رفقا بهذا الوطن كي لا يصاب بالجنون.. من كثرة “مُحبيه”

أحمد الجلالي – صحفي مغربي، رئيس تحرير موقع “الشوارع” www.achawari.com

 يوجد بيننا كائن أسطوري يسمى الوطن وله أبناء قلائل من جملتهم الوطنية والغيرة وحوزة الأرض وصيانة العرض والتضحية والاستشهاد دفاعا عنه.. وهذا واسطة العقد في ذرية عزيزنا وأبينا “الوطن”.

 وللوطنية كقيمة مجردة عن كل مقابل أو ثناء أو ادعاء تفرعات وأحفاد، هم أشخاص ذكورا وإناثا ممن يخدمون الوطن في صمت وتجرد وتواضع، وقد لا نعرفهم بالاسم، لكنهم موجودون يمشون في الشوارع ويتسوقون ويربون أبناءهم ويؤدون وظائفهم بمختلف المواقع، ولا يرجون من الناس جزاء ولا شكورا عن تضحيات تتخطى حاجز الأجرة والتعويض المالي، إلى مستويات لا يتمثلها أبدا المؤلفة قلوبهم، ولا المعلفة جيوبهم وأرصدتهم.

 هؤلاء يعرفون قدرهم حقا وهم من يعيشون الحياة بمعناها الحقيقي. أليس “عاش” من يعرف قدره؟

 وكما للوطن أبناء بررة، وهم قلة قياسا بمن دونهم روحا وعزيمة، فإن له أدعياء، ولو كان للوطن لسان لنطق واشتكى لنا كيف يكاد يصاب بالجنون أمام كل هذه “التعبيرات” في حبه. 

وحب أدعياء الوطنية يصيب فعلا بالخبل إن تأملناه بمنطق الوطن الصامت:

 هناك من يحبه الوطن الذي يوفر له كل فرص النهب والسلب والإفلات من العقاب.. ولكنه يكره الوطن بذات نفسه إن حدثه بلسان من أين لك هذا… يا هذا؟ هنا يستبشع الوطن ويستقبحه وينتصب مستعدا لتدميره.

 هناك من يحب الوطن الذي يقبر الكفاءات والمواهب ويجعله مستحكما في مصيرهم، لأن وجودهم إلى جانبه أو أمامه يجعله عاريا تماما ويتحرك تحت شمس الحقيقة ومعايير إسناد المواقع والمسؤوليات إلى أهلها.

 هناك من يحب الوطن الذي يتيح له عقد الصفقات، إما تحت ظلام الطاولات مسدولا عليها جناح الليل الحالك، أو تحت ستائر سميكة من الضباب الضجيج وجلبة خلط الأوراق.

 ثمة من يعشق الوطن الذي لا يمانع في تركه يغتصب القوانين والمساطر واللوائح، حتى يلوي عنق الدستور ويطوع قبضة القانون ليمرر ما يشاء.

 ثمة من يعشق الوطن الذي يوفر مواد التنويم المغناطيسي للشعب كي لا يستفيق إلا لينام عن أمور محددة. وتعرفون طبعا اسم “مهنة ” من يحب “الاشتغال” والبشر نيام.

 ثمة من يموت حبا في الوطن بشرط أن يأخذ منه كل ما يشاء دون أن يقدم له شيئا: لا إعانات ولا ضرائب ولا رسوما ولا هم يحزنون.

 وهناك من يعبرون للوطن عن حبهم بطريقة عاطفية شاذة، عبر ممارسة العنف عليه ومضاجعته بقسوة ووحشية “تعبيرا” عن عاطفة “مختلفة”.

وإلى جانب أولئك، يوجد من يفضل أن يعامل هذا الوطن بأسلوب “المشرمل” الذي يشتهي ترك ندوب على محيا الوطن لتخلد ذكرى مروره من هنا إلى الأبد.

 ومنهم من يعامل الوطن كقاصر، فيفرض عليه الوصاية المستمرة مادام لا يعرف مصالحه، ويعتبره غرا وجب الحجر عليه إلى أن يبلغ أشده.. دون تحديد تاريخ ولا علامات لهذا الرشد المزعوم، ليبقى الحال على ما هو عليه وتلك الأمنية والخطة والمراد يا مراد.

 وبين القوم طائفة أراحت نفسها وضميرها من وجع الوطنية المكلف للطاقة والمتلف للأعصاب، واختصرت الطريق كله في التعبير مناسباتيا عن “وطنيتهم” عبر هتاف أو تشجيع فريق وطني في رياضة شعبية… والسلام.

 بربكم، أليس هناك أكثر من مدعاة ليصاب هذا الوطن المسكين بالجنون، من كثرة جحافل من يعلنون حبهم له وهم ألذ الخصام وأشد من يعجلون له بكل أنواع السكتات القلبية والدماغية والمناعية؟ 

أمس، مثلا، احتفل المغاربة بفوز فريقنا الوطني وتأهله لنهائيات كأس العالم بقطر، وعبر كل بطريقه عن لحظة فرح شعبي غابت زمنا طويلا..

إنه لأمر جميل وجيد أن نعيد للذاكرة مشاهد انتصارات وحماس وطني يجب أن يستمر، لكن الأجمل منه أن ندرك أن الأمر في النهاية لا يعدو كونه احتفالا.. وحتى لو فزنا بكأس العالم فسيكون الموضوع سابقة مبهجة تستحق الفرح يوما أو أياما حتى لكنها لن تتجاوز كونها احتفالا في النهاية.

 وفي غمرة الفرح بالفوز على فريق الكونغو برزت أصوات، على قلتها، لتذكر من يهمهم الأمر أن الانتصار لن يغطي على اختلالات جامعة الكرة ومدرب فريق الكرة.. ومن رفعوا صوت النقد لا يقلون وطنية عمن أخذهم زهو الفرحة، بل لعل وطنيتهم أكثر تجذرا من الطائفة الأولى…

هذا مثال عسى أن يتضح به المقال.

في واحد من الأسفار التي قادتنا إلى صحرائنا العزيزة، عدت جوا من العيون إلى البيضاء ذات مساء ربيعي منعش. وكان برفقتي طوال رحلة العودة شخصية صحراوية بارزة.

 وفي الطريق من مطار البيضاء إلى العاصمة ليلا عبر السيارة، استمزجتني تلك الشخصية حول رأيي في أهل الصحراء، “بما أنك حاورت الكثير منهم وشربت برفقتهم الكثير من كاسات الشاي”.

 كان السؤال على بساطته الظاهرية فخا، أو هكذا خلته، فكانت إجابتي ممزوجة بالحذر والدبلوماسية وغير قليل من القسوة فقلت مجيبا: في كل أرض حجر وطوب كما يقال، وأحكام القيمة ليست ما يمتعني. ولكن إن كان السؤال يقصد الولاء للوطن فلا حق لي في قياسه عبر حكم جاهز. فما يعبر عن الوطنية والولاء هي المواقف، سيما في أوقات الشدة”.

 ران صمت وصدرت من “الشخصية” نظرات تقول إنه يصغي لي ويريد المزيد فأضفت التالي: “.. أما أن أكون معك مادامت مصلحتي معك إلى أن يحصل العكس، أو أظل مرحليا معك في انتظار أن تدفع أكثر، أو أعلن رفضي لك مادمت لا تدفع إلى أن تفهم وتدفع… فوالله ما هي من الوطنية في شيء، سواء في من الصحراء أو في قلب الرباط والبيضاء أو بوجدة شرقا.. إلى طنجة شمالا”.

 مرة أخرى ساد بيننا صمت “متأمل” تلته عبارة حسانية محببة إلى قلبي: “حڭ بعد..”.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة