصحية. 

منذ نهاية التسعينيات تمَّ القضاء على الوظيفة المنبرية للأحزاب السياسية المغربية، بواسطة سياسة “العصا والجزرة”، بعد عقود من القمع المباشر، حين تمّ تدشين أسلوب “إشراك” النخب السياسية المعارضة في السلطة السياسية بشكل مبتور (مشاركة تقف عند حد تدبير هامش ضيق من التنفيذ). تحولت “المشاركة” إذن إلى “شبه مشاركة”، حيث لم يكن بيد الأحزاب “المتناوبة” اتخاد قرارات  تنسجم مع مشاريعها الأصلية ووعودها الانتخابية. ودُفعت هذه الأحزاب إلى التخلي عمليا عن وظيفتها التمثيلية، أو قل المنبرية على الاقل “fonction tribunitienne”، (وظيفة ظهرت في روما في عهد الجمهورية لجعل ما كانت الأرسطقراطية تعتبره عوامّاً plèbe – لجعلهم يشعرون أنهم ممثلون فيما يعبر عنه خطباؤهم، ومتماهون مع شعارات ورموز يرفعها هؤلاء). 

لم تعد الأحزاب السياسية إذن تقوم بدور التمثيلية لقوى اجتماعية متعددة الانتماءات الطبقية والهوياتية والفئوية أحياناً؛ بل وافق هوى الدولة ومخططها، هوى فئات مهمة من النخب السياسية المعارضة، التي “سئمت الانتظار” وانقادت وراء “عرائس بحر” الدولة.   

النتيجة الحتمية لهذه السيرورة هي مجتمع فاقد لأي مشروع مجتمعي بديل، فاقد للثقة في الهيئات والنخب التي كان من المفروض أن تعبر عن مطالبه، بل عن سخطه أحياناً. ولعل هذا السخط غير المعبر عنه سياسياً هو الذي يتم تصريفه في الملاعب وفي شتّى الحقول الاجتماعية. هو تصريف لخيبة الأمل في من يفترض فيهم تمثيل القوى السياسية الثاوية تحت أديم الظاهر، الذي لا يأخذ وجه العنف المدمر فقط، بل أخذ وقد يأخد وجهاً سياسيا: اللجوء إلى التطرف السياسي القاتل، أو اللجوء إلى ممثلين سياسيين جدد (الحزب البِكرُ الذي لم يشارك في الكوميديا السياسية)، وقد يجرفهم حس ديني أو لغوي أو وجه معبر عن مصالح منطقة تشعر بضغينة تاريخية. ولنا فيما تلا الحراك الشعبي إثر انتفاضات “الربيع العربي” خير مثال عن هذا النوع من المفعول المعكوس l’effet pervers لهذا الانسداد السياسي (حركات مسلحة جذرية في خطابها وممارساتها، انتصار الأحزاب الدينية في الانتخابات، عودة الانقلابات العسكرية كرد فعل عن انبثاق القوى السياسية الدينية، تدخلات عسكرية امبريالية…)  

مما سبق، نستطيع أن نفهم منبع الظواهر التي تساءلنا حولها في البداية: كل قوى لا تتأطر سياسياً أو عن طريق جمعيات المجتمع المدني التلقائية، تسير حتماً إلى الانفجار العنيف، خاصة إن كان الكبت السياسي يجلس على قِدْرِ الحرمان الطبقي ومِرْجل الإحساس بالظلم والضغينة ضد الظالمين. إن التمثيلية والتأطير السياسي أمران هامّان بشكل مفصلي، ولكن الأوضاع الاجتماعية التي يسِمها شعور بتفاوتات طبقية فظيعة هي التي تشكل شرارة لكل انفجار محتمل.

  لا يغطي هذا المقال الشغب الفائق في الملاعب المغربية من حيث عِلله البعيدة (التي قد يرى البعض أنها مجرد ظاهرة “هوليغانية”، تحصل في كثير من الأقطار حتى الديموقراطية منها)، بل إننا نحاول التفكير في ظواهر العنف التي تتجلى في كثير من الحقول، والتفكير في الداعي إلى رفع شعارات ذات طابع احتجاجي جذري من طرف آلاف المتفرجين، وكأن لا مكان للتعبير عنها سوى الفضاء الذي يسمح فيه بالتجمهر بشكل شرعي.

  لماذا يلجأ الشباب إلى تحويل  فضاء اللعب إلى فضاء للاحتجاج وتصريف العنف، إن لم يكن السبب كامناً في فراغ الفضاء السياسي، من هيئات تمثيلية تقدم خطابا يتماهى معه “الجمهور”؟

  ثم من المسؤول عن وأد دور الهيئات السياسية في تأطير المجتمع وتربية قواه في اتجاه تنافس سياسي سلمي؟ 

 الخلاصة، هي إن أي دولة في العالم العربي ليس باستطاعتها أن تجد مخاطبا سياسيا عند الحاجة إليه، لحظة الأزمة الخطيرة، لأن أنظمة هذه الدول ألغت ، عنفا أو إرشاءً، وأقبرت كل الوسائط.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم ازرويل

إطار تربوي وناشط سياسي من المغرب