موقفُ مدريد الجديد من مغربية الصحراء.. المشكل بات إسبانيا – إسبانيا
عبد السلام بنعيسي
تعيش الطبقة السياسية الحاكمة في إسبانيا هذه الأيام انقساما حادا. يتجلى الانقسام حول كيفية تعاملها مع ماضيها الاستعماري، وحول علاقتها بجارها المغرب. فإذا كان رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز بادر إلى تأييد مقترح المغرب منح المنطقة المتنازع عليها في الأقاليم الصحراوية المغربية حكما ذاتيا، فإن البرلمان الإسباني قد رفض هذ التأييد، ووصفه بكونه، يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأصرَّ البرلمان الإسباني على التمسك بتنظيم الاستفتاء في الصحراء المغربية.
فنحن أمام موقفين متناقضين، الجهاز التنفيذي الإسباني اتخذ قرارا سياسيا متناغما مع ما يريده المغرب، والجهاز التشريعي الإسباني أعلن عن قرار معاكس لما صدر عن الحكومة التي يفترض أنها منبثقة عنه، فالمشكل حاليا بات إسبانيا / إسبانيا، وليس إسبانيا مغربيا، إنما الملاحظ هو أن السيد بيدرو سانشيز في قراره المستجد هذا يحاول أن يساير المتغيرات التي حصلت بخصوص ملف الصحراء المغربية، في حين لا يزال اليمين واليسار المتطرف في إسبانيا متقوقعا في ماضٍ أضحى متجاوزا.
لو كان الاستفتاء خيارا ممكنا لتم تطبيقه منذ أن اقترحه المغرب في نيروبي سنة 1981، الجسمُ الانتخابي الصحراوي لم يعد كما كان في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، أغلبية من كان يحق لهم التصويت انتقلوا إلى جوار ربهم، تحديدُ الساكنة التي يجوز لها التصويت في الاستفتاء تعذّر إنجازه منذ الشروع في تحديده، لم يعد من الممكن تطبيق الاستفتاء…
ولذلك اقترح المغرب مبادرة الحكم الذاتي، التي حظيت، مع مرور الوقت، بتأييد الرأي العام العالمي، إلى أن صارت اليوم، محلَّ ترحيب من كبريات العواصم العالمية، بما فيها واشنطن وبكين ولندن وباريس وبرلين، وحتى موسكو لم تعترض على القرار 2606 الصادر عن مجلس الأمن، الذي نوّه بمبادرة الحكم الذاتي المغربية، واعتبرها واقعية وذات مصداقية وتشكِّلُ أرضية مناسبة لحل النزاع، فما كان من رئيس الحكومة الإسبانية إلا مواكبة هذه المتغيرات وتأييد تلكم المبادرة هو كذلك.
في موقفه الجديد هذا لا يُقدِّمُ بيدرو سانشيز هدية مجانية إلى المغرب، ولا يتكرم عليه بتنازلٍ من عنده، الرجل يريد أن يساير التطورات التي يعرفها ملفُّ الأقاليم الصحراوية، لكي يحافظ لبلاده على المصالح الضخمة التي لديها في المغرب، موقفُ رئيس الحكومة الإسبانية نابعٌ من قراءة متأنية للاتجاه الذي تمضي فيه الأحداث، إنه يتابع ويقرأ الترتيبات التي يتمُّ إعدادها للإقليم، خصوصا بعد اعتراف الإدارة الأمريكية بمبادرة الحكم الذاتي مع ما ينجم عن ذلك من حضورٍ أمريكي كثيفٍ في الصحراء…
بتأييده لمبادرة الحكم الذاتي كما يقترحها المغرب، يريد بيدرو سانشيز لبلده أن يكون عنصرا حاضرا ومستفيدا من المجريات التي يعيشها الإقليم، وأن يضع نفسه في سياقها لكي لا يكون بلده بعيدا أو مبعدا عن الصفقات التي سيتم إبرامها عن الثروات التي تزخر بها الأقاليم الصحراوية. في اعترافه بمغربية الصحراء يبحث رئيس الحكومة الإسبانية عن مصلحة بلده، ويجري من ورائها، فهذا هو هاجسه الأول في موقفه الجديد من الأقاليم الصحراوية المغربية، لو كانت الرياح تجري في تجاه تنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية بما يؤدي إلى انفصالها عن المغرب، وإنشاء دولة فيها، لكان رئيس حكومة إسبانيا من أشد المؤيدين للاستفتاء، ومن المتحمسين للدولة المنتظرة…
من هذه الزاوية يتعين النظر إلى القرار المستجد الذي اتخذه بيدرو سانشيز والقاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء، أما موقف البرلمان الإسباني، بيمينه ويساره المتطرف، فإنه لا يعدو كونه مزايدة سياسوية ومناكفة ضد الحزب الحاكم، أو حنينا إلى الحقبة الاستعمارية التي لم يتخلص منها بعض الإسبان إلى الآن، في تعاملهم مع المغرب، إنهم يريدون للمغرب أن يكون دائما مقسما وضعيفا، وأن يظل تحت سيطرتهم ونفوذهم.
فالمطالبة بإجراء استفتاء تقرير المصير آلية لم يحترمها الإسبان أنفسهم، فلقد تم سنة 2017 إجراء استفتاء لتقرير المصير في إقليم كاتالونيا، وصوتت الأغلبية الكاتلانية في الاستفتاء، للاستقلال عن إسبانيا، وخرجت مظاهرات عارمة في الإقليم تطالب باحترام نتائج الاستفتاء، ولكن السلطة المركزية الإسبانية رفضت إجراء الاستفتاء، والنتائج المترتبة عنه، رفضا مطلقا، وسحقت المظاهرات المؤيدة لنتائجه سحقا، وزجت بالقيادات الكاتالانية في السجون، وحظي موقفها هذا، بتأييد مطلق من أوروبا وأمريكا، وضُرب عرض الحائط بنتائج استفتاء تقرير المصير، فلماذا البرلمان الإسباني يريد أن يفرض على المغرب ما لم يُلزم به دولته؟؟ أليست هذه هي ازدواجية المعايير؟؟؟
البرلمان الإسباني الذي ينادي باحترام قرارات هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي في الأقاليم الصحراوية المغربية، هل قرارات الأمم المتحدة تجيز لإسبانيا استمرارها في احتلال المدينتين المغربيتين سبته ومليلية والجزر الجعفرية؟ هل قرارات الأمم المتحدة كانت تبيح لها احتلال شمال المغرب وجنوبه لعقود طويلة واستنزاف ثرواته ونهبها، وقصف ساكنته بالسلاح الكيماوي في حرب الريف الشعبية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهزم فيها القوت الإسبانية، وكاد يطردها من الشمال المغربي، لولا تحالفها مع القوات الفرنسية، وقصفها بالطائرات لثوار الريف بالسلاح الكيماوي؟
ألا يحق للمغرب، طبقا للقوانين الدولية المطالبة بتعويضات عن حقبة الاستعمار، وعن الأضرار الناجمة عن قصف ساكنته بالأسلحة المحرمة دوليا، القصف الذي لا تزال الساكنة الريفية تعاني من تبعاته إلى حدود الساعة في شكل أمراض السرطان المتوارثة من الأجيال السابقة؟؟؟
المغرب وإسبانيا بلدان متجاوران، ودكتاتورية الجيرة تفرض عليهما التعاون والتعايش بينهما، واحترام كل واحدٍ منهما حقوق الآخر وعدم التطاول عليها، وأن يعالجا الخلافات والنزاعات التي تنشب بينهما، بالحوار الهادئ والمتزن، ولعل هذا ما تجلى في قرار بيدرو سانشيز، اعترافه بمغربية الصحراء، وفي الاستقبال الباذخ الذي خصَّهُ به العاهل المغربي محمد السادس.
أما نواب البرلمان الإسباني الذين عارضوا تأييد رئيس حكومتهم لمبادرة الحكم الذاتي، فإن عليهم التخلي عن نظرتهم الاستعلائية تجاه المغرب، وعن نزعتهم المتغطرسة ذات الميول الإملائية للشروط عليه، فالمغرب ليس ضعيفا، كما قد يتوهمون، لكي يقبل من الإسبان سلوكهم المتعالي تجاهه، فلديه أوراق كثيرة يمكن له استعمالها ضدهم، بشكلٍ يوجعهم، إن حاولوا أن يوجعوه. مصلحة الشعبان الجاران تقتضي منهما التعاون، وليس التناحر…