حدود المثقف

حدود المثقف

عز الدين العلام

بعيدا عن تحديد مفهوم المثقف الذي يثير ولا يزال نقاشات عدّة، نكتفي بالتساؤل هنا عمّن يمكنه أن يحمل هذه الصفة في المغرب الراهن. هل يكون المتعلّم الذي يحمل همّا عموميا؟ هل هو الأكاديمي المنشغل بتخصّصه المعرفي؟ أم تراه يكون الحافظ لأحكام الشريعة يتلوها على الناس؟ وهل يكون هو الأديب أو الشاعر المنفرد في عالمه الخاص؟ أم هو ذاك الخبير المجنّد لخدمة هذه المؤسسة أو تلك؟ وهل يكون هو المناضل الذي يتحوّل معه المكتوب إلى منشور، والتحليل إلى خطابة، والنقد إلى دعوة؟ الواقع أننا اعتدنا في الغالب أن نتحدّث عن المثقف والمثقفين بصيغة الجمع، وهم في حقيقتهم فرادى يكاد لا يجمع بينهم شيئا.

 لو أخذنا بعين الاعتبار السياق الخاص لنشأة هذا المفهوم، لصعُب علينا تماما أن نعثر في تاريخنا عن هذا المثقف بالمعنى الحديث للكلمة  “L’intellectuel”. فمن أهمّ السمات التي لازمت المثقف بمفهومه الحديث، يمكن ذكر سمتين أساسيتين، الاستقلالية والروح النقدية. وهما صفتان لا تنطبقان على غالبية أسلافنا من “أصحاب القلم” الذين كانوا جزءا لا يتجزّأ من حاشية السلطان، وكانوا بطبيعتهم محافظين وخدومين. وفي أقصى الحالات، فإنّ ما عرفه المغرب، على غرار باقي الرقعة العربية الإسلامية، هو “الفقيه” القريب من الرعايا، والمجنّد لحلّ قضاياها الدينية واليومية، معاملاتها وعباداتها.

 واليوم، أعتقد أنه يمكن الحديث في مغرب الاستقلال عن فترتين. فترة أولى امتدت ما يربو على ثلاثة عقود، ميزتها هزال الفكر وانكماش أصحابه، ليس فقط بسبب الاستبداد السياسي الذي يعرفه الجميع، وإنما أيضا، وموضوعيا، بسبب غياب المثقفين أنفسهم، ناهيك عن هشاشة محيطهم المجتمعي. وفترة ثانية لا زلنا نعيش إرهاصاتها، تتميز بنوع من الانفتاح السياسي المحسوب العواقب… ومن الطبيعي أن يستفيد المجال الثقافي من الحريات التي يسمح بها “العهد الجديد”، وضرورات ما سمّاه الجميع بالانتقال الديموقراطي.

 ومع كلّ الهشاشة التي تميز الحقل الثقافي، لا يمكن للمرء إلاّ أن يستعجب من تغذية الوهم الشائع بأنّ المثقف صاحب دور كبير في مسار التغيير الاجتماعي والانتقال الديموقراطي. أسميته وهما، (أو لنقل على الأقل أن هذا الدور المنسوب له هو أكبر منه بكثير)، لأني أومن بأن التغيير المجتمعي وصيرورة الانتقال الديموقراطي مرهونان بصراع القوى الاجتماعية، وليس بما يدور في دماغ هذا المثقف أو ذاك وهو جالس إلى مكتبه. وفي جميع الأحوال ليس المثقف حزبا سياسيا، أو طبقة اجتماعية، ولا هو بالأحرى صاحب قرار حتى يمكنه تغيير بنيات المجتمع وقنوات السلطة. في هذا السياق، وعلى عكس ما قد يظن البعض، يمكن القول إن الانتقال الديموقراطي هو الذي يخدم قضية المثقف، أكثر ما يمكن لهذا المثقف أن يخدم قضية الديموقراطية.

لقد اعتدنا أن ننظر إلى المثقف كقيمة إيجابية، وهو ليس دائما كذلك، إذ غالبا ما يبدي ترددا مرضيا وجبنا لا مبرّر له في العديد من القضايا. والكثير منهم يحرّك قلمه بعد فوات الأوان (أعني بعد أن يكون المجتمع نفسه قد حسم في هذه الواقعة أو تلك دونما طلب مساعدة منه). ويكفي أيضا العودة إلى الكثير ممّا كتبه مثقّفو المغرب لترى المسكوت عنه يفوق بكثير المصرّح به. 

   وفي جميع الأحوال، ليس من مهام المثقف توجيه المجتمع أو قيادته على منوال خرافة الطليعة اللينينية، بقدر ما تكمن مساهمته الحقيقية في التماس المعرفة والتسلح بالروح النقدية في إدراكها. وليس وضع المثقف، ولا هو بقادر على ذلك، أن ينتصب فوق المجال السياسي ليُصدر الفتاوى، وإنما البحث في الآليات التي تتحكّم في هذا المجال، وإبرازها بكلّ جرأة، وتبيان الأسباب والعلل التي تجعل من هذا السلوك السياسي أو ذاك على ما هو عليه. وبكلمة، ليس مطروحا على المثقف تغيير المجتمع، وما أدراك ما تغيير المجتمع، بل إنّ المثقف، بعمله على تغيير ما بنفسه أوّلا، وتصدّيه لثقل التقليد الجاثم على صدره ثانيا، ومحاربته لازدواجيته ثالثا، يكون قد أدّى خدمة للانتقال الديموقراطي على المدى البعيد، اعتبارا لطبيعة الزمن الاجتماعي الذي يتفاعل معه، والمخالف للزمن السياسي المحكوم بإرادة الفاعلين فيه.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين العلام

باحث وأكاديمي مغربي