لبنان الجديد يمر عبر “بيروت الكبرى”
د. سمير زعاطيطي
دعيت إلى اجتماع عند صديق لي مع عدد من وجوه المجتمع البيروتي، للتداول بشأن العاصمة بيروت والمشكلات الحادة والمتفاقمة التي تعانيها بعد وقت طويل من توقف الحرب الأهلية، واعتماد اتفاق الطائف دستورا للبلاد.
لفت نظري في الكلام المتداول بين المجتمعين وجميعهم من وجهاء بيروت، قضاة، محامون، ناشطون بيئيون، مثقفون، أمر هام، إذ أن الكل تحدث عن بيروت؟ أحدهم عرض مشكلة وربطها ببيروت وآخر عرض مشكلة مختلفة مرتبطة بالعاصمة وهكذا سمعت عدة مداخلات كلها عن بيروت.
بخلفيتي الجيولوجية كنت دائما عندما يحدثني أحد عن منطقة أسحب خرائطي الطوبوغرافية والجيولوجية، لوضع المنطقة في إطارها الجغرافي والجيولوجي، حتى أستطيع فهم خصوصيتها وأخذ فكرة واضحة عن محيطها.
أخذت الكلام في الاجتماع وطرحت السؤال التالي: عن أي بيروت تتكلمون؟ بيروت الإدارية؟ بيروت ما قبل الحرب؟ بيروت الحالية بعد الهجرات المتتابعة أثناء الحرب وبعدها، والتي طالت جنوبي وشمالي موقع العاصمة وغيرت من الديموغرافيا القديمة التي كانت سائدة بأخرى لم ندرسها بعد ولا نعرف عنها شيئا.
لأطرح بعدها رؤيتي بأن بيروت بالنسبة لعلماء الجغرافيا والجيولوجيا، هي وحدة متميزة عن المرتفعات الشرقية. هي بيروت الكبرى هذه الهضبة المنخفضة المثلثة الأضلاع المفتوحة على البحر الملتصقة شرقا بمرتفعات صخرية والتي تبلغ مساحتها التقريبية حوالي 60 كلم مربع. هي وحدة جغرافية متميزة تتوسط بين البحر وبداية الجبل اللبناني هذه هي “بيروت الكبرى”.
هذه البيروت الكبرى ازدادت حاجاتها عما كانت قبل الحرب، لم تعد الكهرباء الماء، الغذاء، السكن الخ.. تكفي سكان هذه الهضبة.
غياب مؤسسات الدولة (القسري أيام الحرب والإرادي بعدها) عن القيام بأي دور لتنظيم الأمور الحياتية لبيروت الكبرى، أدى الى العشوائيات والتشوهات المدنية والتعديات، وصولا إلى الصورة التي نراها حاليا، خاصة على مداخل العاصمة الشمالية والجنوبية وطريق المطار. لا يمكن الكلام برأيي عن مشكلات بيروت و”البيارتة” خارج هذا الإطار الطبيعي.
كل سكان الهضبة تشكو من نفس المشكلات الحياتية اليومية. لا يمكن حل مشكلة هنا وعدم حلها هناك. لذا يجب التخطيط على هذا المستوى “بيروت الكبرى” وليس على مستوى ضواحي أو زواريب أو شوارع العاصمة.
لاشك بأن غياب لبنان واللبنانيين عن العلم والتخطيط العلمي لفترة طويلة (منذ الحرب وحتى الآن) وعدم وجود وزارات وإدارة فاعلة تخطط وتعمل على حل المشكلات، يجعل من تحسين أوضاع بيروت الكبرى مشكلة كبيرة صعبة، يزيد في تعقيدها المنظومة السياسية الحاكمة والتي يريد كل واحد منها حصة فيها.
قرار تنمية بيروت الكبرى وحل مشكلاتها الحياتية هو إذا سياسي بالدرجة الأولى.
متى يؤخذ هذا القرار؟ من له مصلحة في هكذا قرار من السياسيين الحاليين؟ من يراه من الثوار المنادين بالتغيير؟ سؤال ينتظر الجواب؟
الصورة ليست قاتمة الى حد الاستعصاء على الحلول. هناك تجارب إيجابية جيدة حصلت خلال الــ45 سنة الماضية.
سأتكلم عن القسم الذي عملت فيه، وهو إيجاد مصادر مياه جوفية متجددة سنويا لمدن كبرى وضواحيها: صيدا، صور، النبطية وعشرات القرى في الجنوب اللبناني.
من هذه الزاوية طرحت فكرة ومشروع حل مشكلات بيروت الكبرى المائية (منذ خمس سنوات أحاول تمريره.. ولكن لا تجاوب) على ضوء التجارب الناجحة جنوبا بعد التأكد من فشل سياسة السدود.
تنمية بيروت الكبرى، هو قرار سياسي وطني شجاع يعترف بالتقصير السابق ويبدأ بالبحث العلمي لمشكلاتنا وبمراكمة المعطيات وترجمتها إلى توصيات بمشاريع يتم التخطيط السليم لتنفيذها من قبل جهاز جديد يعتمد خبراء جدد مستقلين عن متعهدي الدولة المرتبطين بالسياسيين، أي غير الذين عرفناهم في الإنماء والإعمار والتنظيم المدني ووزارات الحصص والتحاصص والمصالح والمكاتب الهندسية غب الطلب الخ…
بمعنى آخر تلبية حاجات بيروت الكبرى هو مدخل لبناء لبنان جديد قوامه العلم والمعرفة يوضعان في خدمة وطن لحل مشكلات مواطن.